هل الطيبة من عيوب البشر في عصرنا الحالي؟.. ماذا إذا اعتبرها البعض سذاجة مفرطة وبدأ في استغلالك؟، أيصبح الفرد الطيب قديسا، أم أن الموت بطريقة بشعة هي النتيجة لتلك الطيبة؟
“سعيد مثل لازارو”، أو فلنقل رقيق القلب مثل لازارو.. الفيلم الإيطالي الحائز على جائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان 2018، كما ترشح لعديد من الجوائز، حظى باستقبال خاص من الجمهور لدى عرضه ضمن بانوراما الفيلم الأوروبي، الذي تستضيفه سينما زاوية في قلب القاهرة.
يبدأ الفيلم بإعطاء صورة كاملة حول البيئة المحيطة بلازارو “أدريانو تارديولو” حيث قرية “إينفيوليتا” المقطوعة عن بقية مدن إيطاليا منذ زمن، ونحن الأن في النصف الأخير من الثمانينات، لم يهتم الفيلم بعرض الزمن الخاص وترك للمشاهد تحديد الزمن لأحداثه طبقا لما يراه على شاشة السينما.
نحن في النصف الأخير من الثمانينات، في قرية لا تعرف شيئا سوى المتوارث من الجدود، لا شبكة محمول، لا هواتف أرضية، لا وسائل تسلية. كل ما يعرفه المزارعون أنهم مملوكون ويعملون في أرض الماركيزة “دي لا لونا” يزرعون التبغ ويقومون بتربية الطيور والخراف من أجلها، وهي لا تأتي سوى مرة وحيدة في العام، ولا يملكون وسيلة تواصل معها ومع العالم الخارجي سوى نيكولا “ناتالينو بالاسو” المحامي الجشع.
لازارو.. ذلك الشاب رقيق الملامح، يظهر منذ الدقائق الأولى للفيلم، وهو يساعد الجميع، حتى أن المزراعين المستغلون من قبل الماركيزة، يستغلوه، فهو يقوم بكل ما يطلب منه عن طيب خاطر ودون استفسار.
ملامح الممثل ” أدريانو تارديولو” ساعدت في إظهار تلك الطيبة المفرطة، لن تجد طوال الفيلم أي ملامح تشير للغضب، فقط الرضوخ، والعطف وبعض من الحزن.
الكاتبة والمخرجة أليس روهفاشر، استطاعت أن تقدم تلك الشخصية بأسلوب سهل وممتنع، فأنت كمشاهد لا تعلم هل أنت غاضب من لازارو، أم تحبه، هل تريد أن تصبح مثله، أم انك تملك تعديلاتك لتلك الشخصية لو كانت موجودة في الواقع.
الفيلم لا يخلو من بعض إشارات الصراع الطبقي، نجده مثلا في مشهد للكاهن المصاحب لمحامي الماركيزة وهو يقوم بتعليم أطفال القرية فضيلة الطاعة، ونجده أيضا في حديث “نيكولا” لمزارعي القرية بعد أن شرب القليل من نبيذهم المصنوع يدويا “أنهم هنا الاغنياء بحق، فالنبيذ في المدينة تختلط فيه النكهات ويصاب بالتلوث، أنتم هنا الأغنياء نبيذكم ليس ملوث”.
تصل الماركيزة للقرية، وتسكن لبعض الوقت في منزلها الريفي الثري في وسط القرية التي يسكنها المزارعون المعدمون ويقوم الجميع بخدمتها.
تستغل الماركيزة القرية بأكملها في زراعة التبغ، حتى أنها تلقب في أسواق المال بـ”بملكة السجائر”، فهي تحصل عليه من مزارعي القرية مجانا تقريبا، ولديها ابن مدلل يدعى تانكريدي “توماسو راجنو”، ذلك الشاب الذي يرفض ما تمليه والدته المتسلطة عليه، وسبق وقام بالعديد من المحاولات للهروب.
يتعرف تانكريدي على بطلنا لازارو، الذي يسارع إلى تلبية احتياجاته في مكانه الخاص بأحد كهوف الجبال بكل طيب خاطر كما تعودنا منه، وسرعان ما تنشأ صداقة بينهما، ويحاول الشاب الثري الهروب من قبضة الماركيزة والدته، فيقوم باستخدام لازارو، ويحمله بخطاب لوالدته يفيد باختطافه وضرورة سداد مبلغ مالي كفدية، في تلك الأثناء يخبر ازاروا أنهم إخوة غير أشقاء كدعابة يصدقها ازاروا طوال أحداث الفيلم.
لا تعطي الماركيزة بالا لتهديد ابنها الوحيد، ويسقط لازاروا من ارتفاع بعيد مغشيا عليه لمدة لا نعرفها، تصل الشرطة للبحث عن الشاب الثري المدلل، لتكتشف تلك القرية، ويكتشف مزارعوها أنهم كانوا تحت قيد عبودية تم إلغاؤها من البلاد منذ أمد بعيد، ويتم القبض على الماركيزة بتهم استغلال الغير وعدم دفع الضرائب.
يتم نقل معظم سكان القرية إلى المدينة، ورغم أن القرار كان بنقل الأهالي إلى مناطق أكثر إنسانية من تلك التي تم استعبادهم فيها، فإنهم يقعون عرضة للتشرد في المدينة الصاخبة، ويضطر أغلبهم لممارسة السرقة والنصب، فيما تروج الصحف المحلية أن الحكومة أنقذتهم من التشرد.
الفيلم ينقسم إلى قسمان، الأول هو حياة ازارو في القرية، والأخر هو أزارو في المدينة، حيث يستفيق الشاب الطيب ليجد نفسه وحيدا في القرية، محاطا بأفراد عصابة تقوم بسرقة منزل الماركيزة القديم، وتتصاعد الأحداث حتى وصوله للمدينة ليكتشف أن السارقين ليسوا سوى أبناء قريته، وأن أكثر من 15 عاما مرت على سقوطه، فيما لم يطرأ تغيير يذكر على مظهره الخارجي أو سذاجته وقلبه الطيب، لينظر إليه كل من يعرفهم، ومن بينهم أنتونيا (ألبا روهفاشاير) كقديس لا يؤثر عليه الزمن.
القسم الثاني من الفيلم المتعلق بلازارو في المدينة يبدأ من هنا، حيث التعرف من جديد على أفراد قريته الذي تبدو عليهم أثار الزمن، فالأطفال أصبحوا شبابا يافعين، لكنه لا يعرف معنى التغير، فقلب لازارو المحب للبشر يبقى كما هو وكذلك شكله الخارجي.
يتوصل لازارو لتانكريدي الذي أصبح كهلا يعاني من ضيق العيش بعد أن قامت البنوك بمصادرة كل ما كانت تملكه الماركيزة والدته.
كلما حل لازارو في مكان ما تعم الطيبة ويتحول الأشخاص السيئون إلى الأفضل، فأفراد قريته السابقون والمحتالون الحاليون، يحاولون العمل بالزراعة مجددا، لا يعرفه أحد إلا ويتسابق لفعل الخير.
أكثر المشاهد تأثيرا، حينما يدخل أفراد القرية بمصاحبة لازارو إحدى الكنائس للاستماع لمعزوفة كنسية يحبها لازارو منذ كان طفلا، لكن راهبات الكنيسة يقومون بطردهم، فيعجز العازف عن العزف، وتصاحب الموسيقى لازارو خارجها، في إشارة إلى أنه أصبح مختلفا.
هل أصبح قديسا بالفعل؟.
مشهد لازارو والكنيسة
في نهاية الفيلم نجد ازارو يبكي لأول مرة، رغم كل الاستغلال الواقع أثناء الفيلم، إلا أن رغبته في انقاذ تانكريدي صديقه القديم، من براثن البنك تدفعه لاقتحام البنك ومحاولة استعادة أملاك صديقه بواسطة ” نبلة”، فيتكاثر عليه عملاء البنك وتسابقون في ضربه حتى يسقط قتيلا، ربما هي إشارة إلى أن طيبة القلب ليس لها محل في ذلك العالم القائم على المادة.
رغم القصة التي تبدو سهلة وبسيطة إلا أن الفيلم الذي تتعدى مدته الساعتين، لا يشعرك بالملل على الإطلاق ويحسب ذلك للمخرجة والمؤلفة ” أليس روهفاشر”، التي قدمت وجبة دسمة من المشاعر التي يفتقدها العالم بشكله الاستهلاكي الرأسمالي الحالي، دون تكلف، بل على العكس قد تتمنى أن تصبح شخصية من شخصيات الفيلم المصاحبة لأزارو، ربما لتحذيره، وربما لمشاركته سذاجته وطيبته المفرطة.