مختارات

نادية صالح.. و«زيارة لمكتبة فلان»

صفحةٌ أخرى، حميمة، وحلوة، وذكية، ولامعة، تنطوى من حياتنا وسيرتنا الثقافية والاجتماعية في العقود الثلاثة الأخيرة، برحيل الإذاعية والإعلامية المرموقة نادية صالح (1940 ــ 2018)، بعد أن تركت لنا ميراثًا من الذهب والحكمة، وثروة ثقافية ناعمة حقًا نتباكى عليها ونتحسر على أيامها، ثروة ثقافية وفكرية لا تقدر بمال أو جاه أو نفوذ.

انطوت هذه الصفحة، لتنطوى صفحات من أحلى أيام شبابنا وأمتع أوقاتنا، مَن مِن أبناء جيلى لم يتعلق بهذا البرنامج الذى استضاف أعلام الفكر والأدب والثقافة والفن، فى كل الفروع والمجالات، طوال حقبتى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى، وما تلاها خلال العقدين الماضيين.

كانت سعادة غامرة حينما كنا نتحلق أنا وشقيقاتى مع أبى وأمى، حول الراديو، نسهر مستمتعين ومنسجمين مع حلقات برنامجها «زيارة لمكتبة فلان». كان عمرى أقل من عشر سنوات حينما تعلقت ببرامج الإذاعة المصرية؛ خاصة (البرنامج العام) الذى لعب فى حياتى طوال أكثر من خمسة عشر عامًا أجلّ الأدوار وأعظمها؛ كان مصدرًا رئيسيًا من مصادر تكوينى وثقافتى، بالتوازى مع القراءة، كنت أسمع برامج بعينها وأتحرق من الفضول كى أقرأ عما سمعته؛ كتابًا أو شخصية أو حدثًا.. إلخ.

فى تلك الفترة (منتصف المرحلة الابتدائية وحتى مشارف الجامعة)، كنتُ رهين الإذاعة وبثها المسائى وبرامجها الليلية؛ تبدأ تلك الفترة من السادسة مساء، وتستمر حتى نقل شعائر صلاة الفجر على الهواء مباشرة (بعد أن تنضم إذاعة البرنامج العام وإذاعة القرآن الكريم فى بث موحد)..

فى الصيف، وبدءًا من منتصف الليل تبدأ مراسم البهجة والمعرفة التى لا تدانيها بهجة.. خذ عندك: «لغتنا الجميلة» لفاروق شوشة، «كتاب عربى علّم العالم» أمين بسيونى، «تسجيلات من زمن فات»، «شاهد على العصر» لعمر بطيشة، «غوّاص فى بحر النغم» للراحل العظيم عمار الشريعى، «راديو سينما»، «فى دائرة الضوء»، «علماؤنا فى الخارج»، «صحبة وأنا معهم»..

وطبعا «زيارة لمكتبة فلان»..

كنت أنتظر بشغف منتصف ليل كل ثلاثاء (أو قبل منتصف الليل بساعة) أسمع تتر البرنامج المميز، وصوت نادية صالح المميز جدًا، وهى تقول بنبراتها الإذاعية المدربة «زيارة لمكتبة فلان»، وأنتشى وأنا أعلم بأننى سأكون فى صحبة ممتعة، وأمضى قرابة الساعة، وأنا مذهول من هذه المعرفة الممزوجة بالانتشاء والتذاذ الاكتشاف ومتعة التعرف على صفوة العقول المصرية، وخير ما أنجبته هذه الأرض المصرية فى القرن العشرين، وكم تمنيت وحلمت وأنا صغير أن أحلّ ضيفًا عليها وأن أكون «فلان» الذى تأتى لزيارة مكتبته!

حاورتْ علماءَ وعظماء ومفكرين وفنانين صنعتهم الأفكار وعشقوا الكتب والإبداع والثقافة وقدموا إسهامات ليس لها مثيل؛ وإنجازات ما زلنا ننهل منها نتباهى بها ونحلم بأن يكون لدينا مثل ما كان لديهم، وأن نصنع إنجازاتنا مثلما صنعوا. تعرفت ــ وتصادقت من خلال برنامجها ــ على يحيى حقى، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وزكى نجيب محمود، وثروت عكاشة، ولويس عوض، وصلاح جاهين، وجمال الغيطانى.. سمعت وتعلمت من حسين فوزى، وحسن فتحى، وجمال حمدان، وأنيس منصور، ولطفى الخولى، وصلاح طاهر، عشرات وعشرات من المفكرين، والمثقفين، والكتاب، والفنانين، والأدباء، والنقاد..

كنت صغيرًا لكننى أحببتهم جميعًا وصادقتهم جميعًا من زيارتى لمكتباتهم، والاستماع إلى أصواتهم وأفكارهم وأعمالهم الخالدة. والله إن هذا البرنامج وحده كان قوة ناعمة بذاته وحلقاته التى لا أعلم مصيرها وهل هى محفوظة بالكامل أم لا.. وهل من الممكن أن تتاح حلقات البرنامج على أسطوانات مدمجة (اقترحتُ هذا منذ سنواتٍ وطالبتُ به صونًا لهذا التراث الذى لا يقدر بمال، ولا حياة لمن تنادى.. أبدًا).

هذا التراث الذى لا تفيه المليارات (يا ترى كم يدفع الذين يملكون مليارات المليارات بدون تاريخ ولا ذاكرة ولا ثقافة كى يكون لديهم خمسة أسماء فقط.. خمسة فقط ممن ذكرتهم على سبيل المثال لا الحصر!).

نعم. كانت نادية صالح تمثل مدرسة متميزة فى تاريخ الإذاعة المصرية، وكان برنامجها «زيارة لمكتبة فلان» أحد العلامات البارزة فى مسيرة الإعلام المصرى الراقى، التثقيفى، التنويرى، الجماهيرى أيضًا.

نقلا عن موقع الشروق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock