منوعات

المديح النبوي الشعبي.. عوالمه وأسراره

في مصر، لا يبدأ الكلام غالبا ولا ينتهي إلا بالصلاة على النَّبيِّ الكريم (مع طلب الزيادة فيها)، ولا يدخل الدَّاخل بيتا ولا ساحة، لأوَّل مرة، إلا وصلاته على النَّبيِّ تسبق خطواته فتحا للأبواب وجلبا للبركة وقتلا للشُّرور.

مددنا الباذخ منه (صلى الله عليه وسلم) يتجلَّى أيضا في احترامنا البالغ كمصريين لمزارات آل البيت العديدة عندنا؛ نقبل عليها ونقصدها في أفراحنا وأتراحنا ونوقد فيها الشُّموع ونوزِّع جُودَنا على الفقراء هناك إحساسا منا بالقرب الصَّادق الصَّافي من المواضع الطَّاهرة الطَّيِّبة التي تكافئ السماء فيها حنان الناس على إخوتهم المساكين.

ومن أبرز المظاهر الدَّالَّة على ارتباطنا الوجداني الحميم بالنَّبيِّ المصطفى وفرة المدَّاحين الشعبيِّين ببلادنا من أدناها إلى أقصاها، واحتشاد الناس حول هؤلاء في المواسم الدينية والليالي الخاصَّة التي لله حتى يذوب الجميع في الجميع.

لدينا صورتان كبريان من صور الغناء المادح للنَّبيِّ، الأولى تصدَّى لها مشاهير المغنِّين كالكحلاوي وليلى مراد وشادية وياسمين الخيام ومنير والحجار وغيرهم، وهي صورة مؤلَّفة وليست فلكلورية، لم تركِّز في المديح لكن مرَّت به في الأغلب لإكمال ملامحها الغنائية واستقطاب شرائح أوسع من الجماهير تضاف إلى جماهيريتها العريضة بإضفاء لمسة دينية على مشاريعها الغنائية الرومانسية والوطنية والإنسانية.

الصورة الثانية، المقصودة بالكلام هنا، هي صورة الفنانين الشعبيين الذين أنفقوا في المديح النَّبويَّ أكثر أعمارهم، من الوجهين القبلي والبحري، واكتشف معظمهم وقدَّمهم للصحافة والإذاعة والتلفزيون الراحل الشَّهير زكريا الحِجَّاوي (4 يونيو 1915- 7 ديسمبر 1975) الذي تفرغ لجمع التراث الشعبي بعد ثورة يوليو 1952، وهو كان أصلا مولعا بالفلكلور وفنَّانيه وراغبا في نقله ونقلهم إلى القطاع الأعرض من المصريين.

زكريا الحِجَّاوي

هؤلاء الفنَّانون بسطاء لم ينالوا تعليما على الأرجح وينتمون إلى قرى المحافظات الشمالية والجنوبية ومراكزها غالبا وليس إلى مدنها الكبرى، لكنهم عظيمو المواهب، وجلَّابون للناس، ومتابعوهم ومحبُّوهم هم السَّواد الأعظم وليس شريحة معينة من الشرائح المجتمعية.

بين الصورتين المذكورتين عدد هائل من المنشدين والمبتهلين وأساطين التواشيح الدينية من الرَّاحلين العمالقة والباقين المتحقِّقين.. ولا تكف الإذاعة المصرية عن عقد المسابقات التي تكتشف من خلالها أسماء جديدة تستحق أن تصدح أصواتها بأجواء الاحتفالات الدينية وفي ساعة الفجر بالمساجد سائحة في أرواح المستمعين المنتظرين خير الساعة لأيَّامهم.

من المدَّاحين المشاهير بالوجه القبلي: مكرم المنياوي، ياسين التهامي، زين محمود، عبد الموجود عبد الوهاب، عبد النبي الرَّنَّان، محمد العجوز.

وبالوجه البحري: محمد طه، العربي فرحان البلبيسي، محمد الشوبكي، محمد صبرة، خضرة محمد خضر، فاطمة سرحان.

من بين هؤلاء، بصعيد مصر ودلتاها، من رحلوا ومن بينهم من لا يزالون ملء السَّمع والبصر.. وجميعهم تحيط بهم الأسرار في جوهر مديحهم نفسه (الكلمات والألحان) وفيما يعتمده كلٌّ منهم من طريقة للمديح (الشكل العامُّ للمدَّاح) وفيما يعتقده الناس فيهم قبل المديح وبعده (الحقائق والشائعات).

حالة مكرم المنياوي تستحق التوقف أمامها ولو قليلا؛ فهو المسيحي الوحيد بين كل المدَّاحين الشعبيِّين في تاريخ المديح النبوي الشعبي بمصر. يقول بنفسه عن موضوعه اللافت: لا أفرِّق بين السَّيِّدين محمد والمسيح (عليهما الصلاة والسَّلام) وهدفي جمع الناس ببلادي على المحبة وهزيمة الفتنة والانشقاق.

مكرم المنياوي

تتنوَّع كلمات المدَّاحين الموروثة التي غالبا لا يُهتَدَى إلى مصادرها بين المفتوح الواضح والمغلق الغامض؛ فبعضها تتعدَّد تفسيراته وقد يظل المقصود به مجهولا كقول الرَّنَّان في إطار مديحٍ مّا:

الحلو شيَّع “لامونا” الحَلَا فيها

الوجه مثل القمر ونجوم حواليها

من كتر الاشواق كتبلي السَّلام فيها

خايف آخدها يكون عمري انتهى بيها.

بعض الباحثين يفسِّر “لامونا” بالنَّصِّ المنطوق لا المكتوب على أنها “ثمرة الليمون” وبعضهم يظنها “الملام”، وأكثرهم يعجز عن فهم انقضاء الأجل بتناول الثمرة المرسلة (شيَّع أي أرسل) أو تناول معنى اللَّوم الذي تمَّ التعبير عنه بها، ويتحيَّرون في تحديد الموصوف بالجمال “الحلو”- أهو النَّبيُّ وهذه رسالته النَّبويَّة للإنسان، أم جبريل وهذه رسالته الإلهيَّة للرَّسول نفسه.

المداح تصاحبه غالبا فرقة موسيقية كاملة وبعضهم يكتفي بالطبلة أو الدُّفوف كالراحل القديم حسن الدح، ولكل منطقُهُ في الحقيقة، فمن يوافقون على الموسيقى يتكئون على سماح الإسلام بها في الأعراس والأعياد ومن لا يوافقون عليها لديهم حججهم من المقولات الفقهية التحريمية الشائعة مهما تكن ملتوية ومتعسِّفة.

حسن عمران الدح

ويحرص كلُّ مدَّاح على صنع ما يميِّزه؛ فالتنافس شديد والمديح بابُ رزقٍ واسعٍ كما أنه باب قوَّة معنوية لصاحبه. من هنا كان اجتهاد المدَّاحين في خلق أشكالٍ استقطابيةٍ مدهشة: الشوبكي يرتدي طربوشا ويكثر من التعبيرات الحركية بكلتا يديه، ومحمد صبرة يتمايل بقوة مع دفِّه كأنه في حلقة ذِكْر، والتوني يحمل كوبا يضربه بالسبحة التي بيده ضربات خفيفة منظَّمة كأنها إيقاع جديد، والرَّنَّان يطيل آهات أشواقه ويوزِّعها في المديح بحرارة عالية وذكاء نادر، والنَّجم ياسين التهامي يتجهَّز للمديح كفارس بكامل أسلحته ودروعه ويستند مشواره كثيرا على حائط الفصحى الفخم، وجمالات شيحة تتزيَّن كعروس بالحُلِيِّ والكُحْل والرِّداء الفلاحيِّ الزَّاهي الأخَّاذ، وهكذا..

محمد الشوبكي                أحمد التوني                   عبد النبي الرنان                      ياسين التهامي

لا توجد، بين المنسوبين إلى الوجه القبلي، مدَّاحات للنَّبيِّ كما هو ظاهر، وللأمر علَّته التي يعيها العارفون بالصعيد وخفاياه؛ فالصعايدة، بجانب تحفُّظاتهم المعروفة بشأن النِّساء، لا يحبِّذون التناقض، وفي فكرة مديح امرأة للنَّبيِّ، باعتقادهم، ما يبرز هذا التناقض بفجاجة؛ فالمرأة المدَّاحة قد تَطْرَبُ للغناء وتتمايل بين الرجال في مقام لا يصح فيه منها سوى الاحتشام والانزواء. فيما يقبل الصعايدة المغنِّية والرَّاقصة في مناسبات أيامهم الشعبية السعيدة؛ لأن المقام يناسبها بشرط أن تكون غريبة ليست من بيوتهم وأنسالهم.

أما أهل الدلتا فمتبسِّطون في الأمر، بلا تَرَخُّصٍ، ربَّما لطبيعتهم الأكثر وداعة ولاتِّصالهم الأقرب بالعاصمة التي حرَّرتها قِيَمُ المدنية ولعدم تجذُّر القيم العربية المتشدِّدة فيهم كما تجذَّرت في الصعيد لا سيما البعيد.

جمالات شيحة                              خضرة محمد خضر                               فاطمة سرحان

وقدر ما يحرص الناس على متابعة المدَّاحين الشعبيِّين ويفتتنون بهم بل يرفعون بعضهم إلى مصافِّ الأبرار؛ قدر ما يطعنون فيهم ويسخرون منهم، وأكثر ما يشاع عن بعض المدَّاحين من المعايب أنهم لا يصلُّون ولا يصومون مع كونهم يمدحون صاحب الصَّلاة والصِّيام، وأنهم ماديُّون متصارعون على الأولويَّة فوق الوصف، وأنهم يتناولون الأفيون  والحشيش وأمثالهما للانسجام والانتباه في جوِّ المديح الصَّعب الصَّاخب طويل الأنفاس.

للشُّكوك والاتِّهامات أسبابها طبعا، منها تواضع بيئات المدَّاحين الأصليَّة وأمِّيَّة أغلبهم وتقليديَّة طباعهم ومن ثَمَّ أحكامهم على الأحداث والأشياء، بالإضافة إلى عصبيَّتهم لأقوامهم وتعاملهم الفطريُّ لا العلميُّ مع العالم والحياة، مع ازدحام ساحات المديح واختلاط الصالحين فيها بالفاسدين، لكن للأمانة لم يثبت قطعيا شيء من ذلك كله على المدَّاحين، ومع ذلك استمرت خيالات الناس وتصوراتهم تنتج أوهامها الكثيفة المتناقضة عن جماعة من الفنَّانين الشعبيِّين تخصَّصت، أكثر ما تخصَّصت، في مديح الممدوحة أخلاقه (صلوات الله وسلامه عليه) ولعلَّ تخصُّصها الذي جَانَبَ شهواتِ الدنيا التي ترومها الرغبات البشرية سببٌ عميقٌ من أسباب الالتفات إليها بيقين التَّخبُّط والارتباك.

عبد الرحيم طايع

شاعر وكاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock