السعادة مفهوم حائر حيرة الإنسان في البحث عنها، فإذا قلت إن السعادة في الشعور باللذة. فما هي اللذة؟ وإذا قلت إن السعادة هي الفضيلة. فما الفضيلة؟ يصعب علينا جميعا وضع تعريف جامع مانع لمفهوم السعادة، لطابعها الذاتي، فما يسعدني قد لا يسعد غيري، وربما تدور في فلك الحرمان، فيسعد المرء بقدر تحصله على قدر من الحرمان.
منذ بداية الوجود يسعى الإنسان لمعرفة كٌنه هذه المفردة، وما يحقق له تلك السعادة، هكذا انطلقت تعريفات فلاسفة اليونان منذ السوفسطائيين مرورا بسقراط وأفلاطون وأرسطو، وحتى فلاسفة العصر الهلينستي المتمثلة في مدرسة الاسكندرية ومدارس الابيقورية ومفهومهم الشهير عن اللذة، كما شغلت تعريفاتها الفلاسفة المسلمون كالفارابي وابن سينا وابن مسكوية وابن باجة وغيرهم كثيرين.
اتخذت السعادة مسميات وتعبيرات شتى كاللذة والنعيم والخير وغيرها من المرادفات، أفلاطون وجد أن الخير الأسمى (السعادة) هو الحصول على كل ما تريد، أما أرسطو فرآها ترتبط بتحقيق الخير، حيثُ تتحدد باللذة، وهي الفضيلة التي تقود الفرد إلى السَّعادة باتباع الاختيار الذي يدفعه إلى التأمل، وبمعنى أوضح هي نشاط النفس وفقا لفضيلتها، أو لأعظم فضائلها وأكملها حال تعدد الفضائل.
في مسعى جديد للبحث عن كنه السعادة، خصص صالون “علمانيون” ندوته لهذا الأسبوع للاحتفاء بمناسبة صدور كتاب “مفهوم السعادة عند نيتشه” لأستاذ الفلسفة، العميد الأسبق لكلية الآداب جامعة الزقازيق، الدكتور حسن حماد.
البحث عن معنى للسعادة عند نيتشه بدا للحضور أشبه بالبحث عن إبرة في كومة من القش، كما يقول المثل الشعبي، وهو شبيه لأن تبحث عن المعنى نفسه عند رواد الأدب التشاؤمي مثل كافكا أو أبو العلاء المعري، إذ كيف تسأل اليائس الحزين عن معنى للسعادة؟
في عرضه لكتابه أكد حماد على الصعوبة في إدراك مفهوم السعادة عند فيلسوف مثل نيتشه، عاش حياة دراماتيكية بائسة حزينة افتقر فيها لكل معاني الحب والحنان والعطف، فلا دفء أسري أو عاطفي، وقد أحب زوجة صديقه “فجنر” التي كتب لها باسم “ديونسويوس” أثناء سجنه، كما أحب فتاة روسية تدعى “سالوميزا”، وفشله في الحالتين زاد من يأسه وحرمانه.
غير أن الحرمان والإحساس بالفقد كثيرا ماكان محركا لعملية الإبداع، فالإنسان لا ينشغل ويهتم إلا بما يفتقد، ولأن نيتشه افتقد تلك السعادة انشغل كثيرا بالبحث عنها ومحاولة تعريفها وتحري السبيل لبلوغها. وبقدر ما تبدو السعادة كمفهوم يسهل على الفنان أو الرسام التعبير عنه ببساطه في مشهد خاطف، فالأمر يختلف تماما إذا ما تم النظر إليها في إطار الفكر والفلسفة.
بحسب حماد، للبحث عن السعادة عند نيتشه شقين: الأول نجده في نقد كل تعريفات الفلسفة المثالية لمفهوم السعادة، كما رآها أفلاطون أو كما ورد في مفهوم اللذة عند الأبيقورية أو الزهد عند الرواقية، أو كما نظرت الديانات لمفهوم السعادة برؤية عدمية تنتصر للموت وتفضله على غريزة الحياة، وهي مسألة سبق فيها فرويد، وأيضا أستاذه شوبنهاور الذي رأى أن اللذة والخلاص إنما يكونا في التخلص من رغبة الحياة، لأن اللذة الجسدية تتحول في لحظة ما بعد الإشباع إلى حالة من اليأس والعزوف.
أما الشق الإيجابي، فيتمثل في دعوته إلى أن يصنع الإنسان قيمته بنفسه، ولا ينجرف مع تصورات العالم القديم بما في ذلك السعادة، فالسعادة الحقيقية في نظر نيتشه هي أن يمتلك الإنسان الوعي، مع التقليل من جدية الحياة والتعامل معها كلعبة، ما يعني الحفاظ الدائم على حال الدهشة والتخلي عن الجدية الزائفة، فكلما كنا أطفالا في استقبال هذا العالم كلما ازدادت قدرتنا على تقبله كما هو، وتحقيق السعادة.
لا ندري ما إذا كان هذا التصور القاصر يعود لرؤية نيتشه للسعادة حقا، أم هي محاولة من الباحث لاستنطاق النص بما لا يحتمل؟ فالشقان يحملان من التعارض والتناقض ما لا يحتمل، إذ كيف يمتاز الإنسان بالوعي للحد الذي يجعله يرفض التصورات الموروثة ويصنع منظومة قيمه الخاصة، في الوقت نفسه الذي يستقبل فيه تصورات ومفاهم العالم بطفولية ساذجة تستمر معها الدهشة و الانبهار.
ربما هذا يدفعنا للعودة للبحث عن السعادة عند نيتشه كما رآه الباحث الأمريكي نيكولاس وايت في كتابه “السعادة.. موجز تاريخي” الذي ترجمه إلى العربية د. سعيد توفيق. بحسب وابت فإن تضارب الرغبات في حياة الإنسان يحقق السعادة، وهي سعادة تتمثل في حياة بعيدة عن الرتابة والملل، على هذا النحو يمكننا استيعاب التضارب في مفاهيم نبتشة للجمع بين الوعي المطلق، والطفولية والسذاجة.
ويرى نيكولاس وايت أن الفكرة المهمة في كتابات نيتشه إشارتها إلى أن تصادم الرغبات يمكن أن يكون أمرا مرغوبا فيه، فالرغبات تكون كذلك حينما تكون مصدرا لنوع معين من الابتهاج، كما أن تضارب الأهداف يمنع الحياة أن تستتب في حال من الروتين الممل، وبالتالي تقاوم ذلك النوع من السعادة الذي يريده أغلب الناس.