منوعات

جمال حمدان .. الجغرافيا عندما تصنع التاريخ

أعترف أني في قراءتي الأولى لـ «شخصية مصر» كنت أبحث عما أحتاجه من الكتاب أكثر من حرصي على الإلمام بكل ما يريد إثباته وتقريره بطريقة فريدة آسرة وساحرة في الوقت نفسه. وأعترف أن القراءة الثانية هي الأمتع، تلك المتعة المعرفية التي تنساب في وعيك مع التقدم في قراءة تلك الموسوعة لا تدانيها متعة أخرى من متع الدنيا.

منذ فترة قررت التخلص من جزء كبير من مكتبتي، حسمت أمري وعزمت على أن أحتفظ فقط بالمراجع الكبرى وأمهات الكتب والموسوعات التي لا غنى عنها في أي وقت، إضافة إلى تلك الكتب المعتبرة عُمدة في موضوعها.

حين خلى لي وجه مكتبتي في صورتها الجديدة كان كتاب «شخصية مصر» يتصدر موضعه البارز فيها ما جعله في متناول يدي باستمرار أعود إليه بين الحين والآخر، أقرأ بعض فصوله المنتقاة حسب مزاج القراءة، وبحسب الحاجة إلى النظر في قضية أريد أن أستطلع رأي الأستاذ فيها، خاصة تلك القضايا التي يتمحور الكتاب حولها، ثم وجدتني أمام رغبة تتملك علي كل جوانحي في أن أقرأ الكتاب من جديد بعيون رجل زادت معارفه عن تلك المرحلة التي بدأت فيها القراءة الأولى، ميمماً وجهي إلى تلك الأجزاء التي كنت أغفلتها أو تلك التي لم يتسع الوقت ـ ساعتها ـ لقراءة بعضها الآخر.

الموسوعة الكبيرة عبارة عن أربعة مجلدات ضخمة بعضها يزيد على الألف صفحة، المجلد الرابع هو أصغرهم (حوالي 700 صفحة)، وهو المجلد الأثير لدى الكثيرين من قراء تلك الموسوعة الكبيرة والممتعة.

مشاعر الانبهار والتقدير والاحترام والعرفات بالجميل لهذا المفكر صاحب هذا المؤلف الضخم هي التي سادت فترة القراءة، تدخلك في رحلة اكتشاف وتعرف وإدراك وسياحة فكرية في جغرافية مصر الطبيعية والبشرية معاً، وغوص مفتح العينين في تاريخ مصر.

ستدهشك تلك السياحة في بحور مصر ونيلها وبحيراتها وفي طقسها واقتصاداتها واجتماعياتها وشخصية أهلها، إبحار مبسوط فيه الكثير من المعارف، ومبثوث بين محطاته وفصوله وسطوره نتاج مثمر من علوم كثيرة أتقنها ذلك المفكر الكبير تتبدى في سطور كتابه الموسوعة.

لفتني وصف الدكتور جلال أمين للكتاب وهو أستاذ الاقتصاد، ولكنه يعترف بأن الموسوعة «ابحار في فروع متنوعة من العلوم الاجتماعية، فيه من الاقتصاد ما لا يستغني عنه عالم الاقتصاد، وفيه من علم الاجتماع ما هو ضروري لعالم الاجتماع، وقل مثل ذلك عن علم السياسة، والانثروبولوجيا، الخ الخ».

جلال أمين

سوف توقن بعد أن تغوص في أعماق «شخصية مصر» بأن قراءته قراءة واعية لا غنى عنها لكل محب لمصر، وأننا في أمس الحاجة إلى إعادة قراءته ولا يجب أن ننسى أنه كان الرد البليغ على الهزيمة في يونيو سنة 1967 والتي رآها الكاتب الكبير عارضة، فراح يثبت بالجغرافيا، ويستدعي التاريخ، ثم يمزجهما معاً في مزاج وضعه في بوتقة علوم شتى، ليؤكد على أن مصر أكبر من أي هزيمة، وأبقى من أي نظام، وأنها قادرة على أن تعبر كل انتكاس، ماضية في سرديتها المتفردة لا تلتفت إلى عوائق، ولا تقف في وجهها معوقات. من هنا درس جمال حمدان وقراءته بإمعان هي واجب الحاضر، وهي ضرورة للمستقبل.

الكتاب في نسختة الأولى التي صدرت في أعقاب هزيمة يونيو 1967

حين خطر للأستاذ محمد حسنين هيكل أن يهدي كتابه «أكتوبر 73 السلاح والسياسة»، وهو الرابع في سلسلة «حرب الثلاثين سنة»، إلى الأستاذ الدكتور جمال حمدان صاحب أعظم المؤلفات في مجاله العلمي «شخصية مصر..ـ دراسة في عبقرية المكان»، حاول الأستاذ هيكل أن يربط بين جمال حمدان وكتابه الكبير، وبين شيخ التنوير الجليل رفاعة رافع الطهطاوي مؤلف كتاب: «تخليص الإبريز في وصف باريز».

محمد حسنين هيكل

كتاب الطهطاوي، حسب ما رآه الأستاذ هيكل، يحكي رؤية أزهري ريفي للحضارة الغربية، رؤية مصري خام عَبَر البحار إلى باريس، وألقى نظرة على ما رأى، ثم شهق مدهوشاً منه، وكانت القيمة الكبيرة لهذه الشهقة أن صاحبها لم يقصر انبهاره على شكل ما رأى، وإنما غاص فيه، محاولاً أن يلمس أعماقه، وأن يتعرف إلى جوهره.

أما كتاب حمدان الموسوعي فقد قدم دراسة طالب علم مصري عَبَر البحار إلى بريطانيا ملتحقاً بجامعة «ريدنج» بقصد التخصص في الجغرافيا، ومن هناك تعمق أكثر في تأمل وطنه، وإعادة اكتشافه، ليتعرف إلى جوهره.

ورغم أننا نرى أن الربط بين الطهطاوي وحمدان جاء متعسفاً وربما شكلياً، إلا أنني أتجاسر على الربط أكثر فأكثر بين سلسلة «حرب الثلاثين سنة»، وبين كتاب «شخصية مصر». الربط عندي بين مؤلفيهما أكثر موضوعية، وكأنه رباط بين الجغرافيا والتاريخ، وكلاهما شاغله الرئيسي الجغرافيا والتاريخ، أحدهما قضيته الجغرافيا وعبقرية المكان فيها، يقرأ ثوابتها من نافذة التاريخ وتحولاته، والآخر قضيته التاريخ ووثائقه، وفي رواية الصراع على مصر والمنطقة يطل على وقائعه من فوق تضاريس الجغرافيا وثوابتها.

ربما فات على الأستاذ هيكل نفسه أن يربط بين كتابه الذي خطر له أن يهديه إلى د. جمال حمدان، «أكتوبر 73 السلاح والسياسة»، وبين مؤلف آخر رائع لحمدان هو كتاب « 6 أكتوبر في الاستراتيجية العالمية». فقد أكد حمدان في سفره الرائع: «ليس الذي بيننا وبينهم أربع حروب، بيننا حرب طويلة واحدة، بها أربع معارك حتى الآن، حرب تدور على المستوى السياسي والعسكري والحضاري». وبينما رصد كتاب هيكل صراع الإرادات بين الساسة على الجانبين في حرب أكتوبر 1973، راح حمدان في كتابه عن الموضوع نفسه يرصد فيه صراع الإرادات بين الشعب العربي و(إسرائيل).

تبقى قيمة ما جرى في أكتوبر 1973 عند حمدان أننا “وإن لم ننتصر على إسرائيل بالضربة القاضية لكننا انتصرنا بالنقط، وامتلكنا مفتاح الأمل». كان لافتاً أن يؤكد جمال حمدان في كتابه أن العامل البشري أهم من العوامل الأخرى، من الزمن والطبيعة والتكنولوجيا، فـ”العرب في أكتوبر 1973 حققوا نصرهم بفضل العامل البشري أساساً، كماً وكيفاً، سيطروا على التكنولوجيا الحديثة أولاً، كما سخروا عامل الوقت لمصلحتهم، العالم كله متفق الآن على أن الزمن لم يعد يعمل لمصلحة إسرائيل، إنه أصبح يحارب في صف العرب، وواجبنا ألا نسمح بأي تغيير في هذا الاتجاه، وأن نضاعف من تسخيره لمصلحة قضيتنا ومصيرنا، علينا أن نتم ما بدأناه».

وكما كان الأستاذ هيكل يكتب مجموعة كتبه في سلسلة «حرب الثلاثين عاماً»، في محاولة للرد على أكبر عملية تشويه وتسفيه وتسطيح لكل ما جرى في زمن الرئيس جمال عبد الناصر، فحرص أن يوثق كتبه، وأن يكون توثيقه من المصادر الأجنبية والوثائق المصرية، نجد أن «شخصية مصر»، كتبه الدكتور جمال حمدان مرتين، فالصياغة الأولى لـ«شخصية مصر» تمت في 1967 وخرجت في كتاب صغير (300 صفحة من القطع المتوسط)، وكأنه الرد الموضوعي على ما جرى في أعقاب هزيمة يونيو، ثم جاءت الصياغة النهائية للكتاب في أربعة أجزاء (1981 إلى 1984) في مواجهة الارتداد على كل ثوابت الجغرافيا وحقائق التاريخ، الذي قاد خطى الرئيس الأسبق أنور السادات لتوقيع معاهدات الصلح مع العدو الصهيوني، ما دفع حمدان إلى التوسع في كتابه ليرتفع بعدد صفحاته من 300 صفحة ليصل مجموع صفحات هذا السفر الضخم إلى أربعة آلاف صفحة من القطع الكبير .

وكما أراد هيكل أن يكشف المؤامرة على وعي الأجيال القادمة من المصريين في سلسلة كتبه حول الحرب على مصر، كتب حمدان «شخصية مصر» في وقت كان الجدل على أشده حول انتماء مصر، وهل هو للشمال الأوروبي المتوسطي، أم لإفريقيا، أم لغيره، فخرج حمدان بمقولة إنه إذا كان أجدادنا فراعنة فإن آباءنا عرب، وهي رؤية لتجدد الهوية المصرية المركبة، وبدا أن المفكر الكبير أراد أن يعيد كشف مصر أمام نفسها أولاً، وهو الذي كان يكرر: «إن ما تحتاج إليه مصر أساساً إنما هو ثورة نفسية، بمعنى ثورة على نفسها أولاً، وعلى نفسيتها ثانياً».

كان يريد أن يقول إن أي تغيير جذري في العقلية والمثل وإيديولوجية الحياة قبل أي تغيير حقيقي في حياتها وكيانها ومصيرها، ثورة في الشخصية المصرية وعلى الشخصية المصرية، ذلك هو الشرط المسبق لتغيير شخصية مصر وكيان مصر ومستقبل مصر.

يمكن فهم بعض ملابسات حياته الخاصة التي انقطع خلالها عن الحياة العامة بكل صورها إذا ما تأملنا عبارته المنسوبة إليه: «الجغرافيا لا تقبل شريكاً قط، لا في العلم ولا في الحياة، أنت محكوم عليك بالجغرافيا إلى الأبد، وإلا خرجت من حوزة الجغرافيا، بمعنى لن تكون شيئاً مذكوراً في الجغرافيا إن لم تتفرغ لها تماماً العمر كله».

وقد أوضح في مقدمة سفره الموسوعي نظرته العميقة إلى «الجغرافيا» التي تخصص فيها ليقول إنها «علم بمادتها، وفن بمعالجتها، وفلسفة بنظراتها». وهو يصف كتابه الكبير في الصفحات الأولى منه بأنه ليس كتاباً في التاريخ ولكن في الجغرافيا التاريخية، ولا في السياسة وإنما في الجغرافيا السياسية، ولا في فلسفة التاريخ وإنما في فلسفة المكان. المكان عنده ليس مجرد موقع جغرافي، كما أن الزمان ليس مجرد تقلب القرون وتتابع الحوادث، فالجغرافيا عنده هي المكان في حالة حركة تاريخية، والتاريخ عنده هو الزمان حين يحط على تضاريس محددة.

وإذا كانت الجغرافيا السياسية في قول جمال حمدان «تكثيف استراتيجي للسياسة»، فالجغرافيا الاجتماعية في نظره «تكثيف استراتيجي لعلم الاجتماع»، والجغرافيا «علم استراتيجي»، أقوى من التاريخ «لأن الجغرافيا تحكم وتصنع التاريخ، ولكن التاريخ لا يحكم الجغرافيا ولا يصنعها»، معتبراً أن الجغرافيا «علم مفصلي، ليس فقط بموقعها وسط العلوم الطبيعية والاجتماعية، لكن أيضا بربطها بين الظاهرات المختلفة أفقياً ورأسياً». ويتابع: «الجغرافيون بالضرورة تلاميذ كل المتخصصين الآخرين ابتداء من الجيولوجيا حتى التاريخ، لكن ماذا بعد هذه التلمذة؟ أليست إلا الأستذة؟ فبعد أن يأخذ الجغرافي عنهم يصبح في النهاية قائداً وأستاذاً لهم».

من الجغرافيا انطلق جمال حمدان إلى التاريخ، ومنهما حدد ثوابت موقفه، وحين وقف بشكل معلن ضد اتفاقيات «كامب دافيد»، لم يكن يعبر عن موقف سياسي آني أو مرحلي، بل كان ينطلق من ثابت جغرافي عنده، وهو الذي اتهم هذه الاتفاقيات بأنها تقضي على دور مصر العربي، فالجغرافيا عند حمدان كالتاريخ لا تعيد نفسها بالضبط، ولا الإقليم يكرر نفسه، ومن ثم فلا قانون للإقليم من حيث هو، ولذلك فإن دراسة الإقليم لا تقتصر على الحاضر، وإنما تترامى إلى الماضي وخلال التاريخ.

سلام على العالِم الكبير عاشق الجغرافيا الذي قال عنها: «يموت الجغرافي الجيد وفي نفسه شيء منها»، سلامٌ على أعظم من استخرج الحقائق من الخرائط، وهو القائل: «الخريطة لا تمنح أسرارها إلا لمن يعشقها»، سلامٌ على صاحب الأفكار الخلاقة، وهو ذاته صاحب عبارة: «الجغرافيا الفكرية هي وحدها الجغرافيا الخلاقة»، وسوف تبقى أفكاره الخلاقة تستعصي على الهزيمة، وسوف يبقى هو عصياً على الغياب.

كانت مصر عند جمال حمدان هي «واسطة كتاب الجغرافيا تحولت إلى فاتحة كتاب التاريخ»، وكان يردد عنها قوله الخالد: «من كان أبوه التاريخ وأمه الجغرافيا فهو من صنع الله». ظل طوال حياته متعبداً في محراب مصر، مبتعداً كالنجم القطبي لا يتحول عن مبادئه، تاركاً وراءه ضوءه ليسترشد به السائرون في الطريق إلى الوطن.

محمد حماد

كاتب وباحث في التاريخ والحضارة

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock