رؤى

مراجعات الإسلاميين المغاربة.. صلاح الدين الجورشي نموذجا (3)

يواصل المفكر المغربي البارز صلاح الدين الجورشي الغوص مجددا في أعماق أزمة الحركات الإسلامية المعاصرة، لافتا إلى أنه رغم زخم الكتابات الإسلامية المتنوعة في هذا المجال، إلا أن فكر تلك الحركات لا يزال بحاجة إلى نقد عميق. 

وهنا يغوص الجورشي في خلفيات المفاهيم وأدوات التحليل وإعادة التأسيس، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصيات الفكر الإسلامي وتحديات اللحظة الراهنة زمانيا ومكانيا من تراكمات وصراعات ومكاسب، ناقدا ما اعتبره في البداية من مزايا تلك الحركات، وبالذات ما يخص منهجها في تربية أعضائها، الذي يطلق عليه وصف “الصلابة الأخلاقية الزائفة”.

يرى الجورشي أن تلك التربية والتنشئة صاغت شخصية ذات عيوب جوهرية، تتبدى في أوجه عدة كما يلي:

1- نظرة مانوية للعالم لا ترى فيه إلا خيرا أو شرا، إيمانا وكفرا، إسلاما وجاهلية، أنصارا وخصوما، ضلالا وفسادا، لتتجه بقوة إلى تنزيه الذات وتدنيس الآخر (الخصم، المجتمع، الحاكم، الدولة، بقية العالم)، ما يفقد الفرد القدرة على التحليل والتفكير، عندما تسقط من حسابه التضاريس التي لا يخلو منها كائن أو مجتمع أو خصم، فالحقيقة تبقى نسبية لا يملكها إلا الله، وقد وزعها على عباده بنسب متفاوتة ليحتاجوا إلى بعضهم البعض ويتكاملوا حتى وهم متصارعون.

2- حرص على التمايز يفصلهم عن قضايا الناس، ثم اندهاش من عدم اهتمام الناس بمظلوميتهم، أو قمعهم، بعد أن تساموا على هذا المجتمع واتهموه بالجاهلية والفساد.

3- طغيان خطاب أخلاقي وعظي يٌحمل الأخلاق حضورا وغيابا في واقع الناس كل ما يعتري حياتهم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، مغفلا كل السياقات الأخرى، ما يعني الوقوع في التبسيط في قراءة واقع الناس وحركة التاريخ.

4- السعي للتماثل وتطابق الشخصيات بتضخيم مبدأ القدوة وتقليص الفردانية، ما يؤدي إلى نفي المغايرة داخل الكيان الواحد، فتصور توحيد السلوك والتفكير والأذواق وتنظيم الحياة الفردية والمظهر العام وطرق التخاطب، أمر يناقض طبيعة الحياة القائمة على التنوع والتكامل. وهنا يلفت إلى أنه من الجوانب التي لم تخضع للنظر بعمق ذلك التنوع في شخصيات الصحابة، بالرغم من أنهم تربوا على زاد فكري وتربوي واحد، في حضرة شخصية واحدة فذة هي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك نجد عمر يختلف عن أبى بكر عن بلال عن أبى ذر، وغيرهم.

5- سيادة النظرة التجزيئية للأخلاق، حيث تتضخم المسائل السلوكية على حساب القيم العامة، وتوسيع حيز الحرام على حساب الحلال، وغياب الوزن النسبي لكل خلق قاصر أو متعد.

بعدها يتطرق الجورشي إلى ما اعتبره البعض ميزة نسبية للحركات الإسلامية، وهو التنظيم، فهو يرى أن ذلك التنظيم، رغم أنه كان من عوامل القوة ومن القنوات التي أحيت مشاريع تاريخية، إلا أنه جر ويلات على الحركات الإسلامية.

هنا يأتي السؤال المهم: ماهي الحركة الإسلامية من الناحية التنظيمية؟ ويستفيض الجورشي في محاولة الإجابة: هي ليست حركة دينية كالطرق الصوفية أو التيارات الثقافية والاجتماعية التي تتشكل عادة في جمعيات ونواد لأداء وظائف محددة، وهي أيضا ليست حزبا سياسيا عاديا، سواء قورنت بالحزب في الغرب أو عندنا، وهي كذلك ليست فرقة، إذا قورنت بالمواصفات التي لازمت ولادة الفرق تاريخيا، كما أنها ليست صاحبة مدرسة في الكلام أو المذهب.

ويخلص الجورشي إلى أن هذه الحركات أقرب إلى ما أطلق عليه وصف “الجماعة التنظيم”، فهي ليست مجرد تشكل سياسي يهدف إلى استلام السلطة، وإنما قراءة للدين والثقافة والمجتمع تجسدت في نمط من التربية وأشكال من التنظيم، سعيا لتحقيق أهداف من شدة ضخامتها تصبح مبهمة، لكنها توحي بالقطيعة مع السائد، وتدعو إلى ولادة جديدة قديمة، وإلى موقف يبدو مستقلا.

ويضيف: لهذا لم يكن عفويا أن يثير حسن البنا هذا الإشكال بنفي حصر جماعته في شكل الحزب، لكن سيد قطب كان أكثر وضوحا عندما دفع الفكرة إلى أقصاها إلى درجة التوحيد بين التنظيم والجماعة، فقد انتقلت الجماعة لديه من معناها التنظيمي الضيق إلى معنى الأمة، أو نواة الأمة (دار الإسلام مقابل دار الحرب)، وذلك عبر استعادته التاريخية لتجربة النبوة.

بعد أن يستعرض الجورشي آفات وكوارث التنظيم بصورته الحالية، يقترح على تلك الحركات المضي في تنفيذ تطور تنظيمي ينهي الصيغة شبه العسكرية الحالية لها، لتتحول إلى تنظيم يميل إلى الجبهات منه إلى الأنوية الصلبة المغلقة.

ويعدد الجورشي سمات هذا التنظيم كما يراه، ومنها أن يقر بالاختلاف ولا ينزعج من الأجنحة التي تربطها قواسم مشتركة وتخوض صراعات ديمقراطية حول البرامج والمواقف والتوجهات العامة، على أن يحسم كل خلاف بالتصويت والأخذ برأي الأغلبية، وتكون القيادة فيه قيادة جماعية، تقل فيه السلطة الفردية وتقاوم فيه البيروقراطية بهوادة، وتتصدر قيادته الكفاءات بقطع النظر عن السن وتاريخ الانتماء وكثرة التهجد والمدة التي أمضاها العضو في السجون.

الرجل هنا يلمس منهج اختيار المسؤولين بشجاعة تبدو تقدمية جدا في زمن كتابة هذه الدراسة، وهو يدعو إلى تمدين ومأسسة ودمقرطة تجعل التنظيم يبدأ من الداخل لينتهي في صلب الحركة العامة للمجتمع، محفزا وليس قيما، منفتحا يتسم بتفاعل ديناميكي قادر على تغيير تقاليده وبنيته باستمرار حسب الواقع الموضوعي للشعب والوطن، لا يرى تناقضا بين الوطني والإسلامي.

ويدعو الجورشي إلى المزيد من النقد الداخلي، محذرا من غياب التخطيط الإستراتيجى والمراجعة في الفكر والتربية والتنظيم وفقه التحولات السريعة في العالم وموازين القوى والخروج من العزلة ورفع شعار اليد الممدودة للجميع، طارحا البحث عن صيغ عالمية للتوافق حول الأهداف والمصالح.

وهو هنا يقدم رؤية عميقة تطرح على تلك الحركات تغييرات هيكلية نادى بها بشجاعة، وذلك قبل أن يتبين الخيط الأبيض من الأسود، وتنكشف تلك الحركات أخلاقيا وسياسيا بفعل محرقة الثورة والحكم، التي كشفت هشاشة البنية وتهافت العقل والمنطق الحاكم لتلك الجماعات التي تتأبى على تغييرات كالتي يطرحها الجورشي.

أحمد بان

كاتب و باحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock