“يقال إنك إذا همت في الصحراء قرب الغروب، وكنت تشعرين ربما بقليل من الضياع وكثير من العناء، فإنك محظوظة لأن (لالوبا) قد تميل إليك وتريك شيئا ما، شيئا ما من الروح”،.. من كتاب “نساء يركضن مع الذئاب”.
حين بلغت الأربعين من عمرى تعرضت لحالة اكتئاب حادة ذهبت على أثرها لطبيب نفسي، بعد عدة جلسات نصحني الطبيب بالذهاب إلى ورشة “إعداد الممثل”، وهناك تعرفت للمرة الأولى على الفنان أحمد كمال الذي كان يدير الورشة، وأخبرته أنني لا أرغب أن أكون ممثلة، وإنما أبحث فقط عن فرصة للتعبير عن نفسي في إطار مساحة آمنة.
جاء التدريب الأول تحت عنوان “الحواس الخمس” (السمع، البصر، الشم، التذوق، اللمس)، طلب أحمد كمال أن يختار كل شخص حاسة واحدة فقط من الحواس الخمس ليحكي تجربة مرت به تتعلق بتلك الحاسة. يومها اخترت حاسة اللمس ورويت حادثة عنف تعرضت لها حين كنت طفلة في الخامسة من عمرى، كانت تلك هي المرة الأولى التي أروي فيها تفاصيل تلك الحادثة التي ظللت أحبسها داخلي على مدى الخمسة وثلاثين عاما التالية لوقوعها، المفارقة أن إقدامي على البوح بها وإطلاقها من داخلي في ذلك اليوم بدا وكأنه ميلاد جديد لي.
العجوز العارفة
يطلق الباحثون المتخصصون في دراسة الأساطير على “لالوبا” اسم العجوز العارفة، وتصفها كلاريسا بنكولا مؤلفة كتاب “نساء يركضن مع الذئاب، الاتصال بقوى المرأة الوحشية.. قصص وأساطير” بأنها “المرأة العجوز التي تقف بين عالمي العقل والخرافة”. وتضيف المؤلفة: “كل انسان لديه القدرة على جبر كسور روحه، من خلال التأمل العميق أو الرقص أو الكتابة أو الرسم أو الصلاة أو الغناء أو الترديد المتواصل لفكرة ما أو بالخيال الفعال أو من خلال أي نشاط يتطلب تكثيفا للوعي أو تبديلا له، وهو ما من شأنه أن يصلح كسور الروح، التي تحتاج حتى لدى أفضل الناس إلي إعادة صقل من وقت لأخر.
يستعرض الكتاب كما هائلا من القصص الشعبية التي جمعتها المؤلفة، منها قصة “لالوبا” تلك العجوز التي تجمع العظام وتعيد تكوين الهيكل العظمي لأصحابها كاملا، ومن ثم تبدأ في الغناء له وتستمر في الغناء حتى تبدأ المخلوقة في التنفس مجددا. تعلق كلاريسا على الحكاية بقولها: أن ثمة أسئلة يجدر علينا أن نسألها لأنفسنا على الدوام: ما الذي حدث لصوت الروح عندي؟ متى كانت آخر مرة انطلقت فيها بحرية؟ كيف أجعل حياتي تنبض بالحياة مرة أخرى؟ إلى أين ذهبت لالوبا؟
تواصل مع النفس
لا يقتصر العلاج بالفن على العلاج بالحكايات الشعبية، فهو يتضمن أيضا العلاج بالرسم والموسيقى واللعب والرقص وأعمال الخزف والفخار وغيرها من الحرف اليدوية، فضلا عن السيكو دراما، وهي في مجملها وسائل فنية يتاح من خلالها التعبير عن المشاعر والأفكار دون الاعتماد على التعبير اللفظي المباشر، وهو أمر نحتاج إليه في كثير من الأحيان.
لا يهدف العلاج بالفن إلي إنتاج فن جميل أو بناء موهبة، إنما هو وسيلة لمساعدة الشخص على الشعور الجيد تجاه نفسه والعالم من حوله، يمنحه فرصة جيدة للتواصل مع نفسه ومن حوله. والمعالج هنا لا يفسر للمريض معنى ما قام به من عمل فني، سواء كان رسما أو خزفا أو غيره من الفنون، هو فقط يساعده أن يكتشف بنفسه مدلولات ما قد رسمه أو انتجه، اعتمادا على آلية التداعي الحر.
تقول الطبيبة النفسية رحمة التركي: قبل ثلاث سنوات التحقت بورشة سيكو دراما أفادتني كثيرا، واكتشفت من خلالها أنها يمكن أن تكون مفيدة لمساعدة ضحايا العنف والصدمات. وتضيف: العديد من المشكلات التي تتعرض لها النساء تتم في بيئة تحرم التعبير عن الجسد، من هنا يوفر العلاج بالرقص مثلا بيئة صحية مختلفة عن تلك البيئة التي تحرم فيها النساء من التعبير أو التواصل مع أجسادهن. وتواصل: “الست بعد السيكو دراما أو الرقص تتغير رؤيتها لنفسها، العينان والوجه نفسه يطالهم التغيير، تعاتب نفسها ويأخذ لومها لنفسها يقل، أذكر تعبير إحداهن البسيط عن تلك الحالة، بقولها: الناس قالوا لي أنت كنت داخلة بوش وخارجة بوش تاني خالص”.
إطلاق الطاقات الكامنة
تروي مروة عن تجربتها مع العلاج بالفن: “التمثيل ساعدني أخرج طاقة، كنت داخله في ظلام مرعب، التمثيل تجربة مرعبة، وفيها جزء من الألم غير قليل، لكنه ساعدني أخرج طاقة سلبية، وبعدها بقى زي لعبة، التمثيل تحديدا يساعد على الحركة، تعاني أحيانا من ظلام مرعب لكن اندماجك في التمثيل يطلق قدرتك على الحركة، الناس بدأت تشجعني وتمنحني الثقة في نفسي وفي قدراتي، وبدأت أعمل مع أصحابي أفلام قصيرة ومسرح، ما أديته من أدوار كان فارقا في حياتي الشخصية”.
وعن تجربتها مع العلاج عن طريق الرقص تقول: “الرقص الشرقي يرتبط بتحريك أجزاء من الجسم نادرا ما نستخدمها، اكتشفت أن في جسدنا أجزاء تخزن الألم ومع تحريكها قد تشعرين بالألم لكنه يساعدك على تحريك المياه الراكدة وإطلاق الطاقة السلبية المختزنة لديك، الرقص يساعدك أن تتصالحي مع جسدك، تشعري باحترامه وتلعبين به، ترتفعين عن الأرض وتشعرين أنك أخف في الحركة، الفن عموما يساعد على التلاؤم مع النفس، وأدعو كل الناس أن تخوض تجربة العلاج بالفن”.
فن البوح
أميرة سليمان، الباحثة في مجال العلاج بالفن، توضح أن هذا النمط من العلاج عادة ما يتم في إطار خطة يشارك في وضعها الطبيب النفسي والأخصائي النفسي والمعالج بالفن، وهو يمثل منهجية تعبير واستكشاف عبر البوح، ويتعين على من يمارسه أن يمتلك القدرة على الإبداع والابتكار ومهارة توظيف الفن في العلاج، فما يناسب أحد المرضى قد لا يكون مناسبا لغيره، وكل مرض يحتاج إلى نوع معين من الفنون وقد لا تناسبه أنواع أخرى، على سبيل المثال المرضى الذين تعرضوا لصدمات، الأنسب لهم العلاج عن طريق أعمال الخزف والفخار، ذلك أن تعاملهم مع مادة الطين يشعرهم أنهم أكثر اتصالا بالأرض وأقرب إلى الواقع المادي الملموس المحيط بهم.
وتكشف أميرة أن النساء هن الأكثر اقبالا على العلاج بالفن عامة، ويرجع ذلك إلى أن قدرة المرأة أكبر على المشاركة الوجدانية والارتباط بالأشياء، ما يجعل تأثرها بالفنون أكثر من الرجال، خاصة في تلك الممارسات التي تتطلب قدرا من التناغم الحركي أو اللفظي أو اللوني. إلا أن أميرة تعرب عن مخاوفها إزاء غياب آلية رقابية على الجهات التي تمارس العلاج عن طريق الفن وخطورة ممارسة هذا العلاج من قبل أشخاص غير مؤهلين، أو التعامل معه بنوازع تجارية أو مجرد تقليعة جديدة لاستغلال المرضى، ما يتطلب تطوير منظومة التعليم الجامعي بما يتيح الفرصة لدمج مختلف التخصصات في إطار منظومة تعليمية متكاملة.