التأكيد الدائم على أهمية المواطنة وضرورتها الملحة بات أمرا لا خلاف عليه نظرا لما نشهده من انتهاك لما تفرضه المواطنة بمعناها الشامل من حقوق وواجبات. هذا ما يشير إليه د. أحمد زايد في مقدمة كتابه المهم “المواطنة.. الهوية الوطنية والمسئولية الاجتماعية ” الصادر مؤخرا عن دار العين.
يؤكد الكتاب أن الحديث عن المواطنة مجددا وعلى كثرة ما كتب حولها، ليس غريبا بسبب انتشار العنف هنا وهناك وشيوع الإرهاب الذى يحطم بكل قسوة كل مفاهيم الحرية والأمن والعيش المشترك، ما انعكس فيما نشهده من حوادث قتل على الهوية للأقباط في مصر، فضلا عن ما تشهده الأقطار العربية من صراعات عرقية وقبلية.
ينبه زايد إلى أن تغليب الانتماءات الدينية والقبلية والعرقية يعد تغييبا لصورة الوطن الكلية، لما يخلقه من انتماءات أضيق من حدود الوطن أحيانا وأوسع من حدوده في أحيان أخرى، كما نرى في دعاوي انتماء ديني أممي يخايله وهم “خلافة جامعة”، ولا يرى الوطن إلا حفنة من تراب لامعنى لها.
ابتعد زايد، بروح عالم الاجتماع القدير، عن تجريد مفهوم المواطنة، ساعيا إلى مقاربته في سياقاته الاجتماعية والسياسية والفكرية، ولهذا قسم كتابه إلى ستة فصول، الأول والثاني منها بمثابة المناخ الحاضن للمواطنة التي لا تقوم إلا بوجوده، فيما يشبه الأرضية التي تقام عليها بنية المواطنة، وهي تتمثل أساسا في العدالة الاجتماعية باعتبارها أصل بناء المواطنة والهوية الوطنية، فالمواطنة لا تنتظم على نحو فعال إلا إذا تأسس نظام اجتماعي عام على مفاهيم العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات. أما المكون الثاني الذى ينبغى ترسيخه فى الوعي العام فهو مفهوم “المدنية”، وتعني التعايش السلمي بين المواطنين على اختلاف أديانهم وأوضاعهم الاجتماعية، وما يصاحب ذلك من قيم المواطنة كالثقة والتسامح والاحترام المتبادل.
تعليم من أجل المواطنة
ويمثل الفصل الثالث واسطة العقد أو غاية الكتاب الأساسية، وفيه يحدد لنا زايد تعريف المواطنة وأنماطها، لينتقل بعدها في الفصلين الرابع والخامس إلى تناول علاقة المواطنة بالهوية الوطنية والمسئولية الاجتماعية. ولأن الحديث عن المواطنة لا يكتمل إلا بمقاربة التعليم بوصفه المنظومة الأكثر فاعلية فى تأهيل المواطن وترسيخ مبادئ المواطنة، اختار زايد أن يختتم كتابه بالفصل السادس والأخير الذي يحمل عنوان ” التعليم من أجل المواطنة”، متناولا ثلاثة محاور أساسية، هي: التعليم والالتزام الأخلاقي، والقيم الأخلاقية في المنظومة التعليمية، وآليات التكوين الأخلاقي في التعليم.
التراث والمعاصرة
نحن أمام كتاب يقدم العديد من القيم والمبادئ التي ينبغي أن تكون سلوكيات فاعلة وحاكمة للوعي العام بوصفها لحمة الهوية الوطنية وسداها. واللافت حقا أن زايد يسعى دائما إلى تأصيل هذه القيم رغم حداثة انتشارها، ويرى أن الحكمة غايته سواء وجدها فى التراث أو فيما هو معاصر، لهذا هو لا يفرق مثلا بين تعريف ابن خلدون وديفيد ميلر للعدالة، حين يرى الأول أنه لا سبيل للعمران إلا بالعدل، فيما يرى الثاني أن العدالة هي التوزيع العادل للفوائد والأعباء.
يستنتج زايد أنه كلما كان السياق العام مؤسسا على المساواة والعدالة كلما سمح بتفتح الهوية الوطنية، فيما يغذي غياب العدالة الاجتماعية مخاطر تشظي هذه الهوية وانقسامها. والحقيقة أن فكرة العدل فكرة قديمة ويمكن أن نقول إنها أمل الإنسان منذ وجوده على الأرض، ولعل أقدم وثيقة لها تتمثل فيما قاله قديما الفلاح المصري الفصيح، ثم تنظيرات فلاسفة اليونان، وصولا إلى العصر الحديث. ولهذا كان طبيعيا أن يتطور مفهوم العدالة من مفهوم “الوسطية والتوازن” إلى مفهوم “رفع الاعتداء والظلم”، وصولا إلى نظرية “العقد الاجتماعي” التي تمثل تطورا فكريا كبيرا، لا فى نظرية العدل فقط بل فى تطبيقه على أرض الواقع.
ثم يواصل الكتاب استعراض النزعات الاشتراكية كما تظهر فى كتابات سان سيمون ومنظري الاشتراكية الفابية وأخيرا الاشتراكية العلمية التي ارتبطت بكل من ماركس وأنجلز، وصولا إلى ما عرف في السنوات القليلة الماضية بـ”الطريق الثالث” الذي يحاول الجمع بين العدالة الاجتماعية والديمقراطية.
كارل ماركس فريدريك أنجلز
من “الإحسان” إلى “الإنصاف”
وفي التفاتة ذكية يشير المؤلف إلى تطور مفهوم العدالة الاجتماعية فى المجتمع المصري: “فقد كان قبل ثورة 1952مفهوما تصحيحيا “إحسانيا”، يقوم على الإحسان والرعاية من قبل الأطراف القوية للأطراف الضعيفة، ثم تطور إلى مفهوم توزيعي وحمائي، ثم يظهر الأمل الآن أن تنقلنا المرحلة القادمة إلى مفهوم “الإنصاف”.
وإذا كانت العدالة تمثل شرطا وجوديا لتحقيق المواطنة فإن تدعيم مبادئ الدولة المدنية يعد أكثر لزوما حيث لايمكن أن تنمو المواطنة أو تزدهر إلا فى إطار ثقافة مدنية، كما أن العلاقة بين مفهوم المواطنة ومفهوم المدنية هي علاقة وثيقة، ومن المعروف أن الدولة المدنية ينبغي أن تتأسس على القانون وقيم قبول الآخر والمساواة والديمقراطية واستبعاد خلط الدين بالسياسة، وهي أركان متساندة متكاملة لا يمكن الاستغناء عن أحدها.
الضمير الأخلاقي
وتوضيحا واستكمالا لمفهوم المواطنة يعرض الكتاب لأنماط متعددة للمواطن منها: المواطن المثالي، والمواطن التضامني، والمواطن النشط، ثم المتباين، والانتهازي، والهامشي، والقدري، ويشدد على أهمية ما يسميه بـ”الاندماج الثقافي” لتحقيق المواطنة وتجاوز حالات التفكك والانقسام العرقي والسلالي والاثني.
وكما عرض لأنماط المواطن، يعرض أيضا لمستويات الهوية الممثلة في: الهوية الأسرية، والقبلية، والطبقية، والإقليمية، والمهنية، والدينية، والاثنية، وكلها هويات جزئية ينبغي تجاوزها إلى هوية وطنية لا تقوم على الإقصاء، بل على التفهم والاستيعاب. وهنا يلفت الكتاب إلى أهمية “المسئولية الاجتماعية” التي تقوم على الضمير الأخلاقي، وهو شرط نادى به الكثير من المفكرين بعد الدمار الشامل الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، وفي هذا السياق تأتي أهمية دور التعليم في تعزيز قيم المواطنة والالتزام الأخلاقي.
دور التعليم
كما يشدد د. أحمد زايد على أهمية دور علماء الدين في ترسيخ مقاصد الشرع بوصفها السبيل إلى حفظ حياة الإنسان ودينه ونفسه وماله ونسله وعقله. ويورد هنا رؤية ابن خلدون في رسالته عن التعليم، التي تؤكد أنه “إذا صلح التعليم صلحت الأخلاق وتبلور الأساس الأخلاقي للتمدن والاجتماع الإنساني”، كما يشير إلى تطور هذا المفهوم على يد رفاعة رافع الطهطاوى في كتابه “المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين” الذي يؤكد فيه أهمية المواطنة وعدم التمييز على أساس الجنس.
رفاعة الطهطاوي ابن خلدون
من كل ما سبق يخلص المؤلف إلى ضرورة التركيز على نشر التعليم المدني مع تأكيد القيم الأخلاقية في منظومة تعليمية تقوم على الجدارة والإنجاز والتبادلية والعمل الجماعي. ويقدم د. زايد هنا ما يشبه برنامجا عمليا لتحقيق هذه الأهداف وفق ما أسماه “آليات التكوين الأخلاقي في التعليم”، اتساقا مع ما يرمي إليه في كتابه من التأسيس لوعي مستنير قادر على حل العديد من مشكلاتنا العميقة.