منطق العلاقات الإنسانية يقول إن الإنسان الذي يولد لعائلة معروفة ينال من حسن الحظ جانبًا، ولكن هذا المنطق يرتبك في حالة الأستاذ الجامعي والمترجم والناقد والمؤلف المعروف رمسيس عوض.
ولد رمسيس في العام 1925 لأسرة عوض المعروفة في صعيد مصر، يكفي أن شقيقه الأكبر هو الدكتور لويس عوض صاحب الوجود الصاخب على الساحة الثقافية المصرية والعربية، لكن لأن الرجل كان رجل مفارقات كبرى فقد أوقع الشيطان بينه وبين شقيقه ذائع الصيت، فلم يربح من صلة القربي إلا الخسائر.
تلك الخسائر ستتجلى يوم الأحد الثامن عشر من نوفمبر الماضي، وهو يوم رحيل رمسيس، رحل في هدوء بل في صمت مطبق، وكان خبر رحيله باهتًا لا يليق برحلة عمر أفناها في التدريس الجامعي والترجمة والنقد والتأليف منذ حصوله على شهادة الدكتوراه في العام 1956.
عرف المهتمون بشئون الأدب بخبر رحيل الدكتور رمسيس بعد موته بعشرة أيام، وتلك مفارقة عظمى في حد ذاتها.
بدأت مأساة رمسيس عندما نشر شقيقه الدكتور لويس سيرته الذاتية التي حملت عنوان “أوراق العمر” وتناول فيها ـ من وجهة نظره طبعًا ـ العالم السري لعائلته، وكان من ضمن أفراد العائلة شقيقه رمسيس الذي شن عليه حملة قاسية فقد وصفه بالغيرة والحقد والحسد، بل تحدث عن كونه عقيمًا لا ينجب.
هذه الآراء القاسية عملت عملها في نفس رمسيس الذي سيسجل واحدة من مفارقاته ولكن بعد رحيل شقيقه لويس. كان لرمسيس رأي سلبي في كل دور النشر الخاصة، فلم يكن يتعامل معها، وقد مد خيط تلك السلبية فحظر إعادة نشر كتب شقيقه التي نفدت طبعاتها، وعندما عارضه المثقفون برر قراره بأن أصحاب دور النشر الخاصة مجموعة من المستغلين وعليهم أن يدفعوا المال الذي يحدده هو لإعادة نشر كتب شقيقه.
تجرأ صاحب دار نشر خاصة وسأله عن المبلغ الذي يريده، فطالبه بمبلغ خرافي يدخل تحت باب التعجيز، وهنا فطن المثقفون للهدف الخفي لرمسيس، لقد أدركوا أنه يريد حظر إنتاج شقيقه لكي يرد له الصاع صاعين.
قامت قيامة المثقفين وشنوا عليه حملة واسعة ولكنه لم يرد على أحد حتى ماتت الحملة. تخيل معي كاتبًا يحظر نشر مؤلفات كاتب زميل ولا أقول شقيق، وتأمل تقلب القلوب.
عندما ينظر الناظر إلى قائمة إنتاج رمسيس عوض سيجدها ممتلئة بثمانين كتاب، وهذا رقم كبير جدًا يحقق لصاحبه مكانة رفيعة وشهرة عريضة، لكن المكانة حققها بين تلاميذه الذين عرفوا غزارة عمله وحرصه على إتقان عمله، أما الشهرة فلم يحظ منها إلا بأقل القليل.
من مؤلفات الدكتور رمسيس التي لا تنسى “برتراند راسل الإنسان”، “جورج أورويل حياته وأدبه”، “الأدب الروسي قبل الثورة البلشفية”، “دوستيوفسكي في المنفى”، “الهولوكست بين الإنكار والتأييد”، “توفيق الحكيم الذي لا نعرفه”، و”هل أنت شيوعي يا مستر شابلن؟”.
فكيف يكون التجاهل هو مكافأة كل هذا الإنتاج؟ لا إجابة سوى أن المفارقة كانت قدر حياة الرجل، ولم يولد بعد ولن يولد الذي يستطيع الفرار من قدره. ومن مفارقات الراحل الكريم أنه وقد عاش فوق الثمانين عامًا لم يفقد خلالها لياقته الذهنية، بل لم يفقد شغفه بالتدريس وتعليم الأجيال الشابة، وهو الأمر الذي سجلته بعذوبة تلميذته “إيريني ثابت” التي قابلته قبل رحليه بعام فكتبت في رثائه: “ما زال كما هو منذ عشرات السنوات بكامل صفاء الذهن، وحسن الانتباه، وذوق الأجيال القديمة، وبشاشة الوجه حين يلقى تلاميذه، وما زال شكله كما هو وكأن السنين لا تجد الطريق إليه، ليس حسدا كما نقول فى مجتمعنا المصرى، ها قد أمسكت الخشب أستاذي، هذا سيقلب لك موازين حسابات العمر وتقدمه، وكأن العمر له قانون آخر غير عدد السنوات وتاريخ الميلاد.
بمجرد أن لمحته وبصوت عال قلت: “أهلا يا دكتور.. أنا حظي حلو النهارده”، التفت وفي أقل من ثوان كان ينطق باسمي متهللا برؤيتي كما أنا برؤيته، ومتذكرا اسمي، ومن أكون، وكل شيء عني، وعن أسرتي التي سأل عليها فردا فردا.. يا سبحان الله!! أنا لا أتذكر أسماء الطلاب الذين أقوم بتدريسهم أبدا، صحيح أنه كان المشرف على رسالتي ولكن هذا كان منذ عصور مضت”.
لا أبالغ عندما أكشف عن ثقتي بأن الدكتور رمسيس سيواصل من قبره مفارقاته، وسيلمع اسمه ويحتل المكانة التي تليق برجل أفنى عمره بين التعليم والتأليف.