يروي ابن بشر، مؤرخ الدولة السعودية الأولى والدعوة الوهابية، حكاية تتعلق بسيرة تكوين محمد بن عبدالوهاب قبل إعلان دعوته، في كتابه “عنوان المجد في تاريخ نجد”: «سار – محمد بن عبدالوهاب- إلى المدينة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فلما وصل وجد فيها الشيخ العالم عبدالله بن إبراهيم بن سيف، من آل سيف رؤساء بلدة المجمعة القرية المعروفة في ناحية سدير من نجد.. فأخذ الشيخ عنه، قال الشيخ: كنت عنده يومًا فقال لي: أتريد أن أريك سلاحًا أعددته للمجمعة؟ قلت نعم. فأدخلني منزلًا فيه كتب كثيرة، فقال: هذا الذي أعددناه لها».
يعتبر علي أحمد الديري هذه الواقعة، في كتابه «إله التوحش.. التكفير والسياسة الوهابية»، حكاية ذات دلالة، تتعلق بسيرة تكون محمد بن عبدالوهاب قبل إعلان دعوته، فالشيخ عبدالله آل سيف، أحب أن يوضح له أنه أعد سلاحًا لنشر العلم والمعرفة فأخذه إلى مكتبته العامرة بالكتب، لربما كان قد لمس من حديثه مع تلميذه ميل الأخير إلى استخدام العنف والغلظة في دعوته، فارتأى أن يعطيه درسًا غير مباشر، لاعتماد الكتاب سلاحًا في الدعوة.
يعتمد الكاتب على الكتب السعودية المعتمدة في التأريخ لسيرة «ابن عبدالوهاب»، في محاولة منه لإثبات أنه كان يميل للتطرف والغلظة منذ التكوينات الأولى لشخصيته، لكنه إذ يفعل ذلك يذهب في اتجاه التفسيرات الذاتية.
فمع أنه يعترف بأن ابن بشر لم ينقل رد ابن عبد الوهاب على قول أستاذة «هذا الذي أعددناه لها»، إلا أن يعود للتدخل في النص بقوله «لا نعرف ما إذا كان قد تبسم في وجه أستاذه، أو ضحك ساخرًا، من سلاحه، أو جادله في صلاحية هذا السلاح، أو أبدى إعجابه بمكتبته».
لكن على مستوى الحكاية الكبرى، يخبرنا هذا المؤرخ، أن محمد ابن عبدالوهاب راح يعد القوة والمهاجرين والجيش والمجاهدين، فصاروا أسلحته التي غزا بها نجد كلها وصولًا إلى بلدة المجمعة في العام 1769م، بقيادة الأمير عبدالعزيز بن محمد بن سعود، وخلال سنوات أعلنت خضوعها وإيمانها بالدعوة.
يصل «الديري» من هذه الحكاية إلى أن مؤسس الدعوة النجدية لم يقتنع بالمكتبة ولا بالكتب سلاحًا لدعوته، ولو كان قد اقتنع لظلت الحكاية صغيرة، تتناقلها كتب التراجم والسير، لكنها كبرت لترويها كتب التاريخ والملاحم، بل إنها خطت تاريخًا جديدا، أملته على ابن بشر، فكان كتابه «عنوان المجد».
لا أدري كيف وصل «الديري»، لهذه النتيجة وهي أن ابن عبدالوهاب لم يقتنع بالمكتبة، لأنه ذهب للبحث عن قوة سياسية تتبني دعوته، فوجد ضالته في التحالف بمحمد بن سعود، شريكه في تأسيس الدعوة السعودية الأولى (1744-1818م)، وأنه لم ترق له أفكار مشايخه في نجد، ولا أساليب دعوتهم، ولا أسلحتهم في تغيير المجتمع.
فابن عبدالوهاب، وإن ذهب لعسكرة دعوته، إلا أن روافعها ومرتكزاتها الأساسية ظلت فيما دشنه من ثوابت عقدية وقواعد شرعية وأحكام فقهية، لم تأثر فقط على شبه الجزيرة العربية، بل امتدت لتضرب أفكار حركته المنطقة برمتها، ولتؤثر كتبه وكتب دعاة النجدية من تلامذته، في الجماعات الإسلامية بكافة تنويعاتها، حتى تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، اعتمد على كتبه خالصة في تدريس العقيدة في معسكراته وحلقاته الشرعية.
كان يمكن تقبل طرح الكاتب لو كان يتحدث عن جماعة الإخوان ومؤسسها حسن البنا، إذ سبقت حركة تلك الجماعة التنظير بمراحل، كما أنها لم تعتمد على ضبط مدونات شرعية موحدة لتكون نبراسًا لأتباعها، يبدو عن عمد، حتى لا تقع حركته فيما وقعت فيها حركات أخرى، من الوقوع في وحل التفصيلات الفقهية، ما ينتج عنه اندلاع الصراعات الداخلية، ومن ثم الانشطارات.
يقول الديري: الرايات السود التي تحمل في وسطها «لا إله إلا الله»، هي عنوان الحركة الجديدة، وهي ليست شيئًا آخر غير القوة والسلطة التي مثلتها الدولة السعودية الأولى في الدرعية، فالراية علامة على هذه القوة، كان محمد بن عبدالوهاب يؤمن بالقوة التي تفرض على الناس معناها، ولا يؤمن بالدعوة المطلقة من القوة التي تترك للناس أن يختارو، أن يؤمنوا بها أو لا يكترثوا لها.
لم يدخل الكاتب بعد في متن الموضوع مكتفيًا بالتحليق حول الهوامش، فضلا عن أنه لم يكن موفقا في استدعائه لرمزية الراية السوداء، التي ليست مؤثرة في نقده للحركة الوهابية، التي لم تتفرد في استخدام تلك الراية، إذ أنها تمتلك حججا في الدفاع عن رمزيتها، كما أمتلك داعش تلك الحجج.
يستمر الكاتب في التحليق في جدلية الكتاب والقوة في محاولة تفكيك شخصية ابن عبدالوهاب، فيركز على أن ثقة الشيخ كانت في القوة المحققة لمعنى التوحيد المتوحش الذي دعا إليه تحت شعار «لا إله إلا الله»، قد حسم الدعوة مبكرًا فصارت الدعوة دولة وسياسة وجيش وقوة وغزو وحرب وقتل.
الدعوة أخذت صيغة العرض والإبلاغ والاختيار وإقامة الحجج والإقناع، وقد حسم محمد بن عبدالوهاب ذلك مبكرًا، منذ وجد القوة المساندة للدعوة في اتفاق الدرعية 1744م، حتى رسائله للقبائل والبلدات، ما كانت جزءًا من الدعوة، بل من القوة، فهي كانت بمثابة إقامة للحجة عليهم لتبرير غزوهم، أو لنقل كانت دعوة تحت التهديد.
كان يريد أسلحة تدعم كتبه التي تبشر بدعوته، الكتاب وحده ليس سلاحًا والمكتبة وحدها ليست جيشًا، أراد جيشا يفرض كتبه ورسائله، أراد أسلحة تفرض حججه على الجميع ليؤمنوا بها، أراد مقصلة يفصل بها الرؤوس حسب إذعانها لإيمانه.
ما حدث في المجمعة حدث في العيينة وأشيقر والرياض ومنفوحة وكل بلدات نجد، إنه الإيمان المدعم بالقوة، قوة السيف لا قوة الحجة، كتاب القوة لا كتاب السيف.
يحاول الكاتب من خلال نصوص بن عبدالوهاب، أن يبرهن على فرضيته المتعلقة بنصوص التوحش، وهي الفرضية التي تنص على أن التكفير مشروع قتل يمليه صراع سياسي، التكفير هو تجريد الإنسان من إنسانيته ( حرمة دمه، ماله، ونفسه، وعرضه، وعقله) لغاية سياسية.
يضع الكاتب 3 شروط حسب هذه الفرضية للنصوص التي اختارها للدراسة، وأطلق عليها صفة التوحش (نصوص متوحشة): الشرط الأول أن يكون النص آمرًا بالقتل المادي، وليس مكفرًا فقط للمسلم الذي يقر بالشهادتين، والشرط الثاني أن يكون النص فتوى أو حكمًا منتجًا من فقيه (ليس مجرد حديث يروي)، والشرط الثالث أن يكون النص مكفرًا فقط للمسلم الذي يقر بالشهادتين. وأخيرا أن يكون النص ضمن فضاء سلطة سياسية تمثل قوة قائمة بالفعل ووضعت فترة زمنية لتحديد مجال العمل، كما في نصوص التراث بشكل عام أو كان امتدادًا لهذه النصوص كما في حالة الوهابية.
جاء اختيار الكاتب لنصوص محمد بن عبدالوهاب، لأنها تكفر وتأمر بالقتل المادي وتمارسه على المسلم المقر بالشهادتين، وقد أنتجت هذه النصوص فقهًا في شكل أحكام وفتاوى، ضمن فضاء السلطة السياسية التي هي الدولة السعودية الأولى في الدرعية، وهي امتداد لنصوص التوحش عند ابن تيمية في القرون الوسطى.
أدرك محمد بن عبدالوهاب “وفق الكاتب”، أنه لا يمكن للمكتبة وحدها أن تحول نص التكفير إلى فعل قتل، فكفر بها، وراح يبحث عن قوة تجعل من خطابه وحشًا ضاريًا في صحراء نجد، أراد أن ينبت لنصوصه التكفيرية مخالب ضارية، فكان سيف الدرعية.
لقد صيغت وثيقة الدرعية على قاعدة «الدم الدم والهدم الهدم»، وفق ابن بشر في كتابه، مما دعا الكاتب على أن يرى منها اتفاق على أن نص التوحيد ضمان لدم الدولة وضمان لدم الدعوة، وهدم أحدهما هدم للآخر، هي ضمان للتوحيد السياسي للدولة الخاضعة بالقوة لعقيدة إيمان موحدة ومعممة وغير قابلة لأي تأويل ومهابة وناطقة في مراسيم الحكم وألسن الناس.