منوعات

لقاءات مع الإدمان عن كثب.. عالم الأشباح الجائعة

معظم الناس يصنف الإدمان باعتباره مرضًا تمارسه شخصيات تعاني من انحرافات سلوكية، لكن ثمة رأي آخر يطرحه الطبيب والكاتب الكندي جابور ماتيه عبر تفسيره الإدمان بأنه نتيجة حتمية لما يختبره الناس من صدمات وتجارب مؤلمة خاصة في الصغر.

وبدلًا من النظرة الضيقة للإدمان المرتبطة بالمخدرات والكحوليات فقط، يستعرض ماتيه في كتابه “في عالم الأشباح الجائعة.. لقاءات مع الإدمان عن كثب” أنواعا متعددة من الإدمان بداية من إدمان العمل أو الموسيقى وحتى الأفلام الإباحية والقمار.

وفقًا لتعريف ماتيه للإدمان فهو: أي سلوك يمنح الإنسان راحة ومتعة مؤقتة وعواقب سلبية لاحقة، ومع ذلك يعود إليه الشخص مرارًا وتكرارًا، وليس بالضرورة أن يكون هذا السلوك مرفوضًا، فقد يدمن الشخص التسوق أو الرياضة، لكن السؤال هو: ما الذي يدفعنا لذلك؟

الإدمان ليس مرضا

خلاصة فلسفة ماتيه أن الإدمان ليس مرضا، وإنما عرض لمشكلة عميقة تعرض لها الشخص في بداية حياته كالخسارة العاطفية أو الصدمات القوية، وبالتالي فإنه يبحث من خلال إدمانه عن حل ولو مؤقت لتلك المشكلة، فالإدمان يساعدنا على الهروب من الألم العاطفي، كما يمنحنا شعورًا بالسيطرة والسعادة وراحة البال.

أحد حقوقنا الأصيلة كبشر هو أن نكون سعداء، لذا يؤكد ماتيه أن المدمن يريد فقط أن يكون إنسانًا، وهو يرى أننا غالبا ما نقع في الإدمان عندما تتمكن منا الرغبة في تشتيت أنفسنا عن الأسباب الحقيقية الأكثر احتمالًا لما نعاني منه، فعندما تتهدد سعادتنا بسبب صدمة ما، نلجأ إلى الإدمان لاستعادة تلك السعادة مجددا ولو لفترة قصيرة، رغم علمنا بأن ذلك قد يحمل لنا الضرر على المدى المتوسط والطويل.

اختبر ماتيه الإدمان بنفسه، فهو كان مدمنًا على العمل وشراء اسطوانات الموسيقى الكلاسيكية، لدرجة إنه في إحدى المرات ترك حالة ولادة في المشفى بسبب عدم قدرته على مغادرة متجر الموسيقى في الوقت المناسب، وعندما عاد إلى المنزل كذب على زوجته بشأن سبب تأخيره الحقيقي عن ولادة ذلك الطفل، على نحو يشبه تماما سلوك المدمن.

مشاعر دفينة

كان ماتيه يلهي نفسه بانغماسه في عمله، ولم ينتبه إلى كشف السبب الجذري لإدمانه إلا عندما بلغ سن الأربعين وحتى الخمسين، فهو ولد في المجر عام 1944 إبان احتلال النازي لبلده، وقتها أخذته أمه للطبيب لأنه لم يكن يتوقف عن البكاء، فأخبرها الطبيب وقتها بأن هذا هو حال كل أطفال اليهود، مفسرا ذلك بأنه رغم أن أولئك الأطفال لم يكونوا على دراية بما يحدث حولهم، إلا أن تلك المشاعر انتقلت إليهم من أهاليهم.

اضطرت أمه بعد ذلك أن تتركه في رعاية شخص غريب خوفًا عليه، فمنحه ذلك شعورًا بالإهمال والفقد، ما أثر على صحته النفسية وزواجه وحتى إحساسه كأب بعد ذلك، بانغماسه الشديد في العمل وإهمال عائلته وأولاده تعويضًا عن صدمته المدفونة، وكأنه يحمل إرثًا ثقيلًا من أبويه أراد أن يمرره إلى أبنائه، ليشعروا بالأحاسيس نفسها التي عانى هو منها في نشأته.

يقول ماتيه إن تلقي الأبناء في سن صغيرة صدمات عنيفة تلك من الأبوين، لا يمتد معهم تأثيرها النفسي مدى الحياة فقط، وإنما تؤثر أيضًا على النمو السليم لبعض الدوائر الدماغية المسئولة عن الحب والارتباط بالوالدين وغيرها  من المشاعر، ما يجعل هؤلاء الأطفال سريعي التأثر، وحين يمرون بتجربة تعاطي المخدرات مستقبلا يكون من السهل وقوعهم في الإدمان.

طريق الخلاص

 أولى خطوات التخلص من إدمان أي شيء تبدأ مع إدراك صاحبها وجود مشكلة، فعندما  قارن ماتيه بين وضعه كطبيب ناجح وفشله كزوج وأب، وجد أن الفجوة بينهما ضخمة، ما تطلب منه سنوات من العمل حتى نجح أخيرا في إصلاح علاقته بأسرته، بعد أن أدرك ضرورة أن يعمل على نفسه داخليا بدلا من محاولة ملأ فراغه الداخلي من الخارج.

في غضون أسابيع قليلة ستحل الذكرى السنوية 49 لزواجه، ويقول ماتيه إنه سيشرب يومها مع زوجته نخب 5 سنوات سعيدة، ويضيف: اخترت بالفعل الجملة التي أود تدوينها على قبري “تطلبت الحياة عملًا أكثر بكثير مما توقعت، فالاستيقاظ من النوم يتطلب منا مجهودا أكبر مقارنة بحالنا إذا فضلنا الاستمرار في النوم”.

يخلص ماتيه إلى أن الوعي الذاتي هو ما يجعلنا قادرين على معالجة صدمات الطفولة المترسبة داخلنا، ولكن لأن تلك العملية تنطوي –بطبيعة الحال- على ألم، فإننا نتجنب خوض غمارها، حتى يحدث ما يضطرنا إلى ذلك.

ويذهب ماتيه إلى أن هذا الأمر لا يتعلق بسلوك الأفراد فقط، بل يمكن أيضا أن يصيب مجتمعات بأسرها، ويقول: كل تلك الفوضى التي تعم العالم من حولنا ستدفعنا كمجتمعات في نهاية المطاف إلى تصحيح تلك الأوضاع المرتبكة ووضع الأمور في نصابها الصحيح.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock