الولايات المتحدة وباكستان ثم إيران وروسيا فالصين هي – على التوالي – الأكثر تورطًا واهتمامًا بالأزمة الأفغانية، ومن الطبيعي أن يتأجج الصراع، ويشتد، ويستعصي على الحل، بقدر التنافس والتضارب بين أولويات وأطماع هذه الدول في أفغانستان.
شاءت الظروف أن أطلع – بنفسي – على خريطة الحرب، التي يمكن وصفها بـ القذرة، في أفغانستان، جازفت بالذهاب إلى ميدان المعركة، ورؤية الجرح الأفغاني الغائر والدامي، بالعين المجردة، وبالذات، في مدينتي كابول وهرات، وأيضًا – لبيت الدعوة الكريمة لحضور مؤتمر أمني – علمي حاشد، على قدر كبير من الأهمية والشمول، نظمه المعهد الأفغاني للدراسات الإستراتيجية، في أواخر شهر أكتوبر الماضي، حمل عنوان: الأزمة الأفغانية.. الأسباب والحلول.
خبراء ومحللون وأكاديميون، وساسة ودبلوماسيون، أفغان، ومن 20 دولة ومنظمة دولية معنية بملف الأزمة الأفغانية، كانوا مشاركين – بقوة – في الجلسات السبع للمؤتمر، وانكشفت – وبانت – كل الأوراق والأجندات، واتجهت أصابع الاتهام، إلى من هم بحق وراء كل المصائب والبلايا، التي حلت بالأشقاء الأفغان، على مدى أربعة عقود، ولا ملمح لأي ضوء في نهاية النفق.
“طالبان” و”شبكة حقاني” وتنظيما “داعش” و”القاعدة”، كل هذه الكيانات الإرهابية، على الرغم من أنها كانت غير ممثلة في المؤتمر، إلا أنها باتت – على ما يبدو – هي اللاعبة الرئيسية – الآن – على أرض المعركة في أفغانستان، صحيح أنها لا تستطيع، تحت أي ظرف من الظروف، السيطرة على العاصمة الأفغانية، كابول، أو أفغانستان بأكملها، أو إعادة الإمارة الإسلامية، التي لا تحظى بأية شعبية في عموم أفغانستان، لتجنب تكرار محنة حكمها المظلم.
غير أن هذه التنظيمات الإرهابية، نفسها، لديها من القدرات والداعمين – من الداخل والخارج – ما يمكنها من مواصلة التمرد، وحرب الاستنزاف، بلا نهاية، ضد قوات الأمن الحكومية الأفغانية، والتحالف الدولي الداعم لها بقيادة الولايات المتحدة.
حركة “طالبان” تدعي أنها باتت تسيطر على 14 إقليمًا أفغانيًا، أي 56% من أراضي أفغانستان، بل وأصبحت قادرة – أيضًا – على استهداف المناطق الخاضعة – اسمًا – للحكومة المركزية في كابول، ويتردد أن التشجيع والدعم المباشر يتدفقان، سرًا وعلنًا، على مقاتلي “طالبان” من باكستان وإيران وروسيا وحتى الصين، في مواجهة ما يسمى بتمدد الدولة الإسلامية “داعش”، وتفشي ظاهرة الإرهاب والمخدرات.
القيادة الأمريكية في أفغانستان اعترفت بارتفاع عدد قتلاها إلى 12 منذ بداية العام الحالي، مع فاتورة باهظة التكاليف تصل إلى تريليون دولار، تحملتها الخزانة الأمريكية على مدى 17 عامًا.
قد يبدو رقم قتلى الجنود الأمريكان صغيرًا بالمقارنة مع 2400 قتلوا قبل عام 2015، عندما سلمت القيادة الأمنية للقوات الأفغانية، التي تتراجع فعاليتها، وفقدت – هي الأخرى – 30 ألفًا في السنوات الثلاث الماضية، وأرقام الخسائر مرشحة للارتفاع مع حلول فصل الربيع، الذي تتصاعد فيه هجمات الإرهابيين.
مع تزايد الخسائر الأمريكية البشرية والمادية في أفغانستان، أوفد الرئيس ترامب، مبعوثه زلماي خليل زاد، الأفغاني الأصل، للالتقاء بممثلي حركة “طالبان” في الدوحة، حيث تحتفظ الحركة بمكتب تمثيل، وبعد 5 جلسات على مدى شهرين، لم يتوصل المبعوث زلماي لأي اختراق، مما يؤشر إلى اتساع الهوة بين الطرفين.
الولايات المتحدة تريد التوصل إلى تسوية سياسية مع “طالبان”، تؤدي إلى إشراك الحركة، مع فئات أفغانية – موالية لها – في الحكم، أما “طالبان” فتصر على ضرورة إخراج قوات حلف الناتو كليًا من أفغانستان، وتسلم السلطة، وعودة إمارة أفغانستان الإسلامية إلى الحكم؛ مثلما كان عليه الحال قبل الاحتلال الأمريكي للبلاد في أكتوبر عام 2001.
الوجود الأمريكي في أفغانستان جاء- في البداية – انتقامًا للعمل الإرهابي البشع في 11 سبتمبر، والآن، يستهدف – بشكل أساسي – مواجهة تمدد التنين الصيني في “أوراسيا” والحفاظ على قواعد عسكرية بالقرب من إيران.
مع تزايد فاتورة حروب أمريكا لما بعد 11 سبتمبر، التي تقدر بنحو 5.6 تريليون دولار، تريد واشنطن تعليق فشلها، على شماعة باكستان، ووصفت إسلام آباد، وليس طهران، بأنها هي السبب الرئيسي وراء عدم الاستقرار في أفغانستان.
بدأت العلاقات الأمريكية – الباكستانية تتدهور منذ نشر الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في آسيا الجنوبية وأفغانستان، في أغسطس 2017، واتهمت واشنطن إسلام آباد حينها بدعم المنظمات المتشددة الناشطة ضد قوات الولايات المتحدة وحلفائها في أفغانستان.
في مقابلة مع شبكة “فوكس نيوز” الإخبارية قال الرئيس ترامب، إن باكستان “لا تعمل شيئًا” من أجل الولايات المتحدة على صعيد محاربة الإرهاب، مشيرًا إلى أن باكستان ساعدت مؤسس تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، على التخفي في أراضيها.
ورد رئيس الوزراء الباكستاني، عمران خان، على تصريحات الرئيس الأمريكي، مذكرا بأن باكستان انضمت، في العام 2001، إلى الحرب الأمريكية على الإرهاب، ومشيرًا إلى أن هذه الحرب خلفت مقتل 75 ألف باكستاني، وأفقدت الاقتصاد الوطني أكثر من 123 مليار دولار.
في الوقت نفسه، أعلن وزير الخارجية الباكستاني، شاه محمود قريشي، أن بلاده لا تتحمل المسئولية عن إخفاقات وخسائر الولايات المتحدة في أفغانستان.
باكستان تظهر دائمًا أنها معنية بالأزمة الأفغانية ليس – فقط – بحكم علاقات الجوار الجغرافي والارتباط التاريخي والثقافي، بين البلدين الشقيقين، ولكن الأهم هو مصلحة إسلام آباد المباشرة في عدم قيام دولة قوية في أفغانستان، يمكن أن تهددها وتتحالف مع خصمها اللدود في الهند، وبالذات، بعد أن أظهرت نيودلي اهتمامًا – في الفترة الأخيرة – بالتعاون مع بكين في: إقامة البنية التحتية، وبناء المؤسسات وتدريب الدبلوماسيين، وتقديم المنح وإدارة الكوارث في أفغانستان.
إيران وضح أن لها – هي الأخرى – مصلحة أمنية مشروعة في دعم حركة طالبان، خصوصًا بعد أن باتت طهران محاصرة بقوات مسلحة أمريكية، من كل الجهات، تستهدف إسقاط النظام الإيراني، وبالتالي فإن قيام طهران بتزويد طالبان بالسلاح يبدو منطقيًا؛ لأن الحركة تقاتل أمريكا.
روسيا، من جانبها، تسعى إلى الحفاظ على نفوذها الإقليمي، وإلى منع تسلل المخدرات والإرهاب من أفغانستان، عبر حدودها، مشيرة إلى أن 50 ألفًا من مواطنيها يموتون سنويًا؛ نتيجة لتعاطي المخدرات، وترى أن “طالبان” يمكن أن تكون أداة مناسبة لتحقيق أهدافها.
خلال احتلال قوات الاتحاد السوفيتي لأفغانستان – الذي استمر نحو 9 سنوات في الثمانينيات – بلغ عدد قتلاه 15 ألفًا، في حين بلغت خسائره المادية 118 طائرة، وأكثر من 300 مروحية، وأعداد كثيرة من الدبابات والمعدات والأسلحة، وقد أعاد قلق روسيا من الإرهاب والمخدرات موسكو إلى حلبة الصراع الأفغاني من جديد.
مبعوث الرئيس الروسي إلى أفغانستان زامير كابولوف أعلن- صراحة – أن الغرب خسر حربه في أفغانستان، وأن حركة “طالبان” أثبتت وجودها بشكل واضح.
العلاقات بين روسيا و”طالبان” توطدت منذ أوائل عام 2016؛ عندما صرح زامير كابولوف، بأن “مصالح طالبان تتوافق بشكل موضوعي مع مصالحنا”.
وينظر كل من موسكو و”طالبان” إلى “داعش” وفرعها المحلي “ولاية خراسان” كعدو، وروسيا تفضل رؤية حكومة مستقرة في أفغانستان يمكن التفاوض معها بشأن قضايا مثل الاتجار بالمخدرات ومبادرات التكامل الإقليمي.
مقاتلو طالبان يمكنهم الحصول على أسلحة روسية لأسباب مختلفة، خارجة عن سيطرة موسكو، فمن ناحية، لا تزال الأسلحة من الحقبة السوفيتية تدور في جميع أنحاء أفغانستان، ويمكن تهريب الأسلحة عبر الحدود من دول آسيا الوسطى، أو إيران، كذلك يمكن- أيضًا- استخدام المقلدات الصينية، ويبقى التحدي الأكبر، المتمثل في حدود أفغانستان التي يسهل اختراقها.
الصين أصبحت أكبر مستثمر أجنبي في أفغانستان، وتسعى إلى التعاون الأمني المشدد مع الحكومة الأفغانية؛ لمنع تسلل الإرهابيين والمتشددين الإسلاميين “الويغور” إلى أراضيها في إقليم شينجيانج، عبر الحدود المشتركة بين البلدين.
هذه كانت قراءة سريعة لخريطة المصالح والأطماع الإقليمية والدولية المعقدة جدًا في أفغانستان، وبها أنهي اليوم هذه السلسلة من المقالات بعد زيارتي لتلك البلاد المنكوبة.
نقلا عن بوابة الأهرام