لم أكن متحمسا كثيرا للخوض فى النقاش حول تجديد الخطاب الديني، ذلك أن مثل هذا النقاش يقوم على افتراضات خاطئة، كتصور أن قيام المؤسسة الدينية بإعادة النظر فى مضمون ما تطرحه لأتباعها عن تعاليم الدين، وتأكيدها أن رسالته الصحيحة تقوم على الاعتراف بحرية الاعتقاد لكل البشر، وأن الدعوة له يجب أن تقتصر على الحكمة والموعظة الحسنة ــ سوف يجعل بعض أتباع هذه المؤسسة يعدلون عن العنف فى التعامل مع من يختلفون عنهم فى العقيدة أو مع رموز الدولة التي يتصورون أنها تحمي ممارسات خاطئة لهذا الدين. مثل هذه الآمال التى يثيرها هذا الطرح لقضية الخطاب الديني تستند بدورها لرؤية غير صحيحة عن كيفية تغيير الخطاب المجتمعي عن الدين، وعن مدى ارتباط خطاب المؤسسة الدينية بممارسة العنف المجتمعي أو السياسي، فى المجتمع.
ولكن تشجعت على تناول موضوع الخطاب الديني بعد أن أصبح موضوعا للسجال على أعلى مستويات السلطة فى مصر، عندما كرر الرئيس فى مناسبة الاحتفال بمولد الرسول العظيم دعوته لتجديد الخطاب الديني بحيث يشدد على نبذ العنف، وسانده فى ذلك وزير الأوقاف، بينما فسر البعض خطاب شيخ الأزهر فى تلك المناسبة على أنه رفض لتلك الدعوات، وتمسك بمصادر للإسلام يجب ألا يتطرق لها الشك، لا تقتصر فقط على القرآن ــ كتاب الإسلام المقدس ــ ولكن تمتد إلى كل ما نسب لرسول الإسلام من أحاديث.
وهو الأمر الذى لم يجد قبولا من معظم من تناولوا هذا الموضوع على صفحات الصحف، الذين أكدوا على الحاجة لتنقية الأحاديث مما يعتبرونه غير صحيح أو بإعادة تفسيرها على ضوء ما جرى فى المجتمعات الإسلامية وخصوصا مصر من تطورات. وسوف أقتصر على طرح تصوري لكيفية تطور الخطاب الديني فى المجتمعات الغربية وهى التى مرت بتجربة حروب دينية استند أطرافها لخطابات دينية متعارضة، وعلى مناقشة مدى ارتباط الخطاب الديني المؤسسي بممارسات العنف فى المجتمع.
فى غياب التحدي لا تغير المؤسسة الدينية خطابها
المؤسسة الدينية سواء كانت كنيسة أو محفلا للأحبار أو تجمعا نظاميا لرجال الدين كما هو الحال فى الإسلام تجد وظيفتها الأساسية فى الدفاع عما تعتبره صحيح الدين، وهي تدافع عنه فى مواجهة من يخرجون عن تفسيرها له. ومع أنه يوجد فى كل مجتمع أكثر من خطاب ديني، إلا أن خطاب المؤسسة الدينية الرسمية يتسم غالبا بالثبات بل وبالجمود ما لم تتعرض هذه المؤسسة لتحد خارج عنها بانشقاق بعض أتباعها ومحاولة تكوينهم مؤسسة مناظرة بل ومنافسة، أو عندما تجد أعداد التابعين لها تتقلص بخروجهم عن تعليماتها أو بانصرافهم عن المشاركة فى أنشطتها.
المثل البارز على تغير الخطاب الديني هو ما جرى للكنيسة المسيحية فى أوروبا فى القرن السادس عشر عندما انشق البروتستانت عنها فى أكبر حركة إصلاح ديني عرفتها مؤسسة دينية، ولكن هذا الانشقاق جاء فى خضم حركة تطور اجتماعي هائل عرفته أوروبا برفض الفساد السائد فى الكنيسة الكاثوليكية وسيطرتها على العقل ووقوفها موقف الرقيب على إنجازات العلماء، وبفقدان الكنيسة للتأييد السياسى الذى كانت تحظى به فى ظل النظام الإقطاعي مع نهوض برجوازية المدن التى تعتمد على التجارة والمال.
وقد أدت حركة الإصلاح هذه إلى انقسام الكنيسة الكاثوليكية إلى أربع كنائس، الكاثوليكية فى روما واللوثرية فى ألمانيا وشمال أوروبا والكالفينية فى سويسرا وإسكتلندا، بينما أعلن الملك هنري الثامن استقلال الكنيسة الإنجليكانية عن روما لأسباب سياسية ودينية. ومن المهم ملاحظة أن حركة الإصلاح الدينى بدأت داخل الكنيسة الكاثوليكية ولكن إصرار بابوات روما على رفضها هو الذي أدى ــ من بين أسباب أخرى ــ إلى الثورة عليها. وأدت هذه الثورات إلى سلسلة من الحروب الدينية فى أوروبا أهمها حرب الثلاثين سنة ١٦١٨ ــ ١٦٤٨. ويقال إن ضحايا القتلى فيها تجاوزوا عشرة ملايين شخص. عدم قبول المؤسسة الدينية للإصلاح وتجديد الخطاب أدى إلى الانشقاق عنها.
ومع ذلك فإن قسمات عديدة من خطاب الكنيسة الكاثوليكية لم تتغير حتى الآن، وإن كانت الحروب الدينية وما ترتب عليها من دمار دفعاها إلى التوقف عن الدعوة لمحاربة الخارجين عنها. ما زالت الكنيسة الكاثوليكية ــ مثلا ــ ترفض الطلاق ولا تقبل تحديد النسل ولا تقبل تغيير تعريف الأسرة على الرغم من أن الكاثوليك فى أوروبا لا يعتدون فى معظمهم بهذه القيود.
وقد يقال أن التجربة التاريخية للكنيسة الكاثوليكية فى أوروبا لا تنطبق على الإسلام، فلا توجد فيه مؤسسة مقدسة مثلما تعرف الكنيسة، ولا يملك رجال الدين المسلمون سلطة التحريم كما كانت تمارسها الكنيسة فى أوروبا قبل حركة الإصلاح، ولكن إذا كان ثمة حركة إصلاحية فى الأزهر على سبيل المثال قادها الشيخ محمد عبده فى بداية القرن العشرين، فقد جاء ذلك فى ظرف اتسم بالتحدى الكبير للإسلام بسقوط الشعوب الإسلامية تحت سيطرة أوروبا المسيحية، كان محمد عبده واحدا من الذين قاوموا بداية هذه السيطرة، وكان مشغولا بالبحث مع غيره من علماء المسلمين ومثقفيهم فى أسباب تفوق الغرب عليهم.
وكانت دعوته للإصلاح تنهض على إعلاء شأن العقل فى تفسير النص، وأنه إذا ما تعارض النص مع ما يقتضيه العقل، تكون الأولوية للعقل. ومع ذلك يرى أنصار حملة تجديد الخطاب الديني أن أفكار محمد عبده لم تحدث الأثر المرجو على خطاب المؤسسة الدينية.
لا يرى قادة المؤسسة الدينية الإسلامية فى مصر ــ فى الوقت الحاضر ــ أن الإسلام يواجه أى تحد فى بلاده. الإسلام فى مصر فى رأيهم بخير. المساجد تزداد أعدادها كما تحتشد بالمصلين. ومظاهر التدين الشكلي طاغية. وإذا كان هناك من يرفع السلاح فى وجه الدولة وأتباع الديانات الأخرى باسم الدين فهم قلة مارقة لا تعرف صحيح الدين.
وإذا كانت هناك مشاعر معادية للإسلام فى بعض الدول الغربية والآسيوية، فالحل هو عن طريق شرح مبادئ الإسلام للقادة الدينيين فى هذه الدول، أو دعوتهم لمؤتمرات يخطب فيها رجال الأزهر تعريفا بمبادئ الإسلام التى تنبذ العنف، وذلك فى إطار ما يسمونه بحوار الحضارات. من وجهة نظرهم: لا داعي للقلق: «إسلامنا بخير»، ولذلك لا تلقى هذه الدعوات المتكررة لإصلاح الخطاب الديني صدى واسعا بينهم. وإذا كان البعض قد تحدث عن زيادة أعداد الملحدين فى مصر، فإنهم لم يتجاوزوا حسب التقارير المنشورة بضع مئات ضمن عشرات الملايين من المسلمين المتمسكين بتعاليم دينهم.
تجديد الخطاب الديني لا يكفي لمكافحة ممارسات العنف
ولكن فلنتصور أن مؤسسة الأزهر وجميع الشيوخ الذين تعتمدهم قد استجابوا لهذه الدعوة غير محددة المعالم لتجديد خطابهم، هل سيوقف ذلك ممارسات العنف المجتمعي التى يقوم بها مسلمون ضد المواطنين المسيحيين الذين يتعبدون فى منزل أو يحاولون إقامة كنيسة؟ وهل سيتوقف الشباب الذين اجتذبتهم أفكار تنظيمات مثل داعش وغيرها عن الانخراط فى صفوفها والانطلاق لمحاربة الدولة والمواطنين الذين لا يستجيبون لدعاوى هذه التنظيمات.
فلنلاحظ هنا أن الأزهر لا يحتكر الخطاب الديني فى مصر، فهناك إلى جانب خطابه الرسمي توجد خطابات أخرى ممن ينصبون أنفسهم واعظين، فهناك خطاب سلفي إلى جانب خطاب الأزهر المحافظ، وهناك خطاب إسلامي شعبي يجعل المواطنين المسلمين يزورون أضرحة الموتى فى الأعياد ويقدسون الأولياء الصالحين، وهناك خطاب ما يعرف بالإسلام السياسى سواء فى تنظيماته التى تخوض الانتخابات أو تنظيماته التى ترفع السلاح. هؤلاء الأخيرين فى مصر وباكستان وأفغانستان وفلسطين تأثروا كثيرا بكتابات سيد قطب والذى كان ناقدا حادا للأزهر.
وكان الشيخ عمر عبدالرحمن مفتى تنظيم الجهاد الذى اغتال مع الجماعة الإسلامية الرئيس السادات، وكان للجماعة الإسلامية شيوخها الذين يقدمون سندا شرعيا لتصرفاتها، وهم الذين جنحوا بعد ذلك لرفض العنف. وكان لتنظيم داعش من يفتي له بأن حرق أسراه مسلمين كانوا أو من ديانات أخرى هو أمر يتفق مع الشريعة الإسلامية.
وذلك فضلا على أن الخطاب الدينى لا يقتصر على مواعظ فى المساجد وكتب يجرى تدريسها أو توزيعها على عامة المسلمين، ولكنه ممارسات حية من جانب من يمثلون سلطة الدولة، وخصوصا على المستويات المحلية. ويشير كثير من التقارير إلى تقاعس هؤلاء المسئولين أمام ما جرى من اعتداء على المسيحيين فى قرى الصعيد، أو تغاضيهم عن معاقبة المتورطين فيه.
فى كل الكتابات التى أعرفها عن أسباب العنف المجتمعي والمقاومة المسلحة لسلطات الدولة لا توجد إشارة إلى أن السبب الوحيد لهذه الممارسات هو الخطأ فى فهم الدين. لهذه الممارسات جذورها فى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لمن يقومون بها أو يتعاطفون معها، وفى انغلاق المجال السياسى أمام دعاوى الإصلاح.
لا أقلل من أهمية سيادة خطاب ديني عقلاني، ولكن مثل هذا الخطاب هو ثمرة نهضة المجتمع التعليمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وهو وليد حوار حر فى نظام سياسى يرحب بحريات الرأى والعقيدة والتعبير.
نقلا عن بوابة الشروق