شيخ الأزهر محمد مصطفي المراغي هو امتداد لمدرسة التجديد الذي حاول الإمام محمد عبده أن يغرسها في الأزهر، كان تلميذا لمحمد عبده يتلقى منه العلم في الجامع الأزهر وفي الرواق العباسي حيث كان الإمام يلقي دروسه في التاريخ وعلم الاجتماع خارج مناهج الأزهر التقليدية، ودفعه فضوله العقلي إلى قراءة العديد من الكتب في مجالات الفلسفة والأدب وأصول الدين.
في حياته العملية غلب عليه عمله كقاضي ورئيس للمحكمة الشرعية العليا ومفسر للقرآن الكريم، بيد أنه أثرى المكتبة الإسلامية بكتابين مهمين: “دراسات حول التشريع الإسلامي” عام 1927، “بحث في ترجمة القرآن الكريم وأحكامه” عام 1932. بدت أفكاره التجديدية واضحة حين تصدى لتنظيم المحاكم الشرعية في السودان وفتح وقتها ثغرة في جدار التقليد، بإتاحة الأخذ من مذاهب ومدارس فقهية أخرى إلى جانب المذهب الحنفي المعمول به في القضاء إذا كان ذلك في مصلحة المتقاضين وحل مشاكل الناس المتجددة.
وسعيا للتيسير في قضايا الأحوال الشخصية، أخذ الرجل برأي المذهب المالكي في حق المرأة في الطلاق لأسباب أخرى غير الضرر، كغياب الزوج الطويل لأكثر من سنة أو السجن أو المرض الذي لا يُرجي برؤه، وكان ذلك سيرا علي نهج أستاذه محمد عبده في الدفاع عن حق المرأة في التعليم وحقها في الطلاق بلا إعضال، وفي تقييد تعدد الزوجات للرجل.
وفي عام 1920 شارك في تعديل قانون الأحوال الشخصية المصري مستلهما ما سبق أن فعله في السودان، وفي عام 1929 تولى رئاسة لجنة وضع قانون الأحوال الشخصية، واعترض الملك فؤاد علي بعض مواد مشروع القانون الذي انتهت إليه اللجنة، ومن بينها تقييد حق الزوج في الزواج الثاني إذا كان غير قادر عليه، والأخذ بموافقة القاضي علي هذا الزواج، وحق المرأة في وضع شروط في عقد الزواج تتعلق بمصلحتها مثل حقها في عدم جبرها على العيش في مدينة مختلفة عن تلك التي تقيم فيها أو تطليق ضرتها.
أثار القانون وقتها ضجة بين العلماء المحافظين، ما جعل المراغي يؤسس لمبدأ ضرورة الاجتهاد وإمكان تجاوز أقوال الأئمة الأربعة حال كان هناك تحقيق لمصلحة في الذهاب لفقهاء آخرين، ما يعني عدم التقيد بمذهب فقهي معين وإعمال العقل في الأخذ من كتب الفقهاء الآخرين حتى لو كانت غير مسندة، معتبرا أن “رفض كل هذه الكتب لأنها لم تسند بواسطة الشيوخ ولم يقروها بأفواههم هو رفض للعقل ذاته الذي يستطيع أن يميز الصالح من الطالح والصحيح من الباطل”.
كما أجاز المراغي لولي الأمر أن يسن قوانين توافق مقتضيات الشريعة في كل المسائل التي لم يرد فيها نص صريح من القرآن أو السنة أو كانت محلا لإجماع المسلمين، أو حسب قوله: لنقل الآن بكل بساطة أنه لا يجوز لولي الأمر أن يمنع (يحرم) أمرا مفروضا (واجب) أو يأمر بأمر ممنوع (حرام)، أما بالنسبة لما يتبقى فمن الجائز له أن يسن كل النظم التي يرى أنها تُوافق صالح الجماعة”.
كما تصدى الرجل لروايات وردت في كتب فقهاء أقدمين مثل أن أمرأة ظلت حاملا لمدة اثنى عشر عاما أو لمدة عامين أو ثلاثة أعوام استنادا إلى شهادات غير موثقة، مفندا مثل تلك الرويات بقوله: إن المعارف في مجالي التشريح ووظائف الأعضاء قد تقدمت وأصبح معروفا كيف وفي كم من الوقت ينمو الجنين ويكتمل، وبناءً على ذلك يجب الاعتماد على رأي الأطباء وليس ما تقول به النساء وإن تعلق الأمر بجارة الإمام مالك، ولهذا تقرر أن يكون الحد الأقصى لفترة الحمل سنة واحدة، ومن ثم فهي المهلة المقبولة لطلب إثبات النسب”.
ما وضعه المراغي من مقدمات فقهية لقانون الأحوال الشخصية عام 1929 بات أصولا لاجتهاد المدرسة الأزهرية من بعده، تأكيدا على أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان وتلبي احتياجات البشر، وبالتالي إذا كانت تعاليم القرآن والسنة تهدف إلى خير الإنسانية فإن تطبيقات الأحكام العامة للآيات يجب أن تعدل وفق ما تقتضيه المصلحة العامة حال وجدت ضرورة لذلك.
دعا المراغي إلى توحيد التشريع الإسلامي، ونبه إلى ضرورة تأهيل القضاة لأن نصف تطبيق القانون موكول بأمانتهم وفهمهم وبحثهم في الأدلة. كما اجتهد الرجل في القول بترجمة معاني القرآن الكريم، بل جواز الصلاة بغير العربية، مقتفيا في ذلك أثر المدرسة الحنفية، كما تصدى لتشكيل لجنة لترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية لكن لم يكتب لهذه المحاولة النجاح حتى لوضع تفسير لسورة الفاتحة، بتأثير التيارات المحافظة المناوئة لإصلاحات الرجل، حسب ما جاء على لسان الشيخ الظواهري الذي تولى مشيخة الأزهر من بعده: “إن الله قد أعمي بصائرهم حتي يحفظ القرآن الكريم من خطأ الترجمة”.
الشيخ محمد الأحمدي الظواهري
ودأب الرجل على نهجه التجديدي وطرح أفكاره الإصلاحية في حلقات دروس التفسير التي بدأها عام 1937 بمساجد القاهرة والاسكندرية الكبرى، وكان يحضرها الملك وكبار رجال الدولة، وغلب على شرحه فيها وإجاباته على أسئلة الناس الأخذ بالعقل والتيسير والتبسيط دون إيغال في الجدل الكلامي الشكلي، وكان يقول: “إن القرآن ليس كتابا علميا لكي نذهب إليه لإثبات أي فكرة أو نظرية جديدة، ومن الضروري امتلاك بعض المعارف العلمية لفهم بعض آيات القرآن الكريم إلا أن هذه الآيات لم تنزل من أجل أن نثبتها”.
خلف المراغي من بعده مدرسة راسخة من تلاميذه المجددين، ومن أبرزهم الشيخ محمود شلتوت الذي تولي مشيخة الأزهر عام 1958.