تطرح الشعبوية، مع صعودها الحالي في العديد من الدول، تحدياً سياسياً حول قدرة الأنظمة الديمقراطية على مواجهتها واحتوائها، لكن بالمقابل تطرح الشعبوية تحدياً نظرياً حول مقاربتها، ولا يقتصر التحدي على التفسير والشرح والتعريف، بل يطال أيضاً سؤال زاوية النظر التي نتناول منها الشعبوية ونعاينها من خلالها.
سأتناول هنا مقاربتين حول الشعبوية، الأولى هي مقاربة إرنستو لاكلاو (Laclau, 2005) التي تقيّم الشعبوية إيجابياً، والثانية مقاربة يان-فيرنر مولر (Müller, 2017) السلبية حول الشعبوية. لن تقتصر الغاية على مجرد المقارنة بين المقاربتين، بل تمتد أيضاً إلى محاولة فهم أساس التباين بينهما كمنظورين، التباين المترتب على الأسئلة والغايات المختلفة التي يطرحها كل منهما عند تناوله لسؤال الشعبوية. كذلك، تشترك المقاربتان في أن تناولهما للشعبوية تناول معياري أساساً، يهتم بفهم الشعبوية (نظامها ومنطقها وشعاراتها) وليس بتحليل أصولها الاجتماعية. وفي الختام، طبعاً، محاولة لموضعة سياقنا في إطار التساؤل حول الشعبوية.
مقاربة لاكلاو
لا ينظر لاكلاو إلى الشعبوية بوصفها إيديولوجيا سياسية، بل باعتبارها منطق سياسي. فمنطق الشعبوية يتمثل في استراتيجية سياسية تقسم المجتمع إلى جماعتين أساسيتين: النظام (النخبة) والشعب، ويتشكل هذان القطبان حول حدود المنازعة السياسية نفسها. فالنظام والمجتمع ليسا كيانين أو شيئين محددين بشكل مسبق وموضوعي وتقوم المنازعة بينهما لاحقاً، بل إن المنازعة السياسية التي تشكل المجال السياسي برمته تُشكل بدورها الشعب. لهذا يعتبر لاكلاو الشعب تشكيلاً خطابياً لكونه متغير تابع للمنازعة وليس ثابتاً. على سبيل المثال، إذا نظرنا إلى سوريا في منتصف القرن العشرين حيث تحدد الصراع بشكل أساسي حول ثنائية الريف-المدينة، بين أعيان المدن من جهة، الذين شكلوا النخبة المهيمنة على الدولة والاقتصاد، والريفيين والعمال والطبقات الوسطى الصاعدة حديثاً من جهة أخرى، فيمكن القول أن الشعب وقتها تمثّل بالطبقات الكادحة، وهو ما ادّعته عموماً الحركات اليسارية والقومية وقتها، التي عرفت الشعب بتحالف العمال والفلاحين وصغار الكسبة والمثقفين الثوريين (الشعب العامل). لكن راهناً حيث لم تعد اللغة الطبقية تحدد المنازعة السياسية، بل أخذت المنازعة بعداً دينياً وطائفياً بشكل أساسي، بحيث تم تعريف الشعب بواسطتها بوصفه الغالبية العربية السنية التي أُخرجت من السلطة.
هنا يمكن ملاحظة تباين المنازعة السياسية في السياقين، المنازعة التي يتشكل حولها الشعب. فالمنازعة السياسية التي ينتظم المجال السياسي حولها هي التي تحدد «الشعب» بما يجعل منه تشكيل خطابي داخل المجال السياسي نفسه، وليس اسماً لموجود موضوعي.
يشير لاكلاو إلى أن الشعب، المتكون حول المنازعة السياسية، ليس متماهياً ومنسجماً كما تدعي الايديولوجيا الشعبوية نفسها. على العكس فهو مُشكل من جماعات مختلفة لها مطالب متنوعة ومتباينة تربط فيما بينها سلسلة تكافؤ موحِدة، بحيث تمسي هذه المطالب متكافئة في مواجهة النظام والنخبة الحاكمة بما يسمح لهذه الجماعات بالنظر إلى نفسها بوصفها الشعب متجاوزة اختلافاتها وحتى تناقضاتها الداخلية. إن النجاح في بناء سلسلة تكافؤ مشروط بقدرة إحدى هذه الجماعات على تحقيق الهيمنة، فتقدم لغتها – لغة الجماعة المهيمنة في هذه السلسلة والمستخدمة من قبلها في تفسير وصياغة تصور العالم- باعتبارها لغة عامة يمكن للجماعات الأخرى استخدامها لإعادة صياغة مطالبها بواسطتها.
تعثّر الهيمنة يُبقي كل جماعة حبيسة منازعتها الخاصة مع النظام أو مع جماعة أخرى، دون أن تستطيع هذه الجماعات توحيد صفوفها في مواجهة النظام. إن وجود لغة عمومية وتراث رمزي وأخلاقي مشترك وفكرة عامة عما هو عادل وأخلاقي وأسطورة موحِدة قادرة على إثارة الخيال والعواطف، يسمح للجميع بتقديم طلبات تُعتبر مُحِقة وعادلة من قِبَل الآخرين الذين يمكن لهم أن يتماهوا معها ويعتبروها متوافقة مع مطالبهم في مواجهة النظام. يمكن اعتبار اللغة القومية-اليسارية، والمستمدة بالطبع من الماركسية بشكل واسع، مثالاً ممتازاً على هذا الشكل من الهيمنة التي عرفها العالم الثالث خلال كفاح شعوبه من أجل الاستقلال الوطني أولاً والتنمية ثانياً. فثورات الشعوب صيغت باعتبارها جزء من النضال الطبقي في مواجهة الرأسمالية، فاعتُبرت شعوب العالم الثالث، بطريقة ما، طبقة في مواجهة الرأسمالية، التي تتجلى في العالم الثالث عبر الاستعمار والإمبريالية، ولاحقاً عبر البرجوازية الكومبرادورية. فالنضال ضد الرأسمالية قدم رؤية عامة ومشتركة، بحيث يمكن لأي جماعة -حتى لو لم تكن طبقية- أن تربط نضالها ومطالبها باللغة العامة التي قدمها التقليد الفكري اليساري المهيمن، مما سمح بربط كل هذه الجماعات المختلفة سويةً وكأنها جماعة واحدة تخوض معركة مشتركة ضد الرأسمالية والامبريالية.
فالشعبوية، بوصفها منطق، هي عملية تشكيل الشعب في مواجهة النظام على حدود المنازعة السياسية من خلال إقامة سلسلة تكافؤ بين مطالب الجماعات المتباينة التي تتجمع في هذه السلسلة، حائزةً على لغة عامة ومشتركة. فالشعب يتشكل سياسياً عبر عمليتي المماثلة (سلسلة التكافؤ) والاختلاف (المنازعة). وبحكم أن الشعب يتشكل عبر المجال السياسي نفسه، فإنه ليس معطى ثابت، بل عرضة للتحول بتحول المنازعة أو حدودها.
إن منطق الشعبوية المتمحور حول المنازعة مع النظام يظهر باعتباره منطق السياسة نفسها. وبهذا تناهض الشعبوية التكنوقراطية، التي تحول المطالب إلى عملية بيروقراطية وتقنية، حيث إدارة البشر شكل من إدارة الأشياء. فالتكنوقراطية تلغي إمكانية النقاش السياسي باسم الإدارة العلمية والتقنية. كذلك، تواجه الشعبوية الأنظمة المستبدة والديكتاتورية والأوليغارشية التي تلغي السياسة نفسها وتُحرمها، فتُعيد الشعبوية الشعب إلى مركز العملية السياسية والنضال السياسي. كل سياسة تتطلب شعبوية، أو بتعبير آخر إن السياسة غير ممكنة بدون أن تكون، بقدر ما، شعبوية.
إن ما يجعل من مقاربة لاكلاو للشعبوية مقاربة إيجابية، هو اعتباره الشعبوية مركزية لقضيتين: الأولى جعل السياسة ممكنة في مواجهة خطر التكنوقراطية والبيروقراطية من جهة، وخطر الاستبداد والأوليغارشية من جهة أخرى؛ والثانية أن منطق الشعبوية هو الذي يفسح المجال لدخول الغالبية إلى السياسة بوصفهم فاعلاً سياسياً، الشعب، قادر على تحدي النخبة والنظام.
مقاربة مولر
بالمقابل يقدم مولر مقاربة سلبية وأكثر حذراً وتوجساً تجاه الشعبوية برغم عدد من التقاطعات مع لاكلاو، التقاطعات المتمثلة بالتقليل من أهمية الأصول الاجتماعية والمطالب الإيديولوجية المرافقة للحركات الشعبوية التاريخية في تحديد مفهوم الشعبوية، بمقابل التركيز على منطق الشعبوية المعياري في تنظيم النزاع السياسي بوصفه العامل الحاسم والمميز للشعبوية. يرى مولر أن العداء للنخبة سمة أساسية للشعبوية، ولكنه لا يكفي في ذاته للتدليل عليها. المركزي والحاسم في الشعبوية هو نمط تمثيلها للشعب، فشعارها المركزي «نحن -ونحن وحدنا- نمثّل الشعب» لا يستدعي مجرد «التمثيل» بل يحيل إلى حصرية تمثيل الشعب وإلى البعد الأخلاقي لفكرة الشعب، والمُضمن في الشعار. يجب أن يُفهم التمثيل هنا بوصفه تماهياً بين الحاكم والمحكوم. لا يختلف مولر عن لاكلاو باعتباره أن فكرة الشعب لدى الشعبويين فكرة متخلية، خطابية/سياسية. فالشعب يتعين بحسب فكرة الحركة الشعبوية عنه، والتي تحدد الشعب وحدوده وبالتالي من هو من الشعب ومن هو ليس من الشعب. لكن مولر يتوقف مطولاً على تداعيات احتكار تحديد الشعب من قِبل الحركة الشعبوية، والذي يعتبره موقفاً مهدداً ومعادياً للديمقراطية.
إن فكرة الشعب عند الشعبويين فكرة أخلاقية أساساً، بحيث يصبح النزاع السياسي نزاعاً أخلاقياً بين الخير والشر، بين الحق والباطل، ولا يعود خلافاً بين آراء مختلفة ومتباينة. الخلاف عند الشعبوي هو خلاف أخلاقي، خلاف بين الشعب النقي والطاهر والنخبة الفاسدة والمخادعة والخائنة.
وبحكم الطبيعة الأخلاقية لفكرة الشعب، فإن الشعب لا يقبل بدوره التنوع داخله، فالأخلاقي أيضاً غير متنوع. هذا يعني وحدة وتماهي الشعب، فالشعب هو كذا وكذا، ولا يمكنه أن يكون غير ذلك. مما يستدعي فرض الوحدة، ولو بشكل قسري، على الشعب. فالتباينات ليست من طبيعته، بل هي انحرافات يجب معالجتها أو حتى استئصالها. وبرغم أن الحركة الشعبوية تدعي تمثيلها للشعب، فإنها تتولى تحديده وتعيين حدوده، ومن ينتمي إليه أو من لا ينتمي له أو حتى يخونه، وذلك بحسب إيديولوجيتها. وبهذا يصبح الشعب -في تحديده- تابعاً للحركة الشعبوية. فمثلاً، عندما تنتصر الحركة الشعبوية في استفتاء ما فإنها تعتبر هذا الاستفتاء تمثيلاً لإرادة الشعب. ولكن إن هُزمت في استفتاء آخر، فإنها ترى فيه خداعاً للشعب أو تزويراً لإرادته. فالشعب لا يكون شعباً إلا إذا التقى مع فكرة الحركة الشعبوية عن هذا الشعب. هنا يمكن أن نلحظ تقاطع بين مولر ولاكلاو حول الفكرة الأساسية وهي أن الشعب تشكيل سياسي تقوم به الحركة الشعبوية، وليس واقعة موضوعية تعبر عنها الحركة الشعبوية كما تدعي.
اعتبار الشعب موحداً ومتماهياً في ذاته يجعل الانتقال إلى سياسة هوية في منتهى السهولة، حيث يصبح الصراع بين الشعب وأعداءه وخونته. بالطبع يمكن تعريف الهوية بأشكال متباينة، إثنية وقومية وقد تكون دينية أو طائفية. إذا كان الشعب موحداً، له إرادة موحدة لا تقبل الاختلاف والانقسام، فإن التعبير عن الشعب لا يحتاج إلا إلى صوت واحد، صوت الزعيم الذي يعبر عن الشعب. التمثيل في الشعبوية لا يشترط توسّط النواب والمؤسسات وما يرافقها من عمليات إجرائية تسمح بهذا التمثيل المتعدد (نواب) وإعادة انتخابهم أو إسقاطهم، التمثيل في الشعبوية مباشر ويتحقق عبر التعبير عن الإرادة الحقيقية للشعب، وهذا يتم بواسطة الحركة الشعبوية والزعيم. لا يفترض مولر أن الشعبوية بالضرورة سلطوية ومناهضة للديمقراطية، فيمكن لها الحفاظ على بعض الأشكال الإجرائية للديمقراطية (تعدد حزبي وصحافة حرة لحد ما وهلم) لكنها تضيق على الديمقراطية والتنوع بشكل كبير عبر إعادة صياغة الشروط التي يتم التعبير عن التنوع من خلالها بحيث يكون مهدداً بشكل دائم، واعتمادها على السيطرة على الدولة عبر تقديم الولاء السياسي (أحقية الشعب في السيطرة على الدولة، وهي أحقية لا يمكن نقلها لكل الشعب، بل لمن يعبّرون عن الشعب الحقيقي، أي الموالين للحركة الشعبوية). هنا يفصل مولر بين مبدأين يمكن لهما أن يتعارضا، الديمقراطية والتمثيل، حيث تستند الشعبوية تماماً إلى المبدأ الثاني.
على العكس من لاكلاو، لا يرى مولر في الشعبوية ضمانة في مواجهة التكنوقراطية والبيروقراطية. بل إنه يراهما مشتركتان في خاصية مهمة وهي أنهما تلغيان السياسة، حيث يلغيها التكنوقراطي باسم التقنية والإدارة العلمية، فلا يوجد اختلاف بالرأي حيث الرأي المغاير والمختلف غير علمي وخرافي وغير عقلاني. فيما يلغيها الشعبوي -على الطرف المعاكس والنقيض- باسم الشعب الأخلاقي والحقيقي، فهو بدوره يرد كل خلاف إلى ما هو خارج السياسة، إلى الأخلاق، فلا يعود هناك اختلافات في الرأي، بل هناك موقف أخلاقي معبّر عن الشعب وحقيقته وهويته، وآخر خائن وفاسد. فالشعبوي يلغي السياسة باسم الشعب الحقيقي الأخلاقي.
إن ما يجعل من مقاربة مولر للشعبوية مقاربة سلبية هو أن الشعبوية باعتبارها الشعب فكرة أخلاقية ترد السياسة إلى الأخلاق وتهدد الديمقراطية جدياً. أيضاً، مبدأ حصرية التمثيل الذي يفترض وحدة وتماهياً للشعب بما يلغي التنوع ويدفع إلى فرض الوحدة وبشكل قسري على الشعب. وهذا بدوره يهدد الديمقراطية بشكل حقيقي عبر قمع التنوع والتعدد في الآراء لمصلحة تصور أخلاقي وهوياتي للشعب، فلا يعود هناك قبول للتباين والاختلاف في الرأي -الضروري للسياسة- بل نزاع بين الشعب وخونته، نزاع أخلاقي يلغي السياسة نفسها.
حول المقاربتين
يتمثل المشترك بين المقاربتين في عدد من النقاط، فكلتا المقاربتين لا تفسران الشعبوية بمحتوى الأيديولوجيا التي تستدعيها ولا تشرحانها بالإحالة إلى الشعب باعتباره شيئاً موضوعياً وحقيقياً، مُمثلاً بالحركة الشعبوية، بل تفهمان الشعبوية بوصفها منطق منازعة ثنائي القطبية (النخبة والنظام في مواجهة الشعب) حيث يتحدد الشعب بواسطة الحركة الشعبوية نفسها، التي تتولى تعريفه عبر ايديولوجيتها ومنازعتها السياسية.
إن النظر إلى الشعبوية بشكل إيجابي لدى لاكلاو مرتبط باعتبارها شرط السياسة، كما هي استراتيجية سياسية تفسح المجال للجموع للدخول إلى المجال السياسي والتأثير فيه وإحراز مكتسبات تعزز الحقوق الديمقراطية وتعادل اللاتوازن بين الديمقراطية والليبرالية الذي مال، وبشدة، لصالح الأخيرة في الأنظمة الديمقراطية الليبرالية الحديثة. في المقابل، فإن مولر متوجس من الشعبوية باعتبارها تهديد للديمقراطية لكونها تردّ الخلافات السياسية إلى ما هو غير سياسي، الأخلاق والهوية.
إن التباين بين لاكلاو ومولر يمكن رده إلى اختلافين أساسين. الأول هو اختلاف حول فكرة السياسة ومعناها. ماهي السياسة؟ يبدو أن لاكلاو يفهم السياسة بوصفها صراعاً، ولهذا تكون الشعبوية في أساس السياسة وشرطها في مواجهة تحديات التكنوقراطية/البيروقراطية والأوليغارشية اللتان تلغيان السياسة نفسها. بالمقابل فإن مولر يفهم السياسة بطريقة مغايرة جذرياً، وهي أن السياسة حوار وتبادل للآراء والحجج بين أفراد عقلانيين وأحرار، فتتجلى السياسة بشكل مثالي في الآغورا، المكان العام الذي يتم اللقاء فيه وتبادل الآراء وتبادل الحجج والمحاججة للوصول إلى قرارات مقبولة من الغالبية. هذا الخلاف، طبعاً، هو خلاف أساسي حول الاجتماع البشري ويصعب الجزم فيه وليس هو الموضوع، لكن من الضروري الالتفات إلى تباين الاثنين حول فكرة السياسة، تباين سيكون ناظماً للاختلاف في تقييم الشعبوية. ففي حالة لاكلاو الذي يرى في السياسة نزاع، فإن الشعبوية تمثل شرط السياسة والفعل العام وتمكين الغالبية من تنظيم أنفسهم وانتزاع الديمقراطية في مواجهة سيادة الأقليات الحاكمة والنظام. على العكس، مولر ينظر إلى السياسة كحوار، وبالتالي فإن الشعبوية، بوصفها صراع وحرب، تشكل خطراً على شروط صيانة هذا الحوار واستمراره، وبالتالي فإنها تهدد السياسة نفسها.
سبب آخر للتباين بين الاثنين يظهر في السياق الذي يحكم تناول كل منهما للشعبوية. انطلق لاكلاو من سياق التجارب الأميركية اللاتينية، وكان متأثراً بالتجربة البيرونية في الأرجنتين. ففي أميركا اللاتينية واجهت الشعوب ديكتاتوريات عسكرية، وبعد التحول الديمقراطي واجهت الشعوب الأوليغارشيات الحاكمة المسيطرة على الدولة والثروة برغم وجود الإجراءات الديمقراطية واحترامها. ففي هذا السياق تطلب انتزاع الديمقراطية وتوسيعها صراعاً سياسياً في مواجهة هذه الديكتاتوريات والأوليغارشيات الحاكمة، وهذا بدوره يتطلب تعبئة وحشد وروح نضالية وشجاعة في الإقدام على التضحية، وهذا يحتاج إلى أسطورة سياسية تحرك الجموع وتزودها بسردية جامعة وموحِدة في معركتها من أجل اكتساب حقوقها. بالانتقال إلى السياق الأوروبي -حيث انحلال الخيارات السياسية لمصلحة تصورات معيارية وموحدة مثلتها النيوليبرالية والانتقاص من قيمة الديمقراطية والمشاركة الشعبية والرهانات السياسية بشكل حقيقي لمصلحة إدارة بيروقراطية وتكنوقراطية للمجتمع لا يختلف فيها حزب عن آخر إلا في البلاغة السياسية وحسب- كان التحدي حول كيفية استعادة المبادرة الشعبية ومواجهة اختلال التوازن الهائل لمصلحة الليبرالية وعلى حساب الديمقراطية. بالمقابل فإن مولر ينطلق من سياق مختلف وهو الديمقراطيات البرلمانية المعاصرة المهددة بصعود الشعبويات التي لا تبدي اكتراثاً حقيقياً بالديمقراطية، وتعادي الليبرالية صراحة لمصلحة إيديولوجيات قومية.
هذا التباين العملي يستدعي تبايناً نظرياً وهو موضعة الشعبوية بالنسبة إلى مفهومين آخرين، الديمقراطية والليبرالية، وتالياً فكرة التمثيل. فالديمقراطية لدى مولر لا يمكن صيانتها وتعزيزها بدون ليبرالية تتيح مجالاً للآراء المتنوعة والمختلفة، في حين أن تصور الشعبوية للديمقراطية لا يقوم على التنوع واختلاف الآراء بل على مركزية التمثيل وحصريته، مضافاً إليها تصور توحيدي وأخلاقي للشعب يجعل من هذا التمثيل تمثيلاً لإرادة الشعب. بالمقابل فإن تصور لاكلاو للديمقراطية يقوم على تباينها (وتعارضها المحتمل) مع الليبرالية، بما يعني ضرورة وجود نزوع تمثيلي قوي للشعب لمواجهة انحلال الديمقراطية تحت وطأة الليبرالية والحريات الفردية. فالتباين بين الاثنين يقوم على الاختلاف حول فهم العلاقة بين الديمقراطية والليبرالية ودور التمثيل في صياغة تصور الديمقراطية، وأخيراً حول ماهية التحدي الذي يواجهه الديمقراطية.
تبدو معضلة مقاربة لاكلاو متمثلة في عدم إدراكها للمخاطر الفعلية المرتبطة بالشعبوية التي شخصتها مقاربة مولر. فلا يوجد ما قد يفسر لماذا ستقدم قيادة الحركة الشعبوية (الزعيم بشكل خاص) على بناء مؤسسات وقواعد تضمن الحفاظ على التنوع داخل سلسلة التكافؤ أو تضمن تقسيم السلطة وتضع حدود عليها -بما في ذلك سلطة الزعيم- بشكل يضمن الحفاظ على الديمقراطية داخل الشعبوية دون أن تنحل إلى علاقة تماهي بين الزعيم والشعب، تماهي دوماً ما يقود إلى تحلل الديمقراطية لاحقاً، ولنا في الناصرية مثال ممتاز في السياق العربي عن زعيم شعبوي بامتداد حقيقي ومتجذّر لدى الجمهور، ولكنه انتهى إلى تدمير الديمقراطية والحريات والبنى المؤسساتية الضرورية لحماية وصيانة الديمقراطية، وذلك بسبب سياساته الشعبوية نفسها في الهيمنة والحفاظ على السلطة عبر إضعاف المؤسسات وتنوع الآراء وتعددها بإقصاء من يُشك في ولائهم وتحويل المعارضين إلى خونة أو أعداء.
بالمقابل فإن مولر لا يقدم إجابة مقنعة عن عدم الحاجة إلى الشعبوية عندما يواجه المجال السياسي تهديد التكنوقراطية والبيروقراطية المتزايد لتحويل السياسة إلى شكل من أشكال الإدارة، أو في مواجهة تهديد الاستبداد والديكتاتوريات وتسلط الأوليغارشيات. إن مثل هذه المواجهة تحتاج إلى حشد وتعبئة ومخيلة والكثير من العواطف والمشاعر الجياشة وروح التضحية والانغماس في فكرة عامة أكبر من مجرد «حوار عقلاني في مجال عام» تسمح بحشد الجماهير من أجل المطالبة بحقوقها الديمقراطية وتعزيز مشاركتها.
تبدو الشعبوية بوجهين متناقضين، من جهة هي ضرورية للحفاظ على السياسة في مواجهة التحديات باعتبارها استراتيجية تعبئة وحشد ووصول بالممارسة السياسية إلى ذروتها، ولكنها من جهة أخرى تهديد للسياسة والديمقراطية عندما تعيد تعريف السياسة بماهو غير سياسي، بالإحالة إلى معايير الأخلاق (الخير والشر) والهوية (الأصيل والمزيف) والحقيقة (الصادق والكاذب). تبدو المعضلة مضمنة كلّياً في عملية الهيمنة التي تضمن تلاحم جماعات مختلفة متنوعة لتشكل «الشعب». فالهيمنة تفترض نوعاً من التماهي حول الرأسمال الرمزي والأخلاقي المشترك للجماعة، لكن ضمان الحريات بالمقابل يعني ضمان التنوع والتعدد والاختلاف داخل هذا المجموع بما يسمح بالتعبير عن الاختلافات بما يهدد الوحدة نفسها تحت ثقل ووطأة التنوع وذلك في سياق كفاحي ونضالي. فالحفاظ على التنوع داخل الحركة الشعبوية، وبالتالي الشعب المتخيل، يعني نقل السياسية (المجال العام المفتوح لعرض مختلف الآراء والتباينات) إلى داخل الحركة نفسها، فتصبح الحركة صورة عن المجتمع والمجتمع السياسي تحديداً عوضاً عن تكون فاعل سياسي محدد ومتعين. السؤال يصبح عندها إلى أي حد يمكن القبول بالتنوع داخل الحركة بما لا يهدد وحدة الحركة نفسها وقدرتها على الفعل والحركة؟ نعلم أن هذا السؤال شديد الصعوبة، وتراث الحركات الشيوعية قدم مادة تجريبية هائلة حول سؤال الحزب. فالحزب البلشفي هو من أنجز الثورة بفضل بنيته الحديدية، لكن بنية الحزب البلشفي وتركيبته كانت الطريق المؤدي إلى بناء واحد من أشد الأنظمة شمولية في القرن العشرين. الصعوبة مضافة في الحالة الشعبوية، فعلى العكس من الحركات الشيوعية التي قامت حول ايديولوجيا واضحة المعالم ومرتبطة بفاعل اجتماعي محدد بوضوح شديد وهو الطبقة العاملة، فإن الحركات الشعبوية لا تملك هذه الإيديولوجيا الواضحة ولا تستند على فاعل اجتماعي محدد، بل تُحيل إلى الشعب بكل تنوعاته وفئاته واختلافته، مما يجعلها غائمة وغير متسقة، وهو ما تغطيه بالكثير من الرموز والشعارات وكثافة الإحالة إلى الهوية والأخلاق.
تبدو المسألة صعبة الحل، وربما لا نقدر على تقديم إجابات واضحة بصددها، لكن على الأقل يمكن القول أن مولر يشير إلى خطر حقيقي يهمله لاكلاو، خطر نجده ووجدناه في كل حركة شعبوية تبوأت السلطة، ويزداد في حالة الدول والمجتمعات التي لا تتمتع سابقاً بتراث مؤسساتي وديمقراطي قوي يسمح بالحد من أخطار الحركة الشعبوية مواجهتها، وهو ما شهدناه في بلدان مثل مصر وسوريا والعراق والجزائر، حيث تحولت الأنظمة الشعبوية إلى أنظمة تسلطية، ولاحقاً إلى ديكتوريات وجمهوريات وراثية لا تترد في شن الحروب ضد شعوبها من أجل ضمان سلطتها.
لكن لندفع التساؤل للأمام قليلاً، وذلك بالتركيز على الشعب عوضاً عن الشعبوية، الشعب بوصفه شرط لازم للشعبوية نفسها. الشعب ظاهرة سياسية حديثة لا يمكن فصلها عن نشوء المجال السياسي العام المفتوح للمواطنين وعن التحولات التي أصابت فكرة السيادة، التي صار يُنظر إليها بوصفها ظاهرة طبيعية تجد أساسها في التعاقد بين أفراد (الشعب) ولم تعد ظاهرة فوق طبيعية ذات اساس إلهي أو كوني. ترافق هذا مع ظهور البرجوازي في التاريخ، حيث انحلت الرابطة بين الأفراد والجماعات الطبيعية التي كانوا أعضاء فيها، نقابات أو ملل أو قبائل. غير أن فكرة الشعب حملت دوماً ما هو أكثر من مجرد تعاقد بين أفراد، فالشعب أحال إلى نوع من الوحدة الأخلاقية التي تسمح بنشوء إرادة عامة (روسو) تتجاوز تعارض الإرادات الفردية الخاصة وتنازعها وسياقاتها الظرفية والأنانية، وهذا التجاوز سمح بالنظر إلى الشعب بوصفه مصدر السيادة والشرعية، كما سمح أيضاً إضفاء تصور خيّر على الشعب.
المسألة المركزية التي أود التأكيد عليها والاحتفاظ بها لاحقاً هي فكرة المجال العام. الشعبوية لا تعبر وحسب عن «الشعب»، بل تعبر وتستحضر الشعب السياسي، أي تستحضر الشعب (غالبيته أو جزء واسع من المواطنين) إلى المجال العام السياسي الذي تفتحه ولو بالقوة، فتخلقه أو تعيد تشكيله بطريقة أوسع بكثير من ذي قبل. الشعب لا يوجد إلا في المجال العام، فخلق المجال العام وتوسيعه شرط لازم في تشكيل الشعب، ليس شرطاً سابقاً بالمعنى الزمني، فهما متزامنان ومتضافران، لكن لا يمكن لنا أن نفهم الشعب إلا بالإحالة إلى المجال العام. في المجال العام تقدم الآراء والتصورات بشكل «عقلاني»، بوصفها آراء مسوغة ومبررة حيث نكون ملزمين بتقديم أسباب تبرر اقتناعنا برأي ما أو تدفعنا إلى رفضه، وهذا البعد العقلاني للمجال العام يتحقق عندما تصاغ المبررات بلغة عمومية بما يسمح للجميع من تقييمها، وليس بلغات ذات صلاحية محلية ومقتصرة على الجماعة التي تستخدمها. الحرية الضامنة للتنوع والعقلانية هما سببا ازدهار المجال العام والحفاظ عليه، ومن هنا يمكن لنا فهم معضلة الشعبوية، فهي تفتح المجال العام باستحضار الشعب باعتباره فاعل سياسي، مصدر السيادة في مواجه إدعاءات سيادة أو شرعية أخرى، ولكنها من جهة أخرى -عبر إدعائها حصرية التمثيل لإرادة الشعب والنزوع لصياغة الخلافات في إطار أخلاقي- تخنق الشروط الضرورية لازدهار المجال العام نفسه، وتالياً قتل فكرة الشعب نفسها.
بتعبير آخر فإننا أمام مجموعة من المقولات التي تستدعي بعضها البعض بالضرورة، بحيث لا يمكن الحديث عن إحداها بغياب الآخرى، وهي الشعب – المجال العام (السياسي) – المواطن/الفرد.1
«الشعب» عربياً
بالانتقال إلى السياق العربي فإنه يمكن ملاحظة أن تصور الشعب (الجماعة العربية) ينوس بين قطبين. يتعين الأول في العلاقة التي تربط الجماعة مع الدولة –الكيان السياسي لهذه الجماعة- حيث يتم تعريف هذه الجماعة بوصفها رعية، وعليه تكون الاستعارة النموذجية لوصف علاقة الجماعة بالحاكم هي علاقة الراعي بخرافه. هنا من الضروري إضافة ملاحظة أن العدل لا يتعارض مع تصور العلاقة باعتبارها علاقة حاكم ورعية، بل يحبذه وبشكل أداتي، حيث يصبح العدل استراتيجية سياسية نافعة للحكم وضمان الرياسة. هذه المقاربة للعدل افترضتها السياسة الشرعية أساساً لإقناع الحاكم بضرورة العدل باعتباره ضمان للحكم. بالمقابل، لا علاقة لهذا التصور بالشعب، فالرعيّة ليسوا شعباً، حيث يغيب المجال العام كما السياسة المتجاوزة لمؤامرات البلاط. فالدعوة للعدل لا تعني بالضرورة الدعوة السياسية للشرعية الشعبية. بغياب السياسة والمجال العام لا يبقى هناك معنى للحديث عن الشعب بوصفه فكرة سياسة.
يتحدد القطب الثاني لتصور «الجماعة السياسية» بالنظر إلى العلاقات الداخلية التي تربط الجماعات الفرعية ببعضها البعض، حيث تظهر الجماعة بوصفها عصبية (اثنيات/طوائف/قبائل). في هذه الحالة يبدو الشكل الأساسي لعلاقات الجماعات ببعضها البعض هو الحرب والصراع من أجل السلطة والثروة عبر السيطرة والتحكم بالدولة، وهو ما يترافق مع اشتراط الولاء التام للأفراد الأعضاء في الجماعة، فهم لا يتحددون إلا بوصفهم أعضاء في الجماعة وليس باعتبارهم أفراداً أحرار. هنا أيضاً لا وجود للشعب، مع غياب وجود المجال العام المرتكز على التبادل الحر والعقلاني للآراء التي يعبر عنها أفراد أحرار بدورهم.
في الحالتين القصويتين التي تنظمان السياق العربي المعاصر يغيب الشعب، بوصفه جماعة من المواطنين الأحرار، عن المخيلة السياسة لصالح الرعية أو العصبية. بغياب المفهومين التأسيسيين لأي مخيلة سياسية تستدعي «الشعب» -المجال العام والمواطن/الفرد- يصبح الحديث عن الشعب في السياق العربي بلا معنى حقيقي، وأقرب إلى مقولة بلاغية تُستخدم في الخطب والشعارات، فلا نحن نحتاجها في تحديد سيادة الدولة وتأسيس شرعيتها، ولا نحتاجها لاحقاً في التسويغ الأخلاقي للقوانين والدستور. تصل الحالة إلى أقصى مفارقاتها بالنظر إلى العلاقة التي تربط هوية الانتماء المتخيلة للجماعات القاطنة في الدولة والهوية التي تقدمها الدولة لهم باعتبارها هويتهم وهوية الوطن الذي عليهم أن ينتموا إليه. فالشعب لدينا لا تتحدد هويته بالإحالة إلى الكيان السياسي الذي يقطنه (الدولة)، فهي إما أصغر من هذا الكيان وتحيل إلى بعض الشعب، أو أكبر من الكيان السياسي نفسه جاعلة من شعب الكيان جزءاً من شعب أكبر. وهذا لا يعني أن كل شعب الكيان جزء من شعب أكبر بل بعضه، بحيث يبقى البعض الآخر خارج الشعب. أي أن الهويات التي يمكن أن تشكل إطار لوحدة أخلاقية، أو سيادية، هي نفسها غير متطابقة مع الدولة/الكيان السياسي. حتى أن الدولة تنفي الشرعية والسيادة عن نفسها، بتأكيدها على أن الشرعية للدولة الجامعة للشعب بتمامه، الشعب العربي أو الإسلامي أو الكردي وهلم جرا. من هنا يمكن فهم الموقف غير المبالي بقضايا الديمقراطية والحقوق في الفكر القومي العربي، ولاحقاً لدى الحركات الإسلامية، وتأجيلها إلى ما بعد تحقيق الدولة القومية، وهذا موقف متسق وليس نتيجة لإهمال أو لانعدام حساسية، فإذا كان من غير الممكن فصل الشرعية عن السيادة، وهذه لا تتحقق إلا بالإحالة إلى الشعب، كل الشعب، فالدولة القُطرية غير شرعية في ذاتها، بحيث الشيء الوحيد الشرعي الذي قد تقدم عليه هو حلّ ذاتها في دولة الوحدة. لكن التحول باتجاه الديمقراطية والتعاقد المحض يعني أن الشرعية يمكن ردها إلى جزء من الشعب، وبالتالي قبول أن يكون هذا الجزء من الشعب هو نفسه كل الشعب ومصدر السيادة، وبالتالي رد الإرادة العامة للشعب إلى إرادات منقسمة ومتباينة يمكن أن تحقق نفسها وسيادتها في كيانات سياسية مختلفة.
تتعقد المعضلة لدى الحركات الإسلامية، فلا تقتصر على الإحالة إلى الأمة الإسلامية المتجاوزة للدولة السياسية، بل إن مناط الشرعية والسيادة يعود إلى الله وليس إلى الشعب، حيث تتحقق الشرعية بتحكيم الشريعة، وهكذا فإننا نعود إلى عصر ما قبل السياسة، التي تنحل في الأخلاقي والديني بشكل كلي. غير أنه يمكن التمييز داخل الحركات الإسلامية، فيما يتعلق بالشعبوية، بين نزوعين أساسيين. يتمثل الأول بسياسات الهوية والذات والتي تتبنى بشكل أساسي سياسات تمثيل، الخاصية الأساسية للشعبوية، مدعية أن الحركات الإسلامية هي التعبير الوحيد عن الأمة وإرادتها وهويتها، فالإسلام هو دين الأمة وهويتها والمسلمون غالبية، وهي التي تتحدث باسم الإسلام فتصبح، وبشكل تلقائي، المعبرة الوحيدة عن إرادة الأمة الحقيقية. لا تمانع هذه الحركات بالديمقراطية إجرائياً، بل وربما تُشدد على البعد الإجرائي للديمقراطية التي تقصرها على المنظور التمثيلي (التماهي). نجد هذا النزوع لدى الحركات الإسلامية في سياق النزاعات الطائفية حيث يتم تصعيد خطاب الهوية، كذلك لدى حركات الإسلام السياسية المنبثقة عن الإخوان التي تشدد على قضايا الهوية والأخلاق والذات والحديث باسم أخلاق الشعب وهويته في مواجهة التغريبيين والعلمانيين. عادة ما تكون هذه الحركات أقل تشدداً من الناحية العقائدية، وتبدو أقرب للخليط العقائدي الذي يجمع التصوف بالتسلف، العلماني بالديني، الإصلاحي التجديدي بالتقليدي. النزوع الآخر يتجلى بوصفه أكثر انشغالاً بالإسلام بوصفه حقيقة وعقيدة متجانسة ومتسقة، فهي لا تعبأ بالمسلمين إلا بقدر ما يتماهون هم أنفسهم مع الإسلام. يظهر هذا النزوع أكثر تشدداً ونقاءً عقائدياً، فلا يعبأ بالتمثيل ويعادي الديمقراطية صراحة ودون لبس لصالح تحقيق شرع الله بالكلية، وهذا ما يجعله -مع تطرفه وتشدده- بعيداً عن الشعبوية. ويظهر هذا النزوع عموماً لدى الحركات السلفية (الجهادية أو العلمية أو حتى المعادية للسياسة بالكلية). بالطبع، تجمع غالبية الحركات الإسلامية الواقعية بين هذين النزوعين بنسب متفاوتة.
إن الحركات الإسلامية ذات النزوع الشعبوي تدفع السياسة الشعبوية إلى أقصاها مختزلة إياها في فكرة التمثيل الحصري لإرادة الأمة، وما يزيد من تهديد للديمقراطية وبشكل مضاعف في مثل هذه الاستراتيجية السياسية، هو أن تمثيل الامة يدور بالأصل حول فكرة أخلاقية ودينية عن الأمة، بما يدفع البعد الأخلاقي لتصور الشعب إلى أقصاه مشكلاً خطراً مضاعفاً على الحريات. أيضاً، ومع الانقسامات العديدة للجماعة العربية (المشرقية بخاصة) على أسس دينية وأخلاقية، فإن التركيز على الديني في تصور الهوية لا يلعب دوراً موحداً، بل مقسماً، وخاصة فيما يتعلق بالجماعة التي تشترك في كيان سياسي موحد، بما يجعل من السياسات الشعبوية ذات نجاح محدود من جهة، وخطرة على العيش المشترك من جهة أخرى.
بالمقابل، هل يمكن النظر إلى الشعبوية في السياق العربي باعتبارها استراتيجية سياسية تسمح للشعب باستعادة السياسة وتحريرها من الأنظمة المستبدة للظفر بالديمقراطية؟ الإمكانية موجودة، ولكنها صعبة بالنظر إلى التراثات التي تُحيل إليها الاستراتيجيات الشعبوية، مثل التراث الديني أو بالنظر إلى تجارب الشعبويات التسلطية، لكن الإمكانية تبقى موجودة من خلال التركيز على ماهو مشترك بشكل أكبر وبشكل مرتبط مع تعزيز القيم الديمقراطية نفسها.
لن أحاول هنا الإجابة على سؤال العجز عن بناء سياسات شعبوية عربية، لكن يجب الإشارة إلى أن استدعاء فكرة الشعب تترافق بالضرورة مع الإحالة إلى المجال العام وجماعة المواطنين/الأفراد، وبغياب الشروط الضرورية لهما يجعل من المحتم أن عملية تكوين الشعب لا تنفصل عن خلق المجال العام وجماعة المواطنين وتحقيق شروطها الضرورية المتمثلة في الحريات في مواجهة أي انتقاص منها باعتباره اعتداء يهدد المجال العام نفسه. من الممكن التدليل تاريخياً، ومن سياقنا العربي، على وجود مثل هذه الرابطة بين وجود مجال عام وبين تطور هويات وطنية وشعبية سمحت ببلورة سياسات شعبية وتشكيل رأي عام مؤثر وإن بشكل محدود. وهنا يمكن الإشارة إلى العصر الليبرالي العربي الذي ترافق بوجود مجال عام حول الصحافة الحرة والأندية والأحزاب السياسية والنقابات، وهو ما سمح بتشكيل هوية وطنية تتجاوز الانقسامات الفرعية من جهة، وقادرة على خلق مجال سياسي يسمح بدخول الشعب إليه، تحديداً الطبقات الوسطى الحديثة الصاعدة، والتأثير على النخب الحاكمة وفرض تحولات سياسية تصب بمصلحة الغالبية. بالمقابل، ومع تسلم الأنظمة الشعبوية السلطوية للسلطة وتحطيمها للمجال العام وإغلاقه فإن الهويات الوطنية تراجعت لمصلحة هويات فرعية وعصبيات تم استخدامها في الصراع على السلطة والثروة.
شيء شبيه حصل خلال فترة الربيع العربي، وهي فترة ازدهار للسياسات الشعبية بعد عقود من القمع والمصادرة والاستبداد. خلال الربيع العربي ظهر التقاء لا يمكن التغافل عنه بين شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» واحتلال الساحات العامة، أي مع الخلق الثوري لمجال عام بالقوة وفي مواجهة الشرطة والأمن، وفي هذا المجال العام تم التعبير عن إرادة كائن سياسي اسمه الشعب. إن الفترة الممتدة من ثورة يناير 2011 وحتى انقلاب السيسي عام 2013 هي الفترة التي عرفت أكثر توسع للحريات العامة والوجود في الساحات العامة بوصفها تعبيرات مكانية عن المجال العام، حريات لم تُعهد من قبل، حتى أنها طالت ما اعتبر دوماً التابو الديني والأخلاقي للجمهور. إن الترابط بين خلق المجال العام وتوسيع الحريات من جهة، وتشكيل الشعب من جهة أخرى هي النقطة المركزية لأي مسعى لتأسيس سياسات شعبية تسعى إلى كسر احتكار السلطة وفتح المجال السياسي والظفر بالديمقراطية. لكن اختزال الشعب في هوية أخلاقية مجردة دون أن يرافقها أي مسعى لتشكيل مجال عام، بل على العكس محاولات لإغلاق وضبط المجال العام باسم الأخلاق والمقدسات، لن يؤدي سوى إلى إضعاف أو إنهاء أية محاولة لبناء سياسات شعبية، خاصة في حال مجتمعات تعرف انقسامات أساسية على مستوى الهوية والمرجعيات الرمزية والأخلاقية. إن الحرية هي الشكل الوحيد الذي يمكن للشعب، حتى بوصفه وحدة أخلاقية، أن يكون ممكناً.