رؤى

«الوهابية المرتبكة» (2).. تحدي «الإخوان المسلمون»

المثير في مسألة التحدي السلفي للمدرسة الوهابية التقليدية الرسمية أن السلفية التي تبنتها المؤسسة الرسمية وتحداها علي أرضيتها الخارجون عليها، جاءت من الهند من حركة أهل الحديث هناك في نهاية القرن التاسع عشر، ومن أبرزهم: صديق حسن خان، ونذير حسين، وقد قاوموا بقوة أي تفسير عقلاني للنصوص الدينية ولُقبوا هناك بالوهابيين، وهم يتمسكون بالحديث والنصوص رافضين أي اهتمام بالمذاهب الفقهية الأربعة أو الأخذ منها

كانت المؤسسة الدينية الوهابية أرسلت إلى الهند في نهاية القرن التاسع عشر الشيخ سعيد بن عتيق (1850-1930) أستاذ الألباني للتعلم من حركة أهل الحديث هناك، وهذا يذكرنا بنموذج أبي الأعلى المودودي (1903-1979) القادم من عالم الهند متأثرا بطرائق علمائها، وتأثيره بدوره لاحقا على الحركات الإسلامية الحديثة التي تبنت أفكار سيد قطب (1906-1966) المتأثرة بعمق بمؤلفات المودودي. ما يعني أن أهم مدرستين فكريتين أثرتا علي الحالة الإسلامية في العالم العربي، خاصة في السعودية ومصر، استلهمت أفكارها من مصادر غير عربية، خاصة المدرسة الإسلامية الهندية.

في مواجهة عبد الناصر

الحرب الباردة التي نشبت بين مصر والسعودية في نهاية الخمسينيات والستينيات، فتحت المجال واسعا للإخوان المسلمين المهاجرين من مصر هربا من النظام الناصري لكي يكونوا أحد الأدوات المهمة للملك فيصل في مواجهة عبد الناصر. كانت موجات إذاعة “صوت العرب” تصل إلي قلب قرى الريف السعودي، وكان للخطاب الناصري تأثير السحر علي العقل العربي والسعودي، في المقابل أطلق الملك فيصل إذاعة “صوت الإسلام” وأسس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1961 لمنازعة شرعية الأزهر الذي سعى عبد الناصر لتحديثه وتعزيز دمجه ضمن أدوات الدولة المصرية، وفي عام 1962 تبنت السعودية إطلاق رابطة العالم الإسلامي لتأسيس جبهة إسلامية مقابلة لجبهة القومية العربية التي التفت حول الناصرية.

الملك فيصل

تلك المنصات السعودية مثلت لاحقا الخزان الأكبر لإنتاج السلفية على المنوال الوهابي واستقطاب رموز مسموعة الصوت في الأوساط الشبابية الإسلامية كحالة محمد ناصر الدين الألباني مؤسس السلفية المعاصرة، المؤسسة على التعمق في علم الحديث، فضلا عن الرموز الإخوانية التي انتشرت في كليات الجامعة الإسلامية، وعلي رأسهم علي جريشه من مصر ومحمد المجذوب من سوريا، فيما استقطبت رابطة العالم الإسلامي أسماء مهمة كأبي الأعلى المودودي مؤسس الجماعة الإسلامية في باكستان، وسعيد رمضان صهر حسن البنا، وكامل الشريف، وغيرهم.

تغلغل إخواني

وعندما أطلق الملك فيصل ما أسماه “تحديثا إسلاميا للمملكة”، أصبح الإخوان المسلمون عماد التعليم هناك، وتزايدت أعدادهم في الجامعات السعودية مثل جامعة الملك سعود التي تأسست عام 1957، وجامعة أم القري بمكة المكرمة التي استقطبت للتدريس فيها محمد قطب بعد خروجه من السجن عام 1971، والشيخ سيد سابق والشيخ محمد الغزالي، إلى جانب كوادر الإخوان من سوريا وعلى رأسهم علي الطنطاوي وعبد الرحمن حبنكة ومحمد المبارك، والفلسطيني عبد الله عزام الذي تولى التدريس في الجامعة نفسها حتى عام 1981 قبل ذهابه إلي أفغانستان للتمهيد لتأسيس تنظيم القاعدة هناك.

الشيخ محمد الغزالي

وفي جامعة محمد بن سعود التي تأسست في الرياض عام 1974 كان مناع القطان خريج كلية أصول الدين بجامعة الأزهر رئيسا للدراسات العليا بالجامعة، وهو أحد من استدعاهم الملك عبدالعزيز للتدريس في المملكة كجزء من جهوده للتواصل مع المدرسة الإصلاحية السلفية المصرية من أمثال محمد رشيد رضا و عبد الرزاق عفيفي ومحمد حامد الفقي و محمد عبد الظاهر أبو السمح، وكان مناع القطان هو أول من أسس خلية لتنظيم الإخوان في السعودية كما أنه استقبل علي عشماوي العضو البارز في تنظيم 1965 الذي كان يقوده سيد قطب حين سافر إلى السعودية لدعم التنظيم بالمال والسلاح. كما ضمت هيئة تدريس الجامعة محمد الراوي من إخوان مصر، وعبد الفتاح أبو غدة ومحمد أبو الفتح البيانوني من إخوان سوريا، وزين زين العابدين الركابي من إخوان السودان.

تهجين الوهابية والقطبية

ولئن طبع الإخوان مناهج الجامعات بأفكارهم خاصة ما يتصل بأسلمة العلوم وتأسيس أقسام للاقتصاد الإسلامي والإعلام الإسلامي وعلم النفس الإسلامي، فإنهم استطاعوا اختراق ما اعتبره الوهابيون التقليديون حرمهم الخاص في أقسام العقيدة ومناهجها بتدريس مادة “المذاهب الفكرية المعاصرة” التي كان يدرسها محمد قطب في قسم العقيدة بكلية الشريعة بمكة المكرمة، والذي سيصبح تلميذه سفر الحوالي لاحقا أهم رموز المعارضة للنظام السعودي والمؤسسة الرسمية الدينية الرسمية.

محمد رشيد رضا

وسعى محمد قطب لبناء جسور بين الوهابية والفكر القطبي، بإضافة توحيد الحاكمية الذي اعتبره فرعا من أسس التوحيد الوهابي وهو توحيد الألوهية، ما جعل التيار القطبي أكثر التحاما مع العقيدة الوهابية ومؤسستها الرسمية، فالقطبيون يعبرون عن ثنائية الحاكمية – الجاهلية بينما يعبر الوهابيون عن ثنائية الجاهلية – التوحيد، وإذا كان القطبيون يعتبرون أن النظم القائمة جاهلية ولا تحكم بالشريعة فإن الوهابيين يرون أن الناس في المجتمعات المسلمة يحتاجون إلي إعادة بناء عقيدتهم استنادا إلى علم التوحيد، ومن ثم فقد اعتبروا الصوفية والأشعرية وغيرهم من التيارات الإسلامية الأخرى مبتدعة.

سيحاول محمد قطب تأويل مواقف سيد قطب من النظم السياسية الجاهلية بهدف استثناء النظام في السعودية، مع السعي لإعادة طباعة كتب قطب الأولى مثل “التصوير الفني في القرآن” و “العدالة الاجتماعية في الإسلام” لنزع ما يخالف الرؤية الوهابية، مثل النزعة الاشتراكية ومهاجمة الأمويين بسبب توريث الحكم، وهو نمط الحكم في السعودية، ومثل الحديث عن الفن والتصوير والموسيقى وغيرها مما يعتبره الوهابيون مسائل شائنة.

سيد قطب

وبالتوازي انتشرت أعداد غفيرة من الإخوان في مواقع التدريس في معاهد المملكة ومدارسها في المرحلة ما قبل الجامعية، التي اعتبروها ساحة للعمل على تنشئة “المسلم الحق”، عبر حلقات القرآن الكريم والندوات التي كانوا يعقدونها خارج المقرات الدراسية ومناهجها، والمخيمات في الصحراء خارج المدن في استعادة لتقاليد الكشافة الإخوانية.

نقض العهد

اعتبر الإخوان أن ساحة المملكة فُتحت أمامهم لتنفيذ أفكارهم ومبادئهم ذات المنحي سياسيا الذي لا يعرفه السعوديون الذين ينحصر اهتمامهم في قضايا العقيدة والتوحيد، وسوف نلاحظ أن الإخواني السوري محمد سرور زين العابدين الذي كان يدرس في أحد المعاهد العلمية في منطقة “بريدة” بالقصيم أحد معاقل السلفية الوهابية، سوف يصبح أحد أهم الرموز في الجمع بين فكر بن تيمية وسيد قطب، وتلقين ذلك إلى تلاميذه واتباعه الذين بات يُطلق عليهم “السروريون”، ومنهم سلمان العودة وسفر الحوالي وناصر العمر وغيرهم ممن أصبحوا رموزا للمعارضة داخل المملكة في أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات، كما أن الشيخ عمر عبد الرحمن أمير الجماعة الإسلامية في مصر كان يدرس في أحد المعاهد العلمية في السعودية قبل أن يعود لمصر في السبعينيات ويصبح مفتيا للمجموعات التي قتلت السادات.

أنور السادات

رغم أن الملك عبد العزيز بن سعود كان قد التقي حسن البنا مرشد الإخوان عام 1936 وحين طلب منه البنا أن يؤسس فرعا للجماعة في السعودية فإن الملك قال له: “كلنا إخوان وكلنا مسلمين”، ما يعني عدم القبول بوجود تنظيمي للإخوان في السعودية، بيد إن تأثير الإخوان خارج المؤسسة الدينية الرسمية كان كبيرا من خلال تأسيس الإخوان السعوديين جماعات متعددة في نجد والحجاز والأحساء وغيرها، ورغم أن تلك الجماعات لم يجمعها تنظيم واحد أو مظلة جامعة، إلا أنها غلب عليها الطابع السلفي الوهابي في رفض الحزبية باعتبارها تشتيتا وتمزيقا للمسلمين، ورفض مبدأ منازعة ولي الأمر التزاما ببيعتهم له على الحكم، ومن ثم رفض البيعة لتنظيم الإخوان في مصر، وهذا ما حاول مصطفي مشهور المرشد الخامس للإخوان التنظير له في كتابه “وحدة العمل الإسلامي في القطر الواحد”.

عبد العزيز بن سعود

وجود الإخوان الكثيف في السعودية هو ما شجع الجماعة أن تدشن في اجتماعها في موسم الحج عام 1974 وجودا دوليا عابرا للحدود الوطنية عرف فيما بعد باسم التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، ومثل الوجود الخليجي ثقلا كبيرا فيه لاعتبارات الثقل المالي الداعم للجماعة.

بداية الصدام

ورغم محاولات التيار القطبي المهاجر للسعودية تبني صيغة هجين بين الأفكار والعقائد الوهابية والقطبية إلا أن تأثير الفكر الإخواني علي الشباب السعودي والنخب الدينية المستبعدة خارج المؤسسة الرسمية، مثل الأرستقراطية النجدية وآل الشيخ من أسرة محمد بن عبد الوهاب، مثل تحديا كبيرا للمؤسسة الوهابية كما فتح الباب واسعا لتحدي نظام الحكم، خاصة عقب فتوى العلماء التقليديين بجواز استقدام القوات الأمريكية للدفاع عن البلاد في مواجهة أطماع نظام صدام حسين بعد غزوه للكويت.

محمد بن عبد الوهاب

وقف الإخوان المسلمون في صف التيارات الدينية الجديدة داخل المملكة التي عارضت فتاوي المؤسسة الرسمية وتحد سلطة النظام السعودي، ما دفع الأمير نايف بن سعود وزير الداخلية السعودي إلى شن هجوم غير مسبق على جماعة الإخوان في عام 2002 اعتبرهم فيه سبب مشاكل العالم العربي والإسلامي، وقال في تصريحه: “بحكم مسئوليتي أقول إن الإخوان لما اشتدت عليهم الأمور وعلقت لهم المشانق في دولهم لجأوا إلي المملكة فتحملتهم وصانتهم وحفظتهم وحفظت حياتهم بعد الله وحفظت محارمهم وكرامتهم وجعلتهم آمنين. وبعد بقائهم سنوات بين ظهرانينا وجدنا أنهم يطلبون العمل فأوجدنا لهم السبل، ففيهم مدرسون وعمداء، فتحنا أمامهم أبواب الجامعات والمدارس، لكنهم للأسف لم ينسوا ارتباطاتهم السابقة فأخذوا يجندون الناس وينشئون التيارات وأصبحوا ضد المملكة، لقد آذوا المملكة وتسببوا لنا في مشاكل كثيرة وتحملنا منهم الكثير ولسنا وحدنا الذي تحمل، إنهم سبب المشاكل في العالم العربي والإسلامي”.

نايف بن سعود

وحين وصل الإخوان إلى السلطة في مصر في عام 2013 تحسبت السعودية من ذلك واعتبرته يمثل تهديدا لها حال تحالفهم مع مناصريهم في المملكة ضد نظام الحكم، فضلا عن أن انطلاق الإخوان من أرضية فكرية وعقدية متشابهة يعني تهديدا لشرعية المملكة ومؤسساتها الدينية الرسمية. وأعقب ذلك في عام 2014 ما اعتبر تحولا هائلا في علاقة السعودية بالإخوان بإعلان المملكة أن الإخوان جماعة إرهابية وتجريم من ينضم إليها أو يؤيدها أو يبدي التعاطف مع أفكارها.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock