ظهرت البوادر الأولى للاحتجاجات الواسعة الجارية في السودان في ولاية سنار، في 5 ديسمبر الجاري (2018)، بسبب إغلاق العديد من المخابز أبوابها لعدم توافر الدقيق. وكان من اللافت أن ذلك قد جاء مباشرةً عقب إعلان البرلمان السوداني، في 4 ديسمبر 2018، أنه يدعم تعديلًا دستوريًّا يسمح للرئيس “عمر البشير” بإعادة الترشح. ثم ظهرت احتجاجات محدودة ومتفرقة في بعض نواحي الخرطوم، بدءًا من يوم الجمعة 14 ديسمبر، وكذلك في أنحاء متفرقة من السودان. إلا أن نقطة التحول في الأحداث بدأت في مدينة عطبرة (شمال الخرطوم)، يوم الأربعاء 19 ديسمبر، إثر انعدام الخبز تمامًا في المدينة، ما أدى إلى اندلاع احتجاجات واسعة، تم فيها إحراق مقر حزب المؤتمر الوطني الحاكم، ومقرات الأمن ومقر الوالي، وأصبحت عطبرة أشبه بالمدينة المحررة خلال يوم واحد من الأحداث العنيفة، وتجاوبت معها مدن بربر والدامر المجاورة لها.
وقد تزامن ذلك مع اندلاع احتجاجات واسعة في بورتسودان في التوقيت نفسه، إثر قرار أصدرته الولاية قبلها بيومين برفع أسعار الخبز من جنيه واحد إلى ثلاثة جنيهات. وكان من اللافت أن اندلاع الاحتجاجات تزامن مع زيارة الرئيس “البشير” للمدينة لحضور إحدى المناورات العسكرية، فلم يستطع التحرك داخل المدينة، ما اضطره إلى التحرك باستخدام طائرات هليكوبتر أقلته ومرافقيه، وشاهد التظاهرات من الجو.
وهكذا، بدأت الكرة تتدحرج، حيث استمرت المظاهرات، وازدادت في الخرطوم العاصمة، بدءًا من الخميس 19 ديسمبر، وبدأ نطاقها الجغرافي يتسع أيضًا إلى دنقلا وكريمة والمتمة (الولاية الشمالية)، والقضارف وسنار (شرق السودان)، ومدني وربك (جنوب الخرطوم)، والأبيض والنهود (كردفان). ومن ثم، بدأت تكتسب طابع الشمول، وتأخذ شكل الانتفاضة الواسعة على المستوى الوطني.
ملاحظتان مهمتان يمكن التأكيد عليهما هنا: الأولى، أن الأحداث قد بدأت في الهامش أو الأطراف، وبخاصة عطبرة وبورتسودان، ثم انتقلت إلى العاصمة لكي تكتسب زخمًا، على عكس ما كان يحدث في الانتفاضات السابقة في السودان، في عام 1964 ضد نظام الفريق “إبراهيم عبود”، وفي عام 1985 ضد نظام “جعفر نميري”.
الملاحظة الثانية، أن معدل تسارع الأحداث كان متصاعدًا وانتشر بسرعة، ربما لأن أزمة الخبز التي فجرت الأحداث كانت شاملة لكل أرجاء السودان. وفي الأطراف كانت حدتها أشد من العاصمة. كل ذلك أيضًا تم في ظل مناخ خانق من الإحباط واليأس والشعور بفقدان الأمل في تحسن الأوضاع.
والسبب المباشر في اندلاع الاحتجاجات تَمَثَّل في الأزمة الاقتصادية الهائلة والكارثية التي ضربت السودان، إثر عجز الحكومة عن تدبير الموارد اللازمة بالعملة الصعبة، لاستيراد القمح والبترول. كما ترافق ذلك مع ارتفاعٍ هائلٍ في الأسعار، بسبب ارتفاع سعر الدولار الأمريكي إلى أرقام قياسية، حيث كان السعر قُبيل رفع العقوبات الأمريكية الاقتصادية على السودان، في أكتوبر 2017، يدور حول 18 جنيهًا سودانيًّا، لكنه قفز بعد ذلك -مع تحرير سعر الصرف- إلى حوالي 40 جنيهًا. ومع تفاقم أزمة الخبز والوقود، وصل سعر الدولار في بداية نوفمبر 2018 إلى 50 جنيهًا، ثم أخذ في القفز بعد ذلك إلى 60 ثم 70 جنيهًا. ويرى محللون اقتصاديون أنه قد يصل إلى 100 جنيه سوداني قريبًا.
ولم تفلح أية إجراءات حكومية في السيطرة على الأزمة، وانتشر الحديث عن تفشي الفساد و”القطط السمان” الذين يتلاعبون بالاقتصاد السوداني. وفي المؤتمر الصحفي الذي عقده “صلاح قوش”، يوم الجمعة 21 ديسمبر، ضرب أمثلة كثيرة، منها أن ربح أي تاجر في ناقلة البترول في حدود 200 ألف دولار، لكنه في السودان يصل إلى ما بين 5 إلى 7 ملايين دولار في الشحنة الواحدة، دون أن يكون لدى التاجر رأس مال، سوى علاقاته داخل الخرطوم.
والواضح -حتى الآن- أن الحكومة ليست لديها حلول لأزْمَتَيِ الخبز والطاقة، حيث أفصح “صلاح قوش” في مؤتمره الصحفي عن أن هناك إجراءات يجري اتخاذها سوف تؤدي إلى إحداث انفراجة في يناير 2019، على أمل أن تنتهي الأزمة في أبريل 2019، الأمر الذي يعني أن قدرة نظام “البشير” على احتواء الاحتجاجات محدودة تمامًا.
ويرى البعض أن هناك عاملًا سياسيًّا يقف وراء اندلاع الأزمة وتصاعدها، ويُرجعون ذلك إلى أن هناك أطرافًا من داخل النظام هي التي تقف وراء تصعيد الأحداث، وذلك بهدف منع التمديد للرئيس “البشير”. ويستشهد أصحاب هذا التحليل، بأن انقطاع الخبز تمامًا عن عطبرة، كان مصطنعًا، وتم تبريره بأن عمليات نقل الدقيق تأخرت بسبب أزمة الوقود. ويشيرون كذلك إلى أن رفع سعر الخبز في ولاية البحر الأحمر من جنيه واحد إلى ثلاثة جنيهات تم قبيل زيارة “البشير” للمدينة بيومين فقط، وهو الأمر الذي قد يكون متعمدًا أيضًا. وقد تم فتح تحقيق داخلي للتدقيق في الأمر.
هكذا، فإن تحول النظام إلى مجموعة من مراكز القوى غير المنسجمة، بل والمتصارعة في العديد من الأحيان، كما هو واضح للمراقبين، قد لعب دورًا في دفع الأحداث إلى التصاعد.
وعند اندلاع الأحداث في بورتسودان ظهرت القوات المسلحة بمظهر “المتفهم” لمطالب الجماهير، وسعت أيضًا للظهور بمظهر الحامي للشعب من العنف الذي قد تقوم به الشرطة أو جهاز الأمن. وتكرر ذلك أيضًا في عطبرة. لكن هذا الموقف تعرض للتذبذب في الأيام التالية، وبدا أن هناك ترددًا في اتخاذ موقف واضح من جانب المؤسسة العسكرية. وصدرت تصريحات بعد ذلك من رئيس جهاز الأمن ومن “فيصل حسن” (مساعد “البشير” لشئون الحزب) بأن الجيش مكلف بحماية المقرات والمنشآت الاستراتيجية.
في السياق ذاته، كان قد صدر تصريح للناطق باسم قوات الدعم السريع، بأن مهام هذه القوات لا تشمل الشأن الداخلي. كما أشار “صلاح قوش” -في مؤتمره الصحفي- بأن جهاز الأمن لا يتدخل ضد المتظاهرين، لأن هذه مهمة الشرطة، وأن هذه بدورها لم تستخدم العنف إلا ضد المخربين وليس المتظاهرين السلميين. وكان من اللافت أن رئيس جهاز الأمن في مؤتمره الصحفي اتخذ خطوة إلى الخلف، وتحدث وكأنه مراقب للأحداث، ولم يتطرق في حديثه الذي استمر أكثر من ساعتين لتأكيد الولاء للرئيس “البشير”.
لقد ظهر الجهازان الحكومي والحزبي، بمظهر الفاقد للقدرة على التحرك، بل إن العناصر الحكومية كانت تسارع بالفرار عند اشتداد الاحتجاجات. كما أن الموقف الرسمي في تفسير أو شرح الأحداث بدا مرتبكًا، فبعض قيادات حزب المؤتمر الوطني الحاكم اتهمت الحزب الشيوعي السوداني، في حين أن رئيس جهاز الأمن برأ القوى السياسية، وعزا الأمر إلى دخول ٢٨٠ عنصرًا تابعًا لـ”عبدالواحد محمد نور” (دارفور)، قدموا من إسرائيل، وقاموا بالتخريب من داخل المظاهرات، وأن بعض هذه العناصر تم تجنيدها من جانب الموساد.
في المقابل، لم يظهر للقوى السياسية المعارضة أي أثر يذكر في تحريك أو توجيه الأحداث، في الوقت الذي تم فيه توجيه نقد واسع ولاذع لمواقف “الصادق المهدي”، سواء للمواقف التي أعلنها في خطاب العودة، أو في المؤتمر الصحفي الذي عقده يوم السبت 22 ديسمبر وطالب فيه باجتماع القوى المعارضة، وتقديم مذكرة للنظام بتسليم السلطة، وإلا فإنه سيواجه اتساع الاحتجاجات والاضطرابات. وكانت هذه الانتقادات ترى أن هذا الموقف بمثابة خذلان للجماهير في الشارع، وأن الأحداث قد سبقتها. كما تساءل البعض عن الجهة التي يتم تقديم المذكرة إليها في وقت بدأ فيه النظام في التفكك.
وفي الوقت ذاته، بدا أن بعض القوى السياسية التي كانت متحالفة مع النظام تحاول القفز من السفينة، مثل حزب الإخوان المسلمين، مع ملاحظة أن ذلك تزامن أيضًا مع انقلاب القنوات الإخوانية التي تعمل من تركيا ضد نظام “البشير”، وكذلك بعض الأطراف الاتحادية التي كانت جزءًا من النظام منذ عام ١٩٩٦.
خلاصة القول، إن ارتفاع عدد القتلى (يزيد حتى الآن عن 20 قتيلًا حسب تقديرات غير رسمية)، وكذلك ارتفاع أعداد المصابين، مع إغلاق المدارس والجامعات، وقطع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي؛ يؤشر إلى أن مأزق النظام آخذ في التصاعد، لا سيما وأنه ليست لديه حلول واضحة للأزمة، ولو على سبيل المسكنات. كما أنه من الواضح أن قبضة الرئيس “البشير” ترتخي، وأن الأوضاع ربما تسير في طريق حدوث انقلاب قصر، لتتخلص من “الحمولة الزائدة” المتمثلة في الرئيس” البشير”، المطارد من المحكمة الجنائية الدولية، باعتباره أصبح عبئًا على النظام، وذلك في اتجاه إنتاج نسخة معدلة من النظام، حيث إن الجهات الرئيسية القابضة على القوة العسكرية أو الأمنية أو الحزبية التنظيمية، لها مصالح واسعة في استمرار بقائها في السلطة، مع تغيير واجهة النظام، واستيعاب جزئي للمتغيرات الجديدة.