يواجه الاتحاد الأوروبي، خلال عام 2019، عدة تحديات ضاغطة، إذ لم يُحسم بعد مسار الخروج البريطاني من الاتحاد في ظل الافتقاد لترتيبات هذا الانفصال، وتوازي ذلك مع صعود ائتلاف الشعبويين إلى السلطة في إيطاليا، مدعومًا من جانب تيارات معارضة للاندماج الأوروبي. وامتدت موجات عدم الاستقرار إلى فرنسا التي لم تنحسر بها بعد احتجاجات “السترات الصفراء”. وبخروج المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” من المشهد السياسي أصبح الدعم الألماني لتماسك الاتحاد رهنًا بالتوازنات السياسية الداخلية في برلين، واستمرارية صعود التيارات اليمينية.
سيناريوهات “بريكست”
تحول الانقسام في الرأي العام البريطاني حول مسألة الخروج أو البقاء في الاتحاد الأوروبي إلى اختلاف حول نوع هذا الخروج بين مؤيد لـ”خروج ناعم” soft brexit، و”خروج خشن” hard Brexit. ويُقصد بالأول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مع الإبقاء على علاقات وثيقة بالاتحاد فيما يتعلق بالأمور الاقتصادية، والحفاظ على بعض قواعد وتعريفات الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعارضه أنصار الخروج الخشن الذين يطالبون بالتخلص من كافة هذه القواعد والتعريفات، كما يرون أن الخروج من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق في حال فشلت المفاوضات أفضل من تقديم تنازلات تتعارض مع رغبة أغلبية البريطانيين.
وأدى هذا الانقسام إلى حدوث تصدعات داخل حزب المحافظين الحاكم، وهو ما ظهر في استقالة عدة وزراء في يوليو الماضي، مثل: وزير البريكست “ديفيد ديفيس”، ووزير الخارجية “بوريس جونسون”، لتسجيل اعتراضهما على الطريقة التي تُدير بها “تيريزا ماي” المفاوضات، والتي ستؤدي -من وجهة نظرهما- إلى التوصل إلى اتفاق نهائي سيئ. كما استقال كل من “دومينيك راب” وزير البريكست، و”شايليش فارا” وزير الدولة المكلف بشئون أيرلندا الشمالية، و”أستير ماكفي” وزيرة العمل والمعاشات البريطانية، و”سويلا بريفرمان” وزيرة الدولة لشئون البريكست، وذلك في نوفمبر 2018.
فيما ترصد خطة “ماي” فترة انتقالية بدءًا من مارس 2019، وتمتد 21 شهرًا، تبقى المملكةُ المتحدة خلالها داخل الاتحاد الجمركي والسوق المشتركة للحد من الخسائر المتوقعة، وإعطاء مجال للتفاوض على اتفاقية تجارة حرة جديدة تُنظّم العلاقة الاقتصادية مع أوروبا فور انتهاء الفترة الانتقالية.
وتُشير التوقعات إلى احتمالية عدم موافقة البرلمان على الخطة التي قدمتها “تيريزا ماي” للخروج من الاتحاد الأوروبي في ظل انقسام حزب المحافظين، وتوجه حزب DUP (حلفاء “تيريزا ماي” في أيرلندا الشمالية) إلى التصويت ضد الاتفاق.
وفي حال لم تتمكن “تيريزا ماي” من الحصول على موافقة البرلمان على خطتها، فإن هناك ثلاثة سيناريوهات بديلة
1- تمديد مدة التفاوض: على الرغم من أن ضيق الوقت وتشدد المسئولين الأوروبيين لن يُسهّل إمكانية التوصل إلى اتفاق جديد، خصوصًا مع اقتراب ولاية البرلمان الأوروبي من الانتهاء؛ إلا أنه يمكن لبريطانيا إعادة التلويح بالمادة 50 من اتفاقية لشبونة التي تنص على أن أي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي ترغب في الخروج من الاتحاد فعليها أن تحيط المجلس الأوروبي علمًا، وأن تتفاوض على ذلك في مدة لا تتجاوز عامين إلا في حالة موافقة جميع الدول الأعضاء الأخرى على تمديد هذه الفترة، وبالتالي يمكن لبريطانيا اللجوء إلى حلفائها لتمديد مدة التفاوض، ومعه الموعد الرسمي للخروج في مارس 2019.
2- الخروج دون اتفاق: قد يحدث هذا السيناريو في حالة تم رفض الاتفاق في البرلمان البريطاني، وإسقاط حكومة “ماي” بعد سحب الثقة منها بسبب إخفاقها في إنجاز المهمة الموكلة اليها، وبلوغ موعد الخروج في مارس 2019 من دون إعادة التوصل إلى اتفاق جديد. ونظرًا لمعارضة بعض نواب حزب المحافظين للاتفاق، بالإضافة إلى معارضة حزب العمال له؛ فقد تم تأجيل التصويت إلى يناير 2019 خوفًا من الوصول إلى هذه الحالة، أي الخروج من دون اتفاق، وهو ما ستترتب عليه نتائج كارثية بالنسبة للمملكة المتحدة، كانتقال الاستثمارات والشركات البريطانية إلى دول أخرى في أوروبا، بالإضافة إلى حاجة المملكة المتحدة لسن مئات القوانين قبل موعد الخروج لتنظيم حركة البضائع ومرور السلع القادمة من أوروبا.
3- تنظيم استفتاء جديد: تحاول عدة أطراف في بريطانيا التسويق لاستفتاء جديد حول البريكست، مما يُعتبر مخرجًا في حال وصول الأمور إلى طريق مسدود. ويُظهر استطلاع رأي أجراه معهد “سورفايشن” بتفويض من القناة الرابعة البريطانية المستقلة، في الفترة ما بين 20 أكتوبر إلى 2 نوفمبر 2018، أن 54% من البريطانيين سيصوتون لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي، كما أصدرت محكمة العدل الأوروبية قرارًا في ديسمبر 2018 يقضي بأن لبريطانيا الحق في التراجع عن قرارها بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي دون الحصول على موافقة باقي الدول الأعضاء.
المعضلة الإيطالية
بعد الأزمة الناتجة عن رفض الاتحاد الأوروبي لموازنة الحكومة الإيطالية المؤلَّفة من تحالف “حركة خمسة نجوم” وحزب رابطة الشمال اليميني المتطرف، تصاعدت مخاوف المحللين من احتمالية سعي إيطاليا للخروج من الاتحاد الأوروبي، لا سيما بعدما كشفت عدة استطلاعات للرأي عن أن الإيطاليين يُحمّلون الاتحاد مسئولية أزماتهم المالية، كما سبق وأن صرح “كلاوديو بورجي” (رئيس لجنة الموازنة في مجلس النواب الإيطالي)، في أكتوبر 2018، بأن بلاده سوف تكون أفضل حالًا إذا خرجت من منطقة اليورو، وهو ما دفع بعض المحللين إلى وصف ذلك “إيطاليكست” (Italexit).
من جانب آخر، يرفض بعض المحللين هذا الرأي، ويرون أنه مجرد تهديدات من الائتلاف الشعبوي، فروما لا تزال في حاجة لعضوية الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو لمنع انهيار اقتصادها عبر الاستفادة من قروضه الميسرة بفوائد منخفضة، كما أن الاتحاد الأوروبي يسعى لتفادي السيناريو البريطاني، خصوصًا أن إيطاليا تُعتبر ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، وبالتالي فإن أي أزمة ضخمة سيعاني منها الاقتصاد الإيطالي ستكون لها ارتدادات خطيرة على الاقتصاد الأوروبي. بيد أن التحالف الشعبوي الموجود على رأس الحكومة الإيطالية يرى أن حجم تأييده سيزيد بين الناخبين الإيطاليين كلما أمعن في تحدي الاتحاد الأوروبي.
ما بعد “ميركل”
شكّل وصول “أنجريت كرامب كارنبوير” كرئيسة للحزب المسيحي الديمقراطي في الانتخابات الحزبية التي جرت في 7 ديسمبر 2018 ارتياحًا لدى “أنجيلا ميركل” التي قررت عدم الترشح لرئاسة الحزب، لا سيما بعد النكسة الانتخابية التي تعرض لها حزبها في مقاطعة هيسن، حيث تمتلك “أنجريت كرامب كارنبوير” رؤى متقاربة مع “ميركل” فيما يتعلق بدعم المشروع الأوروبي.
كما أن نجاح منافس آخر كان سيؤدي إلى نوع من عدم الانسجام بين رئيس الحزب الجديد والمستشارة الألمانية “ميركل”، خصوصًا أن أولوية الرئيس الجديد كانت ستركز في الغالب على النهوض بالحزب المسيحي الديمقراطي، واسترجاع ناخبيه الذين اتجهوا إلى التصويت لأحزاب أخرى، مثل حزب البديل لأجل ألمانيا AFD، ردًّا على بعض سياسات “ميركل”، مثل انفتاحها على استقبال اللاجئين.
وبدا واضحًا من المواقف التي أعلنتها “كرامب كارنبوير” خلال حملتها الانتخابية أنها تؤيد إنشاء جيش أوروبي، وإصلاحات منطقة اليورو المتفق عليها بين “ماكرون” و”ميركل” في يونيو 2018، مما يساهم في حدوث نوع من التوافق الألماني – الفرنسي خلال الفترة المقبلة.
تراجع فرنسي
صوّر “إيمانويل ماكرون” المعركة الانتخابية في مواجهة “مارين لوبان” (مرشحة حزب الجبهة الوطنية اليميني) بأنها مواجهة بين أوروبا والانعزاليين، وهو ما دفع بعض أنصار الاتحاد الأوروبي للتصويت لصالحه، وتم وضع انتصاره كمؤشر على رغبة أغلبية الفرنسيين في استمرار انخراط فرنسا في مشروع التكامل والاندماج الأوروبي، ولكن ضمن ورشة إصلاحات، بدءًا من إصلاح منطقة اليورو عبر تخصيص موازنة استثمارية موحدة لها، وإنشاء صندوق لمساعدة الدول الأعضاء التي قد تعاني من تحديات اقتصادية خارجية، بالإضافة إلى اقتراح إنشاء وزير مال أوروبي، وإقامة برلمان لمنطقة اليورو، والعمل على فرض ضرائب على شركات التكنولوحيا الضخمة، ومؤخرًا تبني مشروع إنشاء جيش أوروبي حقيقي لحماية الأمن الأوروبي.
بيد أن اندلاع موجة احتجاجات “السترات الصفراء” قد تعرقل هذه المشروعات، فعلى الرغم من خفوت حدة هذه الاحتجاجات، فإنها كشفت عن تراجع القدرة الشرائية لدى الطبقة الفرنسية المتوسطة، وتزايد مستوى اللا مساواة في الدخول، وتزايد عدد العاطلين عن العمل. ويشير لجوء بعض المشاركين في هذه الاحتجاجات إلى العنف وانتشار هذه التحركات إلى دول أخرى كبلجيكا وهولندا إلى درجة اليأس الشاملة التي تسيطر على هذه الشريحة الاجتماعية.
ويرى بعض المحللين أن الحكومة الفرنسية غير قادرة على تحسين أوضاع هذه الطبقة، نظرًا للالتزامات المالية التي تُنفقها على مشاريع الاتحاد الأوروبي. وفي هذا السياق نشر الرئيس الأمريكي تغريدة يرى فيها أن على فرنسا سحب الأموال التي تصرفها على تمويل اتفاقية المناخ وإعطاءها لهؤلاء المحتجين.
تحديات 2019
يُمكن الإشارة فيما يلي إلى أبرز التحديات التي سيكون على الاتحاد الأوروبي -كمؤسسة- مواجهتها في عام 2019، والتي تتمثل في:
1- حلفاء بريطانيا: تَعتبر بعض دول أوروبا الشمالية والشرقية بريطانيا الداعم الأكبر لها في بعض القضايا داخل الاتحاد الأوروبي، مثل: التجارة الحرة، والدفاع عن السيادة الضريبية الوطنية، والوقوف في وجه روسيا، ومن ثم فقد تتجه دول مثل: السويد، والدنمارك، وهولندا، ولاتفيا، وأستونيا، وفنلندا، مع بريطانيا، إلى إعادة إحياء فكرة الرابطة الهانزية Hanseatic league التي تشير إلى رابطة قديمة ضمت بعض المدن التجارية، بيد أن مثل هذه الروابط مع بريطانيا والبعيدة عن الاتحاد الأوروبي قد تساهم في إضعافه، في حين يرى بعض المحللين أن خروج بريطانيا سيساهم في زيادة الدور الألماني – الفرنسي، وتكريس تكامل أعمق بين باقي الدول المتبقية في الاتحاد.
2- حكومات متمردة: يواجه الاتحاد الأوروبي معضلة تمرد بعض الحكومات المنتخبة بشكل ديمقراطي على قواعده الأساسية، على غرار الأزمة مع الحكومة الإيطالية، كما تحاول حكومة “فيكتور أوروبان” السيطرة على الإعلام، وتقييد حرية التعبير، وهو ما يعتبره المسئولون الأوروبيون تقويضًا لأسس النظام الليبرالي ودولة القانون.
3- تحالفات مضادة: من جانب آخر، تحاول بعض الدول (مثل: بولندا، والتشيك، والمجر، وسلوفاكيا) تكوين تحالف إقليمي ربما يضم رومانيا وبلغاريا مستقبلًا من أجل التصدي لمحاولات ألمانيا على إجبارهم على تحمل حصص استقبال اللاجئين، حيث تبقى قضية اللجوء والهجرة قضية مهدِّدة للاستقرار الاجتماعي والسياسي في أوروبا، ومن ثم يحتاج الاتحاد الأوروبي لحلول جذرية توازن بين حاجة دوله للعنصر الشبابي، والتخوفات من التغيرات الديموجرافية والثقافية التي تستغلها الأحزاب الشعبوية.