في كتابه عن علاقته مع أنور السادات، وقد كانت وثيقة وانتهت بعزله من جميع مناصبه واتهامه بالخيانة العظمى، آثر محمد عبد السلام الزيات أن يعنون كتابه: «السادات الحقيقة والقناع»، حاول أن يثبت على مدار صفحات الكتاب أن السادات كانت له حقيقة يخفيها دائماً عن الناس وقناعاً يظهره على الدوام أمام كل الناس، وللحق فإن السادات لم يكن مجرد هذه الثنائية بين الحقيقة والقناع، ولكنه على الحقيقة كان رجلاً بألف وجه وارتدى على طول حياته أكثر من قناع.
كان هو الوحيد بين قادة ثورة 23 يوليو 1952، الذي كانت له سابقة أعمال سياسية عرفها الناس على نطاق واسع تسببت في فصله من القوات المسلحة وهو برتبة «النقيب»، بتهمة اتصاله باثنين من الجواسيس الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية، وإلى اعتقاله ثم هربه من المعتقل هو وزميله الطيار حسن عزت ليشتركا في العمل بالمقاولات تحت اسمين مستعارين، وبعدها يتواصل مع تنظيم من المدنيين يقومون بعمليات اغتيال لجنود الاحتلال البريطاني، فيغير السادات اتجاه التنظيم إلى القيام بعمليات اغتيال للساسة المصريين الذين يتعاملون مع الاحتلال، ويشارك في تنفيذ عملية اغتيال أمين عثمان، ليبقى سجيناً على ذمة المحاكمة ثلاث سنوات، ويغادر السجن ليعمل في شركة للنقل البحري، قبل أن يعود إلى الجيش وتتم مساواته بزملائه، فيحصل على رتبة «العقيد»، ويصبح واحدًا من أواخر الذين انضموا إلى قيادة تنظيم الضباط الأحرار.
أثناء المحاكمة في قضية اغتيال أمين عثمان
جاء متأخراً عن موعد الثورة، وقيل في ذلك أسباب وروايات كثيرة، فلم تكن له مهمة محددة ليلة الثورة غير قطع الاتصالات عن القيادة، فلما تأخر عنها لم يجد قادة الثورة غيره لكي يلقي بصوته من الإذاعة بيان الثورة الأول، بالإضافة إلى أنهم رأوا فيه صاحب صوت مميز، وكان الأكثر شهرة ومعرفة لدى الرأي العام.
ثم كان هو أول أعضاء مجلس قيادة الثورة الذين ظهرت صورهم في الصحف مع اللواء محمد نجيب “الزعيم الواجهة” للثورة، ومع ذلك فقد ظل السادات الأقل حظًا بين زملائه حين تحولت الثورة إلى سلطة واستقرت الأمور لقادتها.
مجلس قيادة الثورة
تولى جميع أعضاء مجلس قيادة الثورة، مناصب ومواقع مؤثرة في السلطة التنفيذية، وبقي هو مبعداً عن تولي حقائب حكومية، باستثناء فترة قصيرة عين خلالها وزيرًا للدولة بلا وزارة ولا اختصاصات، وكان أهم نشاطاته في تلك الفترة هو عضويته بمحكمة الثورة، التي حاكمت رموز العهد السابق على الثورة، ومن بعدها عضويته بمحكمة الشعب التي حاكمت الإخوان المسلمين بعد محاولتهم اغتيال عبد الناصر عام 1954.
خبر حادث المنشية
وبعد مرور خمس سنوات على الثورة فاتحه عبد الناصر في تولي رئاسة مجلس الأمة، أول مجلس نيابي يتشكل بعد الثورة، فاعتذر بعد أن علم أن عبد اللطيف البغدادي الرجل القوي في قيادة الثورة أبدى رغبته في تولي المنصب، وقبل السادات أن يكون وكيلاً للمجلس تحت رئاسة البغدادي، وهو الموقع الذي انطلق منه لكي يتولى رئاسة مجلس الأمة في الفترة ما بين عامي 1964 و1969 حتى عينه عبد الناصر نائبا لرئيس الجمهورية.
كان الانطباع السائد لدى المحيطين بالدائرة الحاكمة أن السادات لا يريد أن يصدع رأسه بتولي المناصب التنفيذية، لأنه لا جلد له على العمل ولا يعنيه من السلطة إلا ما تضفيه على شاغلها من مكانة اجتماعية وحياة مريحة.
هذا انطباع روَّجه السادات بنفسه عن نفسه في فترة مبكرة، وهو واحد من أقنعته الكثيرة التي ارتداها، فقد عبر مبكراً عن ضيقه بالصراعات داخل مجلس قيادة الثورة، واقترح أن يتنازل أعضاء المجلس عن سلطتهم لجمال عبد الناصر على أن يستشير من يختاره منهم في الموضوعات التي يرى استشارتهم فيها، ولما لم يجد سنداً لاقتراحه أعلنها صريحة أنه يتنازل عن صوته لعبد الناصر، وقال قولته الشهيرة: صوتي في جيب عبد الناصر، وامتنع عن حضور جلسات المجلس.
أدرك السادات مبكراً قانون السلطة، فعاش في دور المستغني على هوامش خريطة سلطة 23 يوليو، دون أن يضعه أحد من بين المنافسين في حسابه، وكان الوحيد من بين أعضاء مجلس قيادة الثورة الذي لم يعين نائبًا لرئيس الجمهورية، أو رئيسًا للوزراء وتولى آخرون من أعضاء الصف الثاني والثالث مناصب رفيعة في الحكم، بينما ظل هو يتولى مواقع هامشية وغير مؤثرة، وبدا أنه سعيد بموقعه في الظل وحريص عليه.
بعد هزيمة يونيو سنة 1967، اختفي كثير من رجال الصف الأول، ولم يجد عبد الناصر حوله من زملاء الماضي غير أنور السادات، خاصة بعد انتحار عبد الحكيم عامر، فتوثقت العلاقات بينهما، وفوجئ الجميع باختياره نائبًا وحيدًا لرئيس الجمهورية فارتدى وجه الحريص على صحة الرئيس وله في ذلك قصص تروى.
بعدها رحل عبد الناصر، ولم يكن السادات هو أقوى المرشحين لخلافته، وكان كثير من المتواجدين عند قمة السلطة وقتها يرى كل واحد منهم أحقيته في الخلافة، وكان الانطباع السائد حتى خارج محيط السلطة لدى الرأي العام أن السادات ضعيف الشخصية، ولن يقدر على تحمل مسئولية خلافة رجل بحجم وقيمة وزعامة جمال عبد الناصر، وأذكر أن واحداً في قيمة وقامة نجيب محفوظ كان لديه مثل هذا الانطباع، وقد قال مرة : «رغم أن السادات كان هو الوحيد من بين أعضاء مجلس قيادة الثورة الذي كنا نعرفه نتيجة اشتراكه في النشاط السياسي قبل الثورة، ولدوره في قضية مقتل أمين عثمان إلا أن منزلته في نفوسنا كانت متدهورة وكنا نعتبر السادات في آخر الصف من قيادات الثورة، خاصة أن دوره ظل لسنوات طويلة شرفياً ليس مقارنة بعبد الناصر فقط، بل وحتى بالنظر إلى الأدوار التي أداها رجال مثل عبد الحكيم عامر أو زكريا محي الدين أو عبد اللطيف البغدادي أو كمال الدين حسين، وغيرهم من أعضاء مجلس قيادة الثورة، بدا السادات لنا كأنه العضو «المركون» أو «الاحتياطي» خاصة وأنه لم يتول منصباً مؤثراً طيلة عصر عبد الناصر، ولذلك لم أتصور أبداً أن يكون هو خليفة عبد الناصر، ولما حدث ذلك بالفعل اعتبرت المسألة في غاية السخرية والسخف”.
لم يكن هناك وجه للمقارنة بين عبد الناصر والسادات، وبدت الفروق بينهما هائلة، وذلك على عكس الوضع بالنسبة لسعد زغلول وخليفته مصطفى النحاس، وصدَّق رجال المقدمة في حينه التظاهر المزمن للسادات بأنه عازف عن السلطة وزاهد فيها، ورأوا أنه غير مؤهل للقيام بتبعاتها، فتحمسوا له ظناً منهم أنه سيكون مجرد صورة أو واجهة يمارسون من خلفها السلطة كلها، وبعد سبعة أشهر أطاح السادات بهم جميعًا، وزج بهم في السجون وانفرد بالسلطة وحده من دون شريك مشاكس ومن دون منافس يتطلع إلى بين يديه من سلطات مطلقة.
ومن بعد ذلك سار السادات على خط عبد الناصر ولكن بممحاة، كما قالت النكتة الشهيرة التي راجت في زمنه، وأخذ مصر إلى الطريق العكسي الذي سارت فيه عبر السنوات الثمانية عشر التي سبقت جلوسه على عرشها كآخر الفراعنة الكبار كما كان يحلو أن يصف نفسه.
أحد أوجه السادات التي ظهرت مبكراً حتى قبل قيام الثورة هو رغبته الجامحة في العمل بالصحافة، فشغل بعد الثورة رئاسة مجلس إدارة «دار التحرير» التي أنشأتها الثورة لكي تعبر عنها وكان له في بلاط صاحبة الجلالة قصص تروى.
كانت الشهرة هي هاجسه الأول ورغبته الجامحة، وكانت الصحافة حسب رأيه يمكن أن توفر له المزيد من الشهرة، وقد راسل الصحف قبل أن يكتب فيها، ولم يكن معروفاً عن السادات اهتمامه بالثقافة، وبينما كان عبد الناصر قارئاً حتى النخاع بل لم يكن ينام إلا عندما يقرأ، كان السادات يحب الملخصات بمنطق «البعد عن وجع الدماغ »، ومعارفه تدخل في باب الثقافة السمعية، أو ثقافة التجربة والاحتكاك، ولم يعرف عنه أنه من هواة القراءة التي هي أحد أهم ركائز تكوين المثقف، كان يعف عن قراءة التقارير التي تأتيه كرئيس دولة فيأمر سكرتيره بأن يحمل «هذه الأكوام» من التقارير التي تراكمت إلى جانب سريره.
وشهادة كاتب ومثقف كبير مثل أحمد بهاء الدين تؤكد لنا هذا: «لا أكاد أذكر أنني رأيته يوماً جالساً في مكتبه، ولا أكاد أذكر أنني رأيته يوماً وأمامه في الحديقة أو في الصالون أي أوراق أو ملفات، كان يدير الدولة كلها بالتليفون فقط»، وقد قالها له صريحة فوزي عبد الحافظ السكرتير الخاص للرئيس السادات: انت عارف الرئيس من زمان «ما لوش خلق على القراءة»، ودلوقت بقت مشاغله كثيرة جداً، أنا أحط له التقرير على «الكمودينو» جنب السرير كل يوم، لكن يفضلوا يزيدوا لحد ما يبقوا عشرين تقرير، وبعدها يقول لي شيلهم بقي، لازم الحاجات اللي فيهم بقت قديمة.
وجه آخر من وجوه السادات الكثيرة هو وجه الممثل، الذي ظل لصيقاً به حتى لحظة رحيله، وبدا طول الوقت وكأنه يمثل على خشبة الحياة أدواراً يتقنها، ولست أذكر متى ولا أين قرأت ما رواه بعضهم عما جرى في بدايات الثورة حين فكر الطيار حسن عزت في أن يعود إلى عمله في القوات المسلحة، وقد كان رفيق نضال أنور السادات قبل الثورة، وشجعه السادات على ذلك مثنيًا على المزايا التي يتمتع بها صاحبه وعلى دوره الوطني، وبعد عودته إلى صفوف الجيش لم يمر وقت طويل حتى تقدم حسن عزت بطلب إلى عبد الناصر أن يعينه قائدًا لسلاح الطيران، وعرض عبد الناصر الأمر على أعضاء مجلس قيادة الثورة، فلم يمانع منهم أحد إلا السادات الذي تحدث للمجلس عن السلبيات الكثيرة في شخصية حسن عزت وأكد لهم من واقع تجربته معه أنه غير أهل للثقة، فعدل المجلس عن اختياره لهذا المنصب.
وبالطبع علم حسن عزت أن صديقه السادات هو الوحيد الذي اعترض على ترشيحه، فذهب إليه مستنكراً ليسأله: ألم تقل لي إنني صاحب تاريخ نضالي ووطني كفء، وإن الثورة لا تستغنى عن أمثالي؟ فقال له السادات بهدوء وبرود: أيوه قلت لك، فعاد حسن عزت يسأله: طيب ليه قلت عكس كده قدام مجلس قيادة الثورة؟ فرد عليه بالبرود نفسه: أنت عارف يا «أبو علي» يا حبيبي إن الحياة تمثيل في تمثيل.
نظرية الألف وجه تفسر الكثير من تصرفات السادات، وجعلته يدمن راوية الحدث الواحد بأكثر من رواية، بعضها تفصيل لبعض، وبعضها نفي للبعض الآخر، وأكثرها كان الغرض منه -بعد التدقيق- عدم الكشف عن مكنون نفسه، بل وستر هذا المكنون طول الوقت، كان السادات يراوغ الحقيقة وتراوغه، يتجنبها ويلتف من حولها، ويزوغ منها ويكابر في مواجهتها ويحاول تضليل الآخرين حتى لا يصل منهم أحد إليها.
وخلافاً لجمال عبد الناصر، الذي حاول أعداؤه، واستماتوا في طمس حقائق الدور الذي أداه، كان السادات هو الذي حاول بنفسه طمس حقيقة الدور الذي لعبه في الحياة السياسية، ولعل كل جهده قد انصب طوال فترة عبد الناصر على محو آثار تاريخه قبل الثورة أو تبييضه، وجل جهده طوال فترة حكمه انصب على محو آثار تاريخه في ظل عبد الناصر أو إعادة صياغته. وهكذا ستجد أن أنور السادات رجل راح يمحو كل تاريخه أو يُكيفه من جديد على مقاس «رب العائلة» وكبيرها والحاكم بأمره فيها، وهو الوجه الأخير الذي أراد أن يسكن به صفحات التاريخ غير مدرك أن التاريخ يمكن تزويره بعض الوقت، ولكن لا يمكن خداعه طول الوقت.