رؤى

الإسلامويون في الأردن.. لماذا تتمدد السلفية الجهادية في الفضاء الإخواني؟ (2)

كتب: باولو ماجيوليني

ترجمة: احمد بركات

مع حلول عام 2001، سعى بعض الإسلاميين في الأردن إلى تأسيس ’حزب الوسط الإسلامي،. وبمجرد صدور الموافقات الحكومية على إنشاء هذا الحزب، صب أعضاؤه جل اهتمامهم على انتقاد ما اعتبروه تطرفا دينيا، وأعلنوا بقوة دعمهم للتعددية، وحرصوا على تمييز كيانهم الوليد عن كل من جماعة الإخوان المسلمين وجبهة العمل الإسلامي.

ورغم عجز حزب الوسط عن قيادة التيار الإسلامي في البلاد، إلا أن تأسيسه – إلى جانب الجدل المحموم الدائر آنذاك بين تياري الاعتدال والتشدد داخل جبهة العمل الإسلامي بشأن المواقف التي يجب اتخاذها حيال السياسات الحكومية – قد أظهر بجلاء أن التيار الرئيس داخل تيار الإسلام السياسي الأردني تغشاه تحولات جذرية وتطورات مهمة.

لم تحمل رياح العقد الأول من الألفية الجديدة الكثير من بذور التغيير. فقد استمرت المواجهات بين الجبهات السياسية والأيديولوجية داخل جماعة الإخوان المسلمين، وتشبث المنشقون بمواقفهم، بينما استمر الجدل المحموم بين معسكري الحمائم والصقور بشأن ما يجب تبنيه من إستراتيجيات واتخاذه من تدابير. ومع انتصاف هذه العشرية، شهد عام 2006 توترات غير مسبوقة في العلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين والنظام بسبب سياسات الأخير التي تهدف إلى احتواء الجماعة، ومن ذلك بسط الحكومة سيطرتها كاملة على ’جمعية المركز الإسلامي الخيرية‘، التي كانت تخضع في السابق للإدارة الإخوانية.

نكسة الانتخابات البرلمانية

وفي عام 2007 نجح معسكر الحمائم داخل جماعة الإخوان المسلمين في فرض رأيه بالمشاركة في الانتخابات البرلمانية، وهو ما أسفر عن اسوأ نتيجة انتخابية في تاريخ الجماعة، حيث لم تحصد سوى ستة مقاعد فقط من إجمالي 110.

نسب الصقور هذه النتيجة بالدرجة الأولى إلى إستراتيجية الهيمنة والاحتواء التي مارسها النظام. وعلى المدى القصير، دفع المعتدلون داخل جماعة الإخوان ثمن هذه الهزيمة، حيث خسروا انتخابات مجلس شورى الجماعة، كما ازدادت حدة المواجهة بين تياري الاعتدال والتشدد داخل الجماعة، وقوبلت جميع مطالب الإصلاح التي تولى كبرها المعتدلون بالرفض.

في هذا السياق، عملت ثورات الربيع العربي كمادة محفزة للتغيير، برغم أن جماعة الإخوان المسلمين بدت في البداية وكأنها تستلهم إستراتيجيتها التقليدية. فمن ناحية، ظلت الجماعة مخلصة لخيار المقاطعة الذي دعت إليه في الدورتين الانتخابيتين في عامي 2010 و2013. ومن ناحية أخرى، انضمت الجماعة إلى الاحتجاجات والتظاهرات التي تطالب بالإصلاح السياسي والعودة إلى دستور عام 1952. وقد ساعدت العوامل الداخلية والإقليمية جميعا على إزكاء الجدل الداخلي بشأن طبيعة الإصلاحات المطلوبة، وطريقة فهم دور الجماعة كمعارضة وطنية.

أزمة “مبادرة زمزم”

في عام 2012، تعرضت جماعة الإخوان المسلمين لأزمة عاصفة. ففي شهر أكتوبر من هذا العام، عقد نائب الأمين العام السابق لحزب جبهة العمل الإسلامي، رحيل غرايبة، ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في الحزب، نبيل الكوفحي، اجتماعا في فندق زمزم لإطلاق ’مبادرة البناء الوطني‘ على أساس مبادرة مشابهة نظمت فعليا في عام 2008 – 2009، ولكنها قوبلت بالرفض من قبل المتشددين. مثلت هذه المبادرة، التي أطلق عليها ’مبادرة زمزم‘، تحديا صارخا لخيار المواجهة ضد النظام الذي تبنته القيادة الإخوانية، حيث كانت تهدف إلى تعزيز قيم المشاركة والحوار، ودعم فكرة الدولة المدنية عن طريق إقامة نظام ملكي دستوري ودعوة تيارات الإسلام السياسي إلى قبول التعددية على المستويين السياسي والمجتمعي من أجل تعزيز رؤى الحكم الرشيد ولتبني مواقف لا ترتبط فقط بالمفاهيم والقيم الإسلامية.

والحقيقة أن هدف مؤسسي هذه المبادرة لم يكن الانشقاق عن جماعة الإخوان المسلمين، وإنما إلى إجراء إصلاحات داخلية. وبرغم ذلك، فقد حصل مؤسسي المبادرة على موافقة حكومية للعمل بصورة مستقلة في إطار قانوني محدد. لم تكن القيادة الإخوانية لتتلقى الأمر برحابة صدر، وبالفعل جاء رد الفعل الإخواني قاسيا؛ إذ اتهمت الجماعة ’زمزم‘ بالعمل مع النظام والانضواء تحت لوائه، لكنها في الوقت نفسه واصلت المشاركة في اللجنة التنسيقية العليا لأحزاب المعارضة الأردنية، ودعت مجددا إلى مقاطعة انتخابات عام 2013.

رحيل غرايبة أمين عام مبادرة زمزم

لم تؤد هذه الإستراتيجية إلى نتائج ملموسة، ولم يمض وقت طويل حتى لاحت في الأفق صراعات جديدة داخل الصف الإخواني، خاصة في ظل تغير الظروف الجيوسياسية، وهو ما أدى إلى تقويض وحدة القوى المعارضة، وحول اهتمام جماعة الإخوان المسلمين من الفضاء السياسي الأردني إلى شئونها الداخلية. وفقا لذلك، أدت الإطاحة بالرئيس المصري الإخواني، محمد مرسي، وارتفاع وتيرة الحرب الأهلية في سوريا، واعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية في كل من مصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، إلى تأزم موقف الجماعة، سواء على المستوى الداخلي، أو على مستوى علاقتها بالنظام. وقد جاء قرار الجماعة بإقصاء الأعضاء الذين شاركوا في مبادرة زمزم كدليل على استحكام الأزمة.

نذر المواجهة العاصفة

حملت نهاية عام 2014 نذرا أشد سوءا لجماعة الإخوان المسلمين، حيث قامت السلطات الأمنية بإلقاء القبض على زكي بني إرشيد، نائب المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن، وصدر ضده حكم بالسجن ثمانية عشر شهرا بموجب قانون الإرهاب إثر نشره مقالة انتقد فيها قرار دولة الإمارات بحظر جماعة الإخوان المسلمين. في الوقت نفسه، أرسل تنظيم الدولة الإسلامية مقطعا مصورا لعملية اغتيال الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، مما زاد من مخاوف النظام وعمق شكوكه بشأن ما آلت إليه أوضاع التطرف في البلاد.

تزامن ذلك مع قيام الحكومة الأردنية بحظر أي اتصالات بين جماعة الإخوان المسلمين وحركة حماس. وفي خضم هذه الأحداث، قام المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين، عبد المجيد ذنيبات، بالتقدم بطلب رسمي إلى الحكومة الأردنية للموافقة على تسجيل جماعة الإخوان المسلمين كحزب سياسي بموجب قانون الأحزاب السياسية الجديد لعام 2014. وقد مثلت هذه الخطوة الأزمة الثانية والأكثر تأثيرا على الإطلاق على جماعة الإخوان المسلمين في السنوات الأخيرة.

 “زكي بني ارشيد” نائب المراقب العام لجماعة الاخوان بالأردن

كشف طلب ذنيبات بصورة مفاجئة عن كافة التناقضات الموجودة داخل الجماعة منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، والتي تفاقمت بصورة كبيرة بعد عام 2007. فقد أكد ذنيبات حاجة الجماعة الماسة إلى إنشاء حزب رسمي لتتوافق مع القوانين الجديدة – حيث كانت الجماعة لا تزال مسجلة كجمعية خيرية – وهو ما من شأنه أن يعيد علاقة الجماعة مع النظام إلى عهدها الأول، ومن ثم يوفر لها الحماية اللازمة. إلا أن عددا من القيادات داخل الجماعة استنكرت بقوة هذه الخطوة، واعتبرتها مؤامرة دبرت بليل مع النظام دون موافقة أو حتى دراية القيادة الإخوانية، وهو ما أدى إلى زيادة حدة التوترات داخل الجماعة إلى درجة غير مسبوقة.

 عبدالمجيد ذنيبات المراقب العام لجماعة الاخوان بالأردن

كان لذنيبات ما أراد، ووافقت الحكومة في الحال على إنشاء حزب جديد، وتم تسجيله باسم ’جمعية الإخوان المسلمين‘، بينما فقد التنظيم التقليدي كافة ممتلكاته وحقوقه في العمل داخل البلاد. وبهذه الطريقة تمكن النظام – دون اللجوء لاستخدام القوة – من الاستفادة من الصراعات الداخلية التي ضربت الجماعة، ونجح عبر استراتيجيته التقليدية التي تقوم على مأسسة المعارضة في إجراء تحولات جوهرية على الكيان الإخواني ليعمل في إطار المنظومة الرسمية للبلاد، وبموجب محاذيرها وخطوطها الحمراء.

ودفع الاعتراف بالحزب الجديد الجماعة القديمة في الأردن إلى إعلان عزمها الانفصال عن جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وذلك عن طريق تعديل لوائحها الداخلية في بداية عام 2016 بهدف إعادة توجيه تركيزها السياسي على الشئون الداخلية في الأردن ووقف نزيف الانشقاقات. لكن سيف نتائج الانشقاقات كان قد سبق عذل محاولات رأب الصدع وضرب بقوة في جسد الجماعة. ولم تمهل الدولة الجماعة طويلا حتى أجهزت في العام نفسه على البقية الباقية منها، فأغلقت مقارها وصادرت ممتلكاتها.

مسار براجماتي

على المدى القصير، بدت الانشقاقات الداخلية التي أصابت الجسد الإخواني إنجازا هائلا للنظام، وبرهانا دامغا على فعالية إستراتيجياته. فقد همش الاعتراف بحزب جمعية الإخوان المسلمين العناصر المتشددة، وعزز المسار البرجماتي التصالحي. وتعد مشاركة الكيانات الثلاثة (زمزم، وجمعية الإخوان المسلمين، وجبهة العمل الإسلامي) في الانتخابات البرلمانية في عام 2016 دليلا على صحة هذه النظرية.

فوجود ثلاثة كيانات مختلفة يعني – إلى جانب مأسسة قطاع مهم من تيار الإسلام السياسي في الأردن – إعادة توجيه جهود النشطاء الإسلاميين نحو الداخل في الوقت الذي تشهد فيه المنطقة تحولات جذرية. وبينما أظهرت انتخابات عام 2014 أن جماعة الإخوان المسلمين لا تزال تحظى بدعم شعبي كبير، خاصة داخل اتحادات المعلمين والطلاب في الجامعة الأردنية، إلا أن الجماعة فقدت مؤخرا سيطرتها على كيانات واتحادات أخرى مهمة، من بينها اتحاد المهندسين. وأخيرا، عززت هذه الانشقاقات المطالبة بإجراء تحولات على المقاربة السياسية التقليدية للجماعة، ومراجعتها وفقا لمفهوم الدولة المدنية والسياسات التعددية. وعلى أساس مبادئ “لا إكراه في الدين” والتعددية الدينية، طور كل من حزب زمزم، المنبثق عن المبادرة، وحزب جمعية الإخوان المسلمين تصورهما الخاص عن التعددية السياسية.

التطورات التي أفضت إلى تشظي كيان جماعة الإخوان، التيار الأساسي داخل معسكر الإسلام السياسي في الأردن، لا يمكن الركون إليها باعتبارها في حد ذاتها نجاحا سياسيا للنظام الحاكم؛ إذ ربما يبطن في وجهه الآخر تحديات جسيمة يواجهها النظام على المدى البعيد.

 وقد تراوحت هذه الانقسامات بصورة مثيرة للقلق (وربما الفزع) بين انقسامات أيديولوجية وانقسامات هوياتية مجتمعية. فتسييس الانتماء إلى الضفة الشرقية أو الضفة الغربية، ثم تقسيمهما على أساس التمييز الدقيق بين الموالين والمعارضين لا يكشف فقط عن أن الإسلام السياسي فشل في تجاوز الانقسام المجتمعي، وإنما يؤكد أنه سقط ضحية له.

كما أن هذا الصراع على الهوية يمكن أن يوسع نطاق التهميش والإقصاء، خاصة بالنسبة إلى الجيل الجديد الذي ينحدر من أصول فلسطينية. علاوة على ذلك، تشير نتائج الانتخابات إلى أن سياسة ’فرق تسد‘ التي تبناها النظام قد عززت تشكيل جماعات جديدة تستند نتائجها الانتخابية المتواضعة إلى فقدانها المصداقية والشرعية.

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock