يعد د.محمد حافظ دياب من أهم علماء الاجتماع المعاصرين الذين تناولوا ظاهرة الإسلام السياسي بصفة عامة وتحديد علاقة السلفية بالسياسة على وجه الخصوص وله فى ذلك مجموعة من المؤلفات الهامة.
يأتي فى مقدمة هذه المؤلفات كتابه المبكر الذى صدرت طبعته الأولى عام 1987عن دار الثقافة الجديدة بعنوان “سيد قطب: الخطاب والأيديولوجيا” و” الإسلاميون المستقلون: الهوية والسؤال “والذى يتناول فيه كتابات ورؤى ومواقف كل من د. أحمد كمال أبو المجد وطارق البشري وفهمي هويدي ود. محمد سليم العوا، موضحا موقفهم الوسطى بين: السلفيين النصوصيين، والتغريبيين – كما يرى فهمي هويدي – الذين يستنسخون التجربة الغربية بغرض تطوير الواقع بناء على معاييرها.
د.محمد حافظ دياب وكتابه الإسلاميون المستقلون
وعلى الرغم من انتماءات دياب العلمانية التقدمية النقدية، فإنه استطاع أن يكون موضوعيا فى تناول ظاهرة الإسلام السياسى، وامتنع عن وصف الإسلاميين المستقلين بالانتهازية، والتي يراها كثيرون، وصفا دقيقا لمواقفهم المتعاطفة مع الإخوان المسلمين. فقد احتكم دياب في هذا التناول إلى أدوات ومنهاجية الباحث الأكاديمى التي تتسم بالعلمية والموضوعية، وتنحية أيديولوجيته وانحيازاته الاجتماعية والسياسية، وهو ما ظهر – كذلك – فى كتابه الثالث الهام الذى ظهر بعد ثورة 25 يناير بعنوان “السلفيون والسياسة” الذي يقارب فيه السلفية “عبر حلقاتها الأساسية فى التاريخ الحديث بدءا من الحركة الوهابية مرورا بالحالة المغربية فالمشروع المصرى، وانتهاء إلى السلفية الجهادية ” وهو مايمكننا من القول إننا أمام تحديد مفاهيم السلفية والأصولية وتياراتهما المختلفة والمواقف المؤيدة والمناوئة لهما، ثم استعراض تجاربها داخل ثلاثة أقطارعربية، وصولا إلى عولمتها على يد السلفية الجهادية.
ومع ذلك يبقى كتابه الأم عن سيد قطب مرجعا أساسيا لتفسير آليات العقل السلفى فى جذوره التاريخية والمعاصرة وهو ما نحاول مقاربته – هنا – ليس بغرض الاستعادة فحسب، بل بغرض توضيح راهن السلفية فى مرحلتها الأخيرة التى شهدت أعلى مستويات توحشها ودمويتها وإرهابها على نحو مانعرف عن “داعش” و”جبهة النصرة ” و”بوكو حرام” وغيرها فى البلاد العربية والأفريقية.
القراءة السوسيولوجية للخطاب القطبي:
يمتاز كتاب “سيد قطب: الخطاب والأيديولوجيا “بدخوله المباشر إلى جوهر موضوعه دون تمهيدات أو استطرادات، وهذا مايميز كتابات د. محمد حافظ دياب عموما فالمقدمة – هنا – تطرح سؤال الكتاب الرئيسى منذ السطر الأول: “ما الجديد – تراه – الذى يمكن لهذا الكتاب أن يقدمه حول “الرجل” وخطابه أو “الخطاب القطبى” إن صح التعبير؟. وللإجابة عن هذا السؤال يستبعد دياب الموقفين الأكثر شيوعا من كتابات سيد قطب واللذين يدوران حول: التشهير أو التقديس، لأن كليهما “يشكل فى الحقيقة وجهين مختلفين لموقف واحد أعم هو موقف متحيز وذاتي ينطلق من قناعة مسبقة”. أما فيما يخص المنهج الذي استخدمه دياب، لمقاربة الخطاب القطبى، فيمكن القول إنه كان مخلصا لتخصصه العلمي وهو تأسيس منهج سوسيولوجي لقراءة الخطاب الديني بصورة عامة ، مستبعدا المنهج البنيوي الذى يعزل الخطاب عن سياقه التاريخي الاجتماعي والمنهج الظاهراتي الذى يسقط – أو يسلط – انحيازات الذات الناقدة على الموضوع. فى حين يرى المنهج السوسيولوجي الخطاب الديني أو غير الديني فى بنيته الداخلية ويربطه بسياقه الاجتماعي والسياسي وبصاحبه فى آن واحد.
- بنية الكتاب:
بهذه الاعتبارات يبدأ الكتاب بمقدمة ومدخل يعالج فيهما إشكاليات الخطاب الإسلامي ويستعرض القراءات المتباينة له، ثم يستقريء في الفصل الأول وعنوانه “سيد قطب والظرف التاريخي” تحولات البنية الاجتماعية وتناقضاتها وتشكلات الخطابات السياسية: الليبرالية والراديكالية والقومية والإسلامية والناصرية التى تقاطع معها الخطاب القطبي وتزامنت معه. ثم يقدم – فى الفصل الثاني “قراءة نقدية للخطاب القطبي”، مساءلة نقدية لكل مقولات ومفاهيم هذا الخطاب. وفي الفصل الثالث الذي يحمل عنوان “المشروع الناصري والخطاب القطبي” يحاول الكشف عن العلاقة المركبة بينهما، ويتضمن الفصل الرابع والأخير حديثا حول الأيديولوجي الضمني فى شقوق نصوصه باعتبار أن دلالة الخطاب لاتقف عند حدود التعبير الصريح، فحسب، بل تتعداه إلى المسكوت عنه.
انفتاح المنهج السوسيولوجى:
وعلى الرغم من تصريح د.محمد حافظ دياب بأنه يؤسس لمنهج سوسيولوجي لقراءة الخطاب القطبي، فإنه ومن خلال استعراض بنية الكتاب، يتضح أن هذا المنهج ينفتح على المنهج التاريخي فى تناوله للظرف التاريخي الذى ساهم في انتاج الخطاب موضوع الدراسة. ولاغرابة في ذلك باعتبار أن المنهج السوسيولوجي يعد امتدادا للتاريخي كما ينفتح – بدرجة ما – على المنهج النفسي فى مقاربته لطبيعة صاحب الخطاب، وإن كان على نحو يختلف عن مداخل التحليل النفسي باستثناء إشاراته المتعددة لشعور سيد قطب بالاغتراب، سواء داخل قريته، أو فى القاهرة أو أمريكا، وإحساسه بوصايته على العالم ومن ثم أستاذيته ومسئوليته عن هدايته. لكن المهم هنا ليس السعي إلى تسمية المنهج بقدر ما هي خطواته الإجرائية، فهو من ناحية يتناول سياقات المجتمع الأساسية ذات الصلة بالخطاب، ومن ناحية أخرى يحاول اكتشاف بنية الخطاب الداخلية وما تحويه من مقولات ومفاهيم، ومن ناحية ثالثة يتخذ من الفاعل المعرفي (شخصية سيد قطب) وحدة أساسية للدراسة للتعرف على اهتماماته واتجاهاته وخبراته “.
ثنائيات الخطاب القطبى:
يستند العقل القطبى – إن صح التعبير – إلى مجموعة من الثنائيات المتناقضة التي لاسبيل إلى التقائها أو المصالحة بينها والتى تدور حول: الإسلام والجاهلية.. والإيمان والكفر.. والحق والباطل.. وحاكمية الله وحاكمية البشر.. والله والطاغوت. وقد ترتب على ذلك مجموعة من الاستنتاجات الخطيرة التي لاتزال فاعلة حتى اليوم، ومنها أن العالم المعاصر – الإسلامي وغير الإسلامي – يعيش جاهلية جديدة لأنه يحكم بغير ما أنزل الله، وأن المنهج الإسلامي وحده دون كل النظم البشرية هو الذي يحرر الناس من عبادة بعضهم بعضا، وأن قيادة الرجل الغربى للبشرية قد أوشكت على الزوال، لأنه لم يعد يملك رصيدا من القيم تمكنه من الاستمرار. وهو ماقاله عن أمريكا بوضوح بعد بعثته إليها. ويرى أن المنهج الإسلامي يس فلسفيا سلبيا بل حركيا ومن هنا جاء اهتمامه بعمل تنظي ” يجسد تصوراته فى الواقع وكان هذا – تحديدا – سبب إعدامه.
سيد قطب
إن سيد قطب تتلبسه روح صوفية تسعى إلى الموت في سبيل إحياء آرائه، فقد كان يردد دائما “إن أفكارنا مجرد تماثيل من الشمع وأن موتنا فى سبيلها هو الذي ينفخ فيها الروح”. ولذلك كان طبيعيا أن يرى العقيدة – بتصوراته عنها – أساس الأمة الإسلامية التي هي ” تجمع بشري حول مرتكز عقيدي لاحول راية قومية” مما جعل مقولة “لاوطنية في الإسلام” ذائعة الشيوع في أجيال السلفية المتتابعة.
نقض مفاهيم سيد قطب:
كيف يرى د.محمد حافظ دياب هذه المفاهيم القطبية السابقة ؟ يمكن تحديد هذه الرؤية النقدية (النقيضة) فيما يلي:
- قطعية الخطاب القطبي، وهي قطعية جعلته لايرى إلا نفسه ولايلتمس التصور الإسلامي الصحيح – من وجهة نظره – عند الآخرين بمن فيهم فلاسفة الإسلام : ابن سينا وابن رشد والفارابي لأنها – عنده – ظلال للفلسفة الإغريقية الغريبة في روحها عن روح الإسلامي.
- عدم الانطلاق من أسئلة الواقع بل من تصورات جاهزة متعالية على الواقع لأنها – بتعبيرات سيد قطب نفسه – ” حركة آتية من خارج النطاق الأرضيي”.
- عدم الاهتمام بحركة التاريخ وتغير الظروف، وهو ماجعله يسقط من حسابه “الفوارق النوعية بين واقع الجاهلية العربية، وبين واقع مسلمين انحل عقدهم وطوقتهم عوامل التخلف والاستغلال والاستبداد والتبعية “
- انسحاب مقولة “التكفير” التي أطلقها المودودي على المجتمع الهندوسي على المجتمعات الإسلامية على يد سيد قطب، وهو الأمر نفسه الذى ينطبق على ” الجاهلية “. فقد وقف المودودي عند القول بارتداد المجتمع دون الأمة، أما قطب فيرى أن الأمة قد كفرت بالإسلام وانقطع وجود الأمة المسلمة “منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر الأرض جميعا”
- وقوع الخطاب القطبي فى العديد من التناقضات، فهو مرة يدعو الإخوان المسلمين لوضع برنامج سياسي اجتماعي واضح ومحدد، ومرة يحذر الجماعة المؤمنة من أن تنزلق إلى الفخ الذى ينصب لها خصوصا بسؤالها عن تنظيم المجتمع.
وفي النهاية يمكن وصف الخطاب القطبى بالمثالية المفارقة للواقع والمتعالية على التاريخ، وأنه خطاب انقلابي استعان بالتنظيم لمعالجة قصور التصورات المثالية غير القادرة على التحقق فى الواقعي.