محمود عبد الغني روائي شاب ولد ونشأ في أعماق الصعيد، درس التاريخ وهو يقوم على تدريسه الآن، حصل على جائزة ساويرس عن روايته الأولي “متحف النسيان” عام 2013، ومن ثم جاءت روايته المشتركة “واو الدهشة” مع الروائية جهينة العوام.
الروائي محمود عبد الغني الروائية جهينة العوام
في حواره مع “أصوات أونلاين” يقول عبد المغني إنه حاول في روايته الأولى البحث عن كتابة مختلفة متمردة لا تخضع للتقليد، من أجل ترتيب الفوضى في هذا العالم. وهنا نص الحوار.
لماذا لجأت إلى التاريخ في كتابة روايتك الأولى “متحف النسيان”؟
لم ألجأ للتاريخ بشكل مباشر، ففي رأي أن الأدب خصوصًا والفن عمومًا لا يتعاملان مع الظواهر بشكل مباشر، وإنما أردت أن أضع تصورًا أدبيًا للعالم من حولي بشكله اللامحدود، ونظرتي للحوادث التاريخية لم تكن منحازة لرأي ما، وإنما كنت أعرض فقط ما شاهدته.كنت أبحث عن كتابة مختلفة، عن تمرد ما يشمل عملية الإبداع، وبحكم نشأتي في الصعيد، في السهل الضيق بين النهر والجبل، الذي كان يسمى قديمًا “سبتي”، وتعارف المؤرخين عليه باسم حضارة جبل البداري، وهي إحدى حضارات ما قبل التاريخ عقب تأسيس القرى والمدن، وقبل الوحدة الأبدية على يد نارمر، لذلك كنت أشعر داخلي بالغنى الثقافي والحضاري.
وتسرب التاريخ بداخلي دون أن أشعر، من الممكن أن تكون الأمور حدثت كذلك، وعندما تأملت الحوادث حسب علمي بها، شعرت أن التاريخ ما هو إلا خطوط أبدية تنحني وتنكسر وتستقيم، لا تستطيع أن تعرف إلى أين ستذهب الأمور ومن أين بدأت، وجدت أنني كلما أمسكت ببداية ظهرت لي أحداث سابقة.
لذا رواية “متحف النسيان” لم تهتم بالتاريخ بالشكل المتعارف عليه في كتابات المؤرخين أو حتى في الروايات التاريخية، لم أرد للأمر أن يكون مملًا ومدرسيًا، أردته تمردا في الكتابة، وتمردا في إعادة رواية الأحداث لكن بشكل مختلف، لذا وجد القارئ العادي صعوبة في القراءة، لأنه لم يكن هو أيضًا مستعدًا لقبول هذا الاختلاف، يريد رواية تقليدية، وأنا لا أرغب في كتابة هذا النوع من الابداع الذي انتهي من العالم منذ قرنين من الزمان.
هل لعبت دراسة التاريخ دور المحرض في خوض عالم “متحف النسيان”؟
-لا أعلم إذا كان هذا الأمر له علاقة بدراستي، لكن ما أعرفه جيدًا أنني أحببت الأدب أولًا، ثم تخصصت في العلوم الإجتماعية بعد ذلك، خذ مثلًا أنني الآن أقرأ عن النسبية عند أينشتاين، ومبدأ الريبة و نظرية الكم، هل هذا يعني أني أكتب الأن رواية عن الزمن، وإذا كانت فعلا لها علاقة بالزمن، فبأي زمن بالتحديد، لا أحد يعلم كيف تحدث كيمياء الابداع.
الأمر معقد وليس له تفسير أكيد، بعض النقاد المدرسيين حاولوا الحديث عن التأثير والتأثر، كأنه قوانين بطريركية، لكن المسألة أعقد من ذلك، لا أنكر أن هناك مؤثرات من كل مكان يحيط بالكاتب، لكنها كثيرة وتختلط في فكره بشكل معقد، حتى أننا يصعب علينا رصدها وحتى تعقبها.
إذا لاحظت أن كل الأعمال الابداعية العظيمة تأثر أصحابها بظروف مجتمعهم، لكن منهم نقل لنا واقعه بشكل مختلف وساحر، لأنه كان يعلم جيدًا أن الواقع والحوادث اليومية، إذا تأملناها جيدًا ستبدو لنا أكثر سحرًا من الفانتازيا.
ماذا عن الصعوبات التى واجهتها في كتابة الرواية التي تبدو محتشدة بين المتخيل والواقعي؟
لا أذكر أن هناك صعوبات محددة، أنا تركت الأمر يجري مثل النهر من المنيع إلى المصب، ربما كانت صعوبة خاصة بالتقنية المستخدمة، لكنني كنت مستمتعًا وأنا أري الأمر صعبًا، فسهلت المتعة كل صعب.قلت أنني لم أرغب يومًا أن أكتب رواية سهلة، رواية تبدأ بعقدة ثم تجد النهاية السعيدة.
من يرغب في حياته الواقعية في النهايات اليقينية لكي يطلبها في الروايات؟، ولماذا تكون هناك نهاية، لماذا نبحث عن الحبكة طوال قرائتنا للروايات.. ليست هذه الأشياء هي المعيار لجودة الأعمال الابداعية، خذ مثلا رواية “الحرب والسلام” لتولستوي، من يقرأ العلاقات بين الأبطال في البداية، لا يتوقع هذه المصائر التي آلت إليها الأشخاص في النهاية.
الأمر كله كان يبدأ بمسألة الخروج من البيت، ثم شاهد ماذا حدث بعد ذلك.. نجم خرج من مساره و أنفجر فجاءت الأرض.. طحلب استطاع الخروج من بركته فتطور إلى كائنات أخرى مختلفة تمامًا عن الأصل، رجل خرج من بيته ليحارب في طروادة ويعود إلى إيثاكا موطنه، فمر في الذهاب والأياب بالأعاجيب، ولم يكن يتوقع ذلك حتى في أسوأ كوابيسه.
حتى في الأداب والأساطير القديمة، مثلا إيزيس التي خرجت من البيت سيدة عادية، مثل معظم السيدات التي كانت تسكن في الجوار، فعادت بعد رحلة معاناة أبدية وقد توجت إلهة، وتقدس اسمها في معظم العصور القديمة والحضارات.. نحن لم يصل لنا أبدًا أي شيء عن جارات إيزيس، على الرغم من أننا نعلم أن لها جيران.
أيمكن أن نعرف “كوم أبو شيل” بأنها نموذج مصغر للعالم العربي في متاهاته؟
لا علاقة لكوم أبوشيل كما تصورتها بالعالم العربي أو حتى بالعالم الغربي، لم أفكر أثناء الكتابة بهذا الشكل الإقليمي، وإنما نظرتي كانت إنسانية عامة، قلت أنني كنت تائهًا في فوضى هذا العالم، وكتبت لأحاول ترتيب هذه الفوضى، حتى لو كانت الرواية بها فوضى للزمن، وتأكدت أن أي محاولة لترتيب هذه الفوضى مستحيلة، لأن الفوضى والتلقائية التي جرت بها الأمور في العالم، كانت جزء لا يتجزأ من تكوينه، إنها جوهره من الداخل.
كوم أبو شيل كان المكان الذي كتب عليّ أن أرصد منه هذه الفوضى، وأتمنى أن أكون نجحت في ذلك، انتمائي لكوم أبو شيل والجنوب الأعلى، كان مصادفة أيضًا فمن منا اختار المكان والزمان الذي وجد فيه قبل قدومه إلى هذا العالم، لكنها كانت بالنسبة لي أجمل مصادفة قدمت لبشري على الإطلاق.
فمن هناك شاهدت الأمور كيف تحدث أول مرة، بل شاهدت أصل الأحداث كيف جرت، أيقنت في كوم أبو شيل، أن كل العالم مر من هنا، حتى أنهم تَرَكُوا خلفهم بقايا أشباحهم وروائحهم مازالت منتشرة في الأزقة القديمة لكوم أبو شيل، وأرواحهم مازالت تداهم غابات الحلفا أثناء الليل وفي النهارات القائظة.
روايتك الثانية جاءت بمثابة عمل مشترك.. هل ترى أنها تجربة ناجحة خاصة أن الرواية تحمل خصوصية كاتبها؟
أذكر أن أحدهم قال، أنه لا توجد قراءة فردية للرواية خصوصًا، وللأدب عمومًا، لأن هناك تعدد أصوات في الروايات، حتى ولو كان الكاتب واحدا، ولا أَجِد مشكلة في رواية مشتركة، الأمر يبدو لي مثل القراءات المتعددة للعمل الواحد أيضًا.
الحداثة لم تضع سقفا منذ أن قصت سيدة حكايات لزوجها لكي ينام فلا يقتلها أبدًا وحتى الآن، الأدب والفن لا يعرفان الجمود، هذا يعني الموت، دعك من هؤلاء الذين يضعون القوانين لطريقة الكتابة، وأرجو منك أن تخبرهم، أن يدعوا ذلك للقضاة والمشرعين في الحياة العامة.
ثمة مشكلات تواجه العمل المشترك.. كيف واجهتها وماذا عن الخطوات الأولى لكتابته مشتركًا؟
لا يوجد مانعا في عمل أدبي مشترك طالما أن المشاركين يدركون المعنى الحقيقي لكلمة رواية، بروية ودون عجلة. روايتي المشتركة تتحدث عن المبدع الذي يعيش في الظل، الذي يعيش داخل مبادئه دون أن يستغل أحد ليلمع ويظهر، فلا يعرف أحد أي شيء عن فنه، البطل في الرواية هو النموذج النقيض لجبران.
بالنسبة للصعوبات، تمثلت في البحث عن صوت مختلف وبعيد تماما عن صوت شريك الكتابة، في نفس الوقت يكون منسجمًا مع صوتك تمامًا، الأمر مثل السيمفوني، وأعتقد أن ذلك توفر لي، الفكرة قد تكون مشتركة، أنت وأنا والأخرون لدينا أفكار مشتركة مع أناس أخرين لما لا.