منوعات

مائة عام على ثورة 1919: مكرم عبيد.. خطيب الأمة

“مصر ليست وطنا نعيش فيه، بل وطن يعيش فينا”، “ما نحن إلا مسيحيون دينا مسلمون وطنا، اللهم يا رب المسلمين والنصارى اجعلنا نحن المسلمين لك وللوطن أنصارا، واجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين”.. تلك بعض المقولات الخالدة لمكرم عبيد باشا أحد رجالات ثورة 1919 العظام، والذي لقب ب”خطيب الأمة”  لفرط فصاحته وبلاغته. وبعد مرور قرن على هذه الثورة لاتزال مقولات هذا الزعيم الوطني قادرة على إثارة الروح الوطنية في نفوس المصريين .

عندما بدأت أحداث ثورة 19 كان مكرم عبيد ينتظم في سلك الوظيفة الحكومية سكرتيرا خاصا للمستشار القانوني الإنجليزي، استشعر عبيد أن هذا الحراك ليس كغيره، وأن روحا جديدة دبت في الأمة، عندها كتب مذكرة إلى رئيسه الإنجليزي يستقيل من وظيفته ويستقبل عهد الثورة حرا.

كتب الزعيم الوطني في مذكرة استقالته محتجا على نفي سعد زغلول، في بلاغة عرفت عنه بعد ذلك: لقد ولدت مصر القديمة من جديد، وبدأ لها عهد آخر في الحياة وفي الحرية، فمن من بين الإنجليز الأحرار من يرضى لنفسه أن يكون آلة لقتلها أدبيا، وآلة في ضياع رجاء أمة حديثة؟! وما ذاك إلا أشد قسوة من قتلها.. لقد عثرت بلادي على روحها، فحق عليها أن تعيش حياة من له روح..

عثر عبيد هو الآخر على روحه في الثورة، فحق عليه أن يعيش حياة من له روح، ودفعته هذه الحياة إلى الالتحاق بالوفد المصري (١٩٢٠)، ليبعث به الوفد إلى انجلترا (١٩٢١) داعية للقضية الوطنية، ورسولا باسم الثورة لإعلان رفض الإرادة الشعبية مفاوضات “عدلي – كيرزون”.

تجربة المنفى  مع سعد زغلول

الفصل من الوظيفة الجديدة “أستاذ بكلية الحقوق” والنفي إلى جزيرة سيشل مع سعد زغلول ورفاقه كان جزاءً غير عادل عن سعي مكرم لحياة جديدة لها روح، فقضى سنتين في المنفى لتتوثق علاقته بسعد خلال الفترة القصيرة التي قضاها معه بسيشل، وبعد عودته (١٩٢٣) اندمج في الحياة السياسية ليصبح نائبا في مجلس الأمة عن مسقط رأسه: قنا (١٩٢٤)، لكن لم يلبث أن قُبض عليه في نفس العام إثر مقتل السير لي ستاك.

مقالات ذات صلة

سعد زغلول

 بعد انتهاء التحقيقات عاد مكرم إلى الحياة العامة مناضلا وخطيبا تتناقل الناس كلمات خطبه كأنها أبيات شعر لشوقي أو أغان لعبد الوهاب، ومحاميا لم تشهد قاعات المحاكم من هو في مثل فصاحته وجاذبية خطابه، وأصبح مكتبه أشهر مكاتب المحاماة بمصر، وأضحى صاحبه نقيبا للمحامين ثلاث دورات، أما في حزب الوفد فقد تولى منصب السكرتير العام سنة ١٩٢١، وخصه الوفديون بلقب المجاهد الكبير، لجهوده داخل الحزب وخارجه، فالسياسي والخطيب الأبرز قاد حملات ناجحة ضد حكومات القصر، لاسيما حكومة محمد محمود (١٩٢٩-١٩٣٠) وحكومة صدقي (١٩٣٠-١٩٣٣) وأسقطهما، وعده الإنجليز “مستشار السوء” لزعيم الوفد مصطفى النحاس، حيث أرجعوا فشل مفاوضات “النحاس – أندرسون” إلى تصلبه، وألقوا عليه باللائمة في نزوع الحكومات الوفدية إلى إبعاد الموظفين الإنجليز من الإدارات المصرية.

دفاعه عن العدالة الاجتماعية وتمصير الأرض الزراعية

قدرات الزعيم الوفدي لم تقتصر على ما قدمه لحزبه ولقضية الاستقلال وهو في المعارضة، بل انتقلت معه إلى السلطة في حكومات الوفد. فبتولي مكرم عبيد حقائب: المواصلات والمالية والتموين، تكشفت مواهبه في الإدارة، وبرز نزوعه للعدالة الاجتماعية وألحقها بالاستقلال الوطني لتصبح القضيتان كتوأم ملتصق لديه، ومن هنا جاء سعيه لتمصير الأرض الزراعية ونزع ملكية الأجانب لها، وأقر سياسة تمصير البنوك والشركات الأجنبية بإصدار تشريعات تلزم بتعيين المصريين في مختلف المناصب وبنسبة لا تقل عن ٥٠٪ وأن يتقاضوا ٩٠٪ من الأجور، وبصفته وزيرا للمالية أنشأ مكتبا للعمل، وضّمن ميزانيته حدا أدنى للأجور، وتأمينا اجتماعيا للعمال… وكانت كلماته داخل مجلس النواب وهو وزير موضعا للدهشة والإعجاب والسخط والاستنكار في آن، فالجماهير كانت دوما مستبشرة معجبة بوقفات وزير المالية داخل مجلس النواب ينافح عن الفلاح حتى لا تجور عليه قضية الوطن الأولى حينها؛ الاستقلال. أما ملاك الأراضي وأقطاب المال والأعمال داخل البرلمان وخارجه فقد مثّل هذا الخطاب لهم مصدر إزعاج.

الصدام مع مصطفى النحاس

إذ لم تصطدم هذه الرؤية التي تبناها مكرم عبيد بتوجهات سلطات الاحتلال فحسب ،بل برجال الأعمال وأصحاب المصالح من المصريين أيضا، ومن بينهم قيادات وفدية انحرفت بالحزب إلى اليمين، وهو ما ساهم في الصدام الشهير بين مكرم عبيد السكرتير العام لحزب الوفد ،و ورئيس الحزب مصطفى النحاس. هذا الصدام بين الزعيمين تناسب طرديا مع قوة العلاقة التي امتدت بينهما لما يزيد عن العقدين، فكان عنيفا بمقدار المرارة المتكونة في نفس الرجلين.. وأورد غالبية المؤرخين تدخل زينب الوكيل زوجة النحاس في شؤون الحزب، لإقصاء مكرم لصالح قيادات رأسمالية من أمثال فؤاد سراج الدين؛ كسبب أول للصدام. لكن المدقق في سيرة زعيم الوفد يجد أن ضميره اليقظ ونقاءه الثوري وغيرته الحزبية، كانت الدافع الأول وإن لم يكن الوحيد، إلى “الكتاب الأسود” الذي سجل فيه وقائع فساد ومخالفات مالية لقيادات حزبه بمن فيهم النحاس، ليقدمه على هيئة استجواب أمام مجلس النواب، وكان متوقعا أن لا يفضي الاستجواب إلى شيء في ظل أغلبية وفدية، ليُفصل مكرم عبيد من المجلس، ويصدر أمر من الحاكم العسكري: مصطفى النحاس، باعتقاله بمقتضى الأحكام العرفية (١٩٤٢).

مصطفى النحاس

إيمانه بالبعد القومي لمصر

تجاوز “ابن سعد” المحنة، واشترك في وضع بروتوكول الإسكندرية لإنشاء جامعة الدول العربية (١٩٤٤)، ووقع على ميثاقها في مارس ١٩٤٥، وإن كانت جهوده في هذا الجانب قد سبقت فكرة الجامعة بعقد ونصف، كما تفرد عن ساسة عصره الذين غلب عليهم النزوع الوطني، بإدراكه أهمية البعد الوحدوي القومي  لقضيتي الاستقلال والتنمية، وهو ما دعا إليه في جولته العربية سنة ١٩٣١، التي شملت سوريا ولبنان وفلسطين، واستقبل بها استقبالات شعبية حافلة.

بعد فصله من مجلس الأمة طوى مكرم عبيد صفحة حزب الوفد وأنشأ حزب الكتلة الوفدية (١٩٤٤)، مشاركا من خلاله في الحياة السياسية، ليتولى وزارة المالية في حكومة أحمد ماهر الأولى (١٩٤٤) والثانية (١٩٤٥) وحكومة النقراشي (١٩٤٥)، واستقال من الأخيرة احتجاجا على حادثة كوبري عباس الشهيرة (يناير ١٩٤٦).

كانت حقيبة “المالية” في حكومة النقراشي آخر المناصب الوزارية التي تولاها مكرم عبيد، أما آخر عمل عام شارك فيه المجاهد الكبير فكان لجنة وضع الدستور سنة ١٩٥٣ ليطبق عليه بعدها العزل السياسي، ويحتجب مكرم، كما احتجب كل ما يخص العهد الملكي، لكن روحه الوطنية الثائرة وبلاغته الساحرة وحكمته السابقة لعصره نزعت دوما للظهور، وعاشت على ألسنة الناس مقولات ما زالت قادرة على إثارة الروح الوطنية في النفوس:

“مصر ليست وطنا نعيش فيه، بل وطن يعيش فينا”، “ما نحن إلا مسيحيون دينا مسلمون وطنا، اللهم يا رب المسلمين والنصارى اجعلنا نحن المسلمين لك وللوطن أنصارا، واجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين”، “عبثا يفرقون بين آمالنا فقد اتحدت آلامنا، عبث والله كل العبث، فقد اكتشفنا سر الحياة، وهو الإخلاص، وما اتحادنا إلا اتحاد قلوبنا ونفوسنا ومشاعرنا، ولن يفصلها فاصل بعد أن جمعها الواحد القهار”.

 وكانت آخر وصاياه إلى جماهير صدقته فصدقها:

لن نقبل نحن أبناء الوادي العبودية المقنعة، أو الحرية المجزأة بعد أن علمتنا الثورة، والخبرة المُرة، أن الحرية المغلولة ما هي إلا العبودية المعسولة، فإلى الأمام… ثم إلى الأمام، تلك كانت ولا تزال هي كلمة الختام.

صورة الغلاف

بريشة الفنان:  سعد الدين شحاتة

الفيديو جرافيك 

نص: بلال مؤمن

تحريك ومونتاج: عبد الله إسماعيل

 

محمد السيد الطناوي

كاتب و باحث مصري Mohamed.altanawy1@Gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock