تتعدد وجهات النظر إزاء موقع الحضارة العربية والإسلامية الراهن من حركة التاريخ، إذ يتعامل البعض مع الحضارة قياما وسقوطا باعتبارها أداء طبيعيا ودورة تاريخية، فالحضارة كما الإنسان تمر بمراحل من النشأة والطفولة ثم القوة والفتوة فالشيخوخة والهرم والسقوط. هي اطوار وأدوار كما يصفها إخوان الصفا.
وتتباين الرؤى حول معوقات الانبعاث والنهوض والانطلاق مرة أخرى، فهناك من يراها في الأساس أزمة إدارة، فمهما تسامت المشاريع النهضوية الثقافية لن تؤتي ثمارها، مالم تجد ظهيرا سياسيا وإداريا داعما يحيل القول إلى عمل، والنظرية إلى واقع وتطبيق، فهل حدث ذات يوم أن تلاقت رغبات السلطة والنخبة المثقفة في صياغة مشروع انبعاث وإنطلاق حضاري؟ وهل تحولت الأحلام إلى مشروع يتسم بالوعي الذاتي؟ وكيف صار وإلى أين انتهي؟
أسئلة الحاضر الملحة عن سبل النهضة والتقدم، تستلزم العودة لصفحات زاهرة من تاريخ النهضة العربية القريب. فبعد قرون قضاها المسلمون فيما عرف بعصر الحواشي والشروح والملخصات. تجلت تلك الدعوات في دور جيل من المفكرين والتنويريين كالشيخ حسن العطار الذي أوعز إلى محمد علي باشا مع بداية توليه الحكم عام 1805 بضرورة إطلاق حركة ابتعاث علمية إلى الدول الأوربية.
كانت هذه واحدة من اللحظات القلائل التي التقت فيها أحلام النخبة المثقفة مع طموح السلطة في التحديث والتغيير والولوج بالبلاد إلى مرحلة أخرى من التاريخ. فلم تمض سوى أربع سنوات على حكمه حتى أرسل محمد علي أول بعثة علمية مصرية إلى إيطاليا عام 1809 لدراسة العلوم العسكرية وفنون الطباعة والهندسة، كان من بين أعضائها نقولا مسابكي الذي ما أن عاد حتى أنشئت مطبعة بولاق عام 1820، وبدأ إصدار جريدة الوقائع المصرية عام 1828. صحيح أن المسيحيين المارون في جبل لبنان كانوا قد سبقوا المصريين في التعرف على فنون الطباعة نتيجة بعثاتهم الدينية المبكرة إلى روما والفاتيكان، إلا أنها تخصصت في طباعة الكتب والنشرات الدينية، ولم تعرف مطابع بيروت الطريق إلى الصحافة إلا عندما أصدر خليل خوري صحيفته حديقة الأخبار عام 1858م.
انطلقت النهضة العربية في مسارين متوازيين، الأول تمثل في بناء مؤسسات الدولة بمفهومها الحديث وتجلى ذلك في إنشاء الدواويين أو الوزارات بمفهومها الحديث وإنشاء المدارس العسكرية والترسانات البحرية والقناطر الخيرية، إضافة إلى العديد من الإجراءات التي ساهمت في النهوض بالزراعة والاقتصاد عامة. أما الاتجاه الثاني فتمثل في جهود الوصل بين العقل العربي الذي غادر التاريخ، ومنجزات الحضارة الإنسانية من خلال موجات الابتعاث العلمي والترجمة وانشاء المدارس مثل المهندسخانة ومدرسة الطب والصيدلة ومدارس تعليم أصول المحاسبة والفنون والصنايع والزراعة والبيطرة.
وعلى الرغم من محاصرة مشروعه الطموح من قبل القوى العظمى من خلال تكبيله ببنود معاهدة لندن 1840م، إلا أن مشروع محمد علي النهضوي نجح في انتاج جيل من التنويريين العرب استكملوا رحلة التحديث في عهده ثم في عهود خلفائه، فما أن توسط عقد ثلاثينات القرن التاسع عشر حتى نشر رفاعة الطهطاوي كتابه (تخليص الإبريز فى تلخيص باريز) في القاهرة 1834، وتبعه فرنسيس فتح الله المراش بنشر (غابة الحق) في حلب الشهباء 1865 دفاعا عن العقل والاستنارة وتجسيدا لقيم الحرية والعدل والتقدم.
لم يتوقف دور تلميذ حسن العطار النجيب، رفاعة الطهطاوي، عند هذا الحد وإنما امتد لإنشاء مدرسة الألسن التي اضطلعت بواجبات الترجمة عن الثقافات الأورربية، وأنشأت أقسام متخصصة للترجمة في مجالات الطبيعة والرياضيات والانسانيات.
لم يحل تخلي السلطة عن جهود التحديث في عهد عباس حلمي الأول وثم الخديوي سعيد دون استكمال مساعي رواد النهضة، وما أن أتى عهد الخديوي اسماعيل ،الذي أراد استكمال مشروع بناء الدولة الحديثة، حتى أسندت إلى علي مبارك مهام إعادة تنظيم القاهرة على نمط حديث بشق الشوارع وإنشاء الميادين وإقامة المباني والعمائر الجديدة وإمداد القاهرة بالمياه وإضاءتها بالغاز، وكان إنجازه الأهم إنشاء دار الكتب القومية ودار العلوم وإصدار مجلة روضة المدارس لإحياء الأدب والتراث العربي في لغة سهلة وبيان سليم.
لم تكن النهضة مصرية فقط، فعلى اتساع رقعة العالم العربي جرت محاولات مماثلة، ففي تونس قدم خير الدين التونسي كتابه المعروف “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” الذي صدر سنة 1867 وضمّنه الكثير من أفكاره الاصلاحية، إلى درجة أنّه اعتُبر بمنزلة برنامج إصلاحي للنهوض بالعالم العربي الإسلامي كلّه وتهيئته لدخول الحداثة دون التخلي عن مقوّماته الذاتية وهويته وعقيدته. في هذا الكتاب ذهب خير الدين إلى أنّه لا ضير على البلدان العربية والإسلامية من الاقتباس عن الغرب ودخول عالم الحداثة مع التمسك بمقوّمات الدين الاسلامي الحنيف الذي تأسّس على العقيدة والعقل معا.
كما عمل أحمد فارس الشدياق (1804-1887) وناصيف اليازجي (1800-1871) والمعلم بطرس البستاني على تقريب مفردات اللغات الأجنبية إلى أوساط العامة بتقديم قواميس ومعاجم لغوية استوعبت العديد من المفردات الحديثة، وقيامهم بترجمة الكتاب المقدس للمرة الأولى من لغته الأصلية إلى اللغة العربية في عام 1864، وإنجاز الطبعة الأولي له عام 1865، ما أسهم في تعزيز ربط المسيحيين العرب بمجتمعاتهم والنأي بهم عن مسببات الاغتراب الطبيعية.
وارتبطت الحركة الثقافية المزدهرة في لبنان بنشأة الصحافة، فظهرت جريدة المقتطف ليعقوب صروف وفارس نمر 1876، واهتمت المجلة بنشر النظريات العلمية الحديثة في الغرب لتعريف المجتمع العربي والإسلامي بها، وطرح الأسئلة حول ما ينبغي أن نأخذه من الغرب وما الذي ندع.
ومع مطلع سبعينيات القرن التاسع عشر قدم جمال الدين الأفعاني إلى القاهرة فكان كحجر ألقي في مياة الفكر السياسي الإسلامي الراكدة، وفي مقهى متاتيا الشهير بميدان العتبة تأسس على يديه تيار فكري مستنير بدأ يخوض معركة الدعوة لإصلاح نظام الحكم من الداخل بعدما أغرق الخديوي اسماعيل مصر في الديون وجعل منها فريسة سهلة للدول الغربية الدائنة.
جمع مقهي متاتيا يعقوب صنوع وعبدالله النديم ومحمد عبده مع الشاب توفيق الذي سيتولى الحكم بعد الاطاحة بالخديوي اسماعيل الذي نجح في تحديث الدولة بإنشاء البرلمان وحفر قناة السويس وغيرها من المشروعات الكبرى لكن اعتماده على الاستدانة في تنفيذ مشروعاته أوقعه بين مخالب المطامع الاستعمارية.
يعقوب صنوع الإمام محمد عبده عبدالله النديم
تأسس تحت عباءة الأفعاني تياران إصلاحيان، الأول خاض معركة إصلاح النظام السياسي من الداخل وتمثل في يعقوب صنوع الذي أصدر صحفا ساخرة من نظام حكم اسماعيل ثم ابنه توفيق تحت مسمى (أبو نظارة زرقا) وأبدع فيها شخصية المصري افندي، بالإضافة إلى الضابط أحمد عرابي والكاتب عبدالله النديم الذي تحول إلى أسطورة شعبية لدوره أثناء معارك الثورة العرابية، وامتد هذا التيار في ظهور تيار الحركة الوطنية مع مصطفى كامل وعبدالعزيز جاويش ومحمد فريد وحتى جيل سعد زغلول ومصطفى النحاس، الذي خاض معركة التحرر الوطني من الاستعمار الإنجليزي من 1919 وحتى 1952.
أما التيار الآخر فقد أخذ على عاتقه جهود الانتقال بالعقل الإسلامي من الركود والجمود، قبل أن تبسط دعاوي السلفية الوهابية رداءها عليه، فهذا ما يستحق تفصيلا في مقال آخر.