هو أمين ثورة 1919 وأحد قادتها العظام، وقائد جهازها السري وأول سكرتير عام لحزب الوفد. دون التاريخ سيرته بين الرجال الذين صنعوا أقدارهم، وإن لم يميزه عن أولئك الذين قدّمهم القدر وهيأ لهم الحوادث ودفع بهم دفعا لعظائم الأمور لتخلد أسماؤهم، فكان ممن كُتب عليهم أن يتجرعوا مرارة النصر، وأن يسبروا أغوار النسيان.
بعد ما يقرب من عام ونصف العام على انطلاق شرارة ثورة 19 ألقى الإنجليز القبض عليه عندما رجحوا أنه رأس التنظيم الذي امتدت أذرعه على طول البلاد، تعبث بمنشآتهم وتقتص من جنودهم وترهب عملاءهم، ليحاكموه عسكريا، ويصدروا بحقه وعدد من معاونيه حكما بالإعدام.
تاريخ عبد الرحمن فهمي النضالي ضد استبداد الاحتلال دعم شكوك إدارته، رغم فشل رجالها في العثور على دليل واحد يثبت قيادته للتنظيم السري لثورة.
ملف القائد الثوري أتخم بحوادث التمرد منذ كان ضابطا بالجيش المصري مشاركا في الحملة المصرية لاستعادة السودان، ليترقى بفضل تميزه ياورا لوزير الحربية مصطفى باشا فهمي، ليحال إلى الاستيداع.
عمل فهمي بعد ذلك وكيلا لمديرية القليوبية (1902)، ثم مديرا لمديرية بني سويف (1906)، ومنها إلى مديرية الجيزة (1911)، لكنه لم يتعلم من الدرس الإنجليزي الخنوع والتسليم بتسلط بريطانيا على البلاد، فاستمر على نهجه الوطني، لتتدخل إدارة الاحتلال ثانية وتبعده إلى مديرية الأوقاف، ويصطدم مجددا بالسلطة، وإن كانت هذه المرة سلطة الخديوي، الذي أراد أن يعبث بأرض تابعة للمديرية، فتصدى له فهمي، ليجازى على أمانته بالإحالة إلى المعاش (1913) ويدفع الثمن مجددا غير منقوص جزاء لما ألزم به نفسه من قيم أثقلت مسيرته المهنية، فأخرته وقدمت غيره ممن تخففوا من كل قيمة.
بعد انقضاء الحرب العالمية الأولى عام 1918 وإسقاط الأحكام العرفية عن كاهل البلاد، تشكل الوفد المصري من سعد زغلول وعلي شعراوي وعبد العزيز فهمي بغرض عرض قضية استقلال مصر على مؤتمر الصلح في فرنسا، واختير عبد الرحمن فهمي سكرتيرا عاما للوفد بإجماع الآراء.
علي شعراوي عبد العزيز فهمي سعد زغلول
اختيار الوفد لعبد الرحمن فهمي في هذا المنصب منح ثورة 19 قائدا لم تحظ هَبة أو ثورة مصرية بنظير له، فقد تمتع بخبرة عسكرية عريضة عبر خدمته في الجيش والبوليس، كما خبر أحوال القطر وأهله من خلال تنقله بين مديرياته، إضافة إلى مواهبه التي فجرتها الثورة في وجه المحتلين.
أقام القائد الثوري تنظيما على امتداد القطر المصري بمراكزه ومدنه وقراه الكبرى، وقسم عمل أفراده إلى مستويين: مستوى علني يدعو فيه الأعضاءُ الناسَ إلى دعم الثورة والالتفاف حول الوفد ومطالبه في الاستقلال التام بجانب جمع التبرعات، ومستوى سري يشتغل أعضاء التنظيم فيه بجمع كل المعلومات الممكنة عن معسكرات الاحتلال وعملائه والمتعاملين معه من المصريين، كما قسم التنظيم إلى مجموعات لا يعرف أعضاء المجموعة الواحدة زملاءهم من المجموعات الأخرى، ونفذ التنظيم الكثير من العمليات ضد قوات الاحتلال ومنشآته بجانب عدد من عمليات الاغتيال، كان الهدف منها إرهاب الخارجين على الإجماع الوطني والمتعاونين مع أعداء الوطن، واستعمل فهمي الحبر السري في مراسلاته مع سعد زغلول، ليحيط كافة نشاطاته بغلاف من السرية، لم يستطع الاحتلال أن يفضه.
براعة فهمي لم تقتصر على العمل السري، بل سجل التاريخ له مواقف تدلل على تمتعه بها في الحقل السياسي أيضا، كإيهامه قيادات الوفد بأن البرقية التي أرسلها سعد زغلول من فرنسا عن فشل جهود الوفد بمؤتمر الصلح؛ مزورة، وأرسل يعاتب سعدا بأن مثل هذه الأخبار ترجح كفة الإحباط، ففوضه سعد بأن ينشر ما يراه صالحا، وأن يحجب ما بدا له في غير الصالح الوطني، وكان هو من أشار على سعد زغلول بأهمية ضم أعضاء من الحزب الوطني إلى الوفد، مرشحا حافظ عفيفي ومصطفى النحاس، كما ساعدت علاقاته الجيدة بكافة القيادات الوطنية في الحفاظ على الاصطفاف حول القضية الأم: الاستقلال، وإليه ترجع فكرة مقاطعة لجنة ملنر، ليضرب حولها حصارا، فيمنع أيا من المصريين من التواصل مع أي من أعضائها، ويضطر قائد الجيوش البريطانية الجنرال ماكسويل إلى أن يذهب إليه في بيته، ويسأله عما يريد، فيجيبه القائد، أمامك خياران: إما أن تفاوض 14 مليون مصري (تعداد مصر وقتها) أو تخاطب الوفد المصري في باريس.
صرامة فهمي ألهبت أعصاب الإنجليز، ليفقدوا السيطرة عليها كليةً بعد فشلهم في العثور على دليل واحد يدين قائد التنظيم السري للثورة، فألقوا القبض عليه وستة من أتباعه (يوليو 1920)، وقدموهم إلى المحاكمة العسكرية، لتحكم عليهم بالإعدام، ويخفف الحكم على فهمي إلى 15 عاما بعدها، ولمدد متفاوتة على الباقين.
لم تحجز قضبان السجن نشاط القائد الثوري، فاستمرت اتصالاته برجال تنظيمه حتى ضج مأمور السجن، وكتب لرؤسائه يخبرهم بعدم قدرته على ضبط الأوضاع داخل السجن طالما أن عبد الرحمن فهمي داخله، فيصدر قرار بنقله إلى سجن الحضرة، وهناك بدأت رحلة المرارات حيث أُهمل قيادات الحركة الوطنية شأنه ونسوا أمره، وأطالت خلافاتهم مدة سجنه هو وعدد من القيادات الوفدية، حتى أفرج عنه جراء العفو الشامل الذي أصدره سعد زغلول بعد توليه الوزارة (1924).
خرج فهمي من سجنه ناقما على سعد، إذ اعتبره المسؤول الأول عن الصدع الحادث في صفوف الحركة الوطنية. وزادت نقمته بعد أن أنكر رفاق الأمس سابقته، فصرف عمله إلى وجهة أخرى، وإن حافظ على انتمائه الحزبي.
أسس فهمي تجمعات وفدية داخل النقابات العمالية، واستطاع في فترة وجيزة أن يجمع 120 نقابة فرعية، ضمت 150 ألف عامل تحت مظلة واحدة، هي الاتحاد العام لعمال وادي النيل (1924)، ليبايعه العمال زعيما لهم.وفي العام ذاته سافر القائد السري لثورة 19 إلى السودان، وساهم في ثورتها، بما له من صلات جدلها في فترة خدمته بالجيش هناك.
نشاط عبد الرحمن فهمي المكثف دفع الاحتلال إلى التربص به، فانتهزت سلطة الاحتلال الانجليزي حادث مقتل السير لي ستاك، لتحاكمه بتهمة الاشتراك في اغتيال القائد الإنجليزي، ويخوض فهمي تجربة السجن ثانية.
مرارة السجن طغت عليها مرارة تجاهل رفاق الكفاح له في محنته، فخرج من سجنه إلى منزله، معتزلا الحياة السياسية، وإن قبل عرضا من فاطمة اليوسف، لإدارة مؤسستها روزاليوسف، فأطل على ساحة العمل السياسي من شرفة الصحافة، حتى فوجئ الجميع بنزوله إلى الساحة عام 1935، عبر بيان أصدره يدين فيه سياسات الوفد، معتبرا أنها المسؤولة عن شق الصف الوطني، بتقديمها قضية الدستور على القضية الأم: الاستقلال، وينضم إلى الزعيمين أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي، بعد انفصالهما عن الوفد، في تأسيسيهما لحزب الهيئة السعدية، فيخوض عبره الانتخابات، ويدخل الوفد معركة طاحنة ضده عبر مرشحه محمد عبد الصمد أفندي، ويتلقى فهمي هزيمة فادحة بحصوله على 264 صوتا فقط، فيقرر اعتزال العمل السياسي في بيان حمله ما أثقل الروح من مرارة لم يجهد قلمه في إخفائها، فكتب “وإذا كنت قد أديت الخدمة لوطني في نهضته الكبرى عن طريق اللسان والعمل إلى حد قرب عنقي من حبل المشنقة ومن السجن الطويل والمعاناة الشاقة، فإني أضع اليوم إلى جانب هاتين القوتين، قلمي في الميدان لتكون الخدمة للوطن الخالد باليد والقلب واللسان متجاهلًا خصومة أي إنسان، راضيًا بالعمل حيث يدعو الصالح الوطني العام”.
غاب فهمي بعدها عن ساحة العمل السياسي إلى أن رحل عن دنيانا سنة 1946، تاركا مذكراته يسرد فيها حكايته وحكاية ثورة كانت الأكثر حظا في تاريخنا بأن يقود مراحلها الأولى قائد في حجم عبد الرحمن فهمي.. هو بشهادة أعلام أمثال فتحي رضوان ومصطفى أمين ولويس كانتوري أستاذ العلوم السياسية الأمريكي؛ صاحب النصيب الأكبر في إشعالها، ليُسخر كل خبراته ومواهبه في إبقاء جذوتها متوهجة، وإن لم يكن محظوظا بها كما كانت هي محظوظة به، فكان من أبنائها الذين أكلتهم، ولم تعوضه حتى مثلما تمنى عندما اختلف مع سعد زغلول، فرفض الأخير ترشيحه في الانتخابات البرلمانية على قوائم الحزب، وطالبه بأن يحتكم للأمة في تقدير ما قدمه للوطن من تضحيات، فأجابه فهمي: بل سأحتكم للتاريخ، لكن التاريخ كما لم ينصفه حيا نسيه ميتا.
انفوجرافيك: عبد الله إسماعيل