“الرومي، الفرنجي، المتربص، المستعمر، وأخيرا الكوني”.. تلك هي الصور النمطية للغرب الأوروبي تاريخيا في المخيال المسلم، كما رصدها دكتور محمد حافظ دياب فى كتابه “ذاكرة الإسلام والغرب” الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة.
دراسة الصور النمطية المتبادلة بين الغرب والعالم الإسلامي حظيت على مدار التاريخ باهتمام الباحثين في مجال العلوم الإنسانية، سعيا للتعرف على آليات تشكل تلك الصور وأثرها على طبيعة العلاقة بين العالمين الغربي والإسلامي. وفي دراسته الأخيرة تتبع الدكتور دياب تطور صورة الأوروبي في المخيال المسلم، كما جسدها العديد من أعمال الأدباء العرب، حيث يشير في هذا الصدد إلى أن المدونة الإسلامية تحتوى على صورة للغرب، يظهر فيها الغرب النقيض، والمكمل ،والجار، والعدو، والصديق، والمكروه، والمحسود. وقد تدرجت صورة الأوروبي من “الرومي”، التي عبر عنها الشاعر أبو فراس الحمداني في قصائده المعروفة باسم “الروميات”، والتي يفخر فيها بنفسه ووطنه، ويصف الروم بأنهم ضخام الأجسام، ولحاهم طويلة ويشبههم بالحمير والتيوس ذات اللحى.
ثم انتقلنا لصورة “الفرنجي، التي انتشرت بفعل الحروب الصليبية، حيث ترسخت في أذهان أهل المشرق العربي صورة للأوربيين ممن أطلقوا عليهم “الفرنجة” تميزت بالغرابة والبشاعة والخسة ووصفتهم كتب التاريخ الإسلامي بالبربرية وقلة النظافة والتعصب وفظاظة عاداتهم وجهل أطبائهم.
أما صورة “المتربص” فهي تنطلق من فرضية أن الأوروبي إنما يتحين الفرصة لكي ينقض على الكيان الإسلامي المتمثل منذ القرن السادس عشر في الإمبراطورية العثمانية، لاسيما مع اتساع نطاقها الجغرافي، والنظر إليها كتهديد كبير لأوروبا.
ومنذ حملة نابليون بونابرت على مصر فى عام 1799، ومن بعدها إحتلال الجزائر عام 1830، وتونس عام 1881، والاحتلال البريطاني لمصر عام 1882، أصبح يطلق على الأوروبي لقب “المستعمر”، والذى غير الشعب العربي فيما بعد توصيفه من مستعمر إلى “الخواجة”.
ومع دخول عصر العولمة، أصبحت صورة الأوروبي هى “الكوني”، وهنا يشير دكتور محمد حافظ دياب، إلى بروز ثلاث رؤى في التعامل مع العولمة التى يجسدها الغرب: تمثلت الرؤية الأولى في التقبل التام، ولعل نموذج تركيا ورغبتها في الانضمام إلى الاتحاد الاوروبي هو أصدق مثال على ذلك. أما الرؤية الثانية فهي رؤية تفاعلية، تنطلق من أن العولمة أمر واقع وعلى مختلف الشعوب التعامل معه وهو حال الكثير من الدول العربية.
أما الرؤية الثالثة، فهى رؤية رافضة تماما لكل ما يأتى من الغرب، ويمثلها الخطاب الإسلامى المتشدد، الذى ينطلق في نظرته للغرب من خلال خمسة أنماط: الأول يرى الغرب على أنه العدو الأوحد، وهي نظرة تحط من كل ما يحمله الغرب من فلسفات وقيم ومعايير، والنمط الثاني يحمل رؤية إختزالية تقوم على قولبة الفكر الغربى وتبسيطه، أما الثالث وهو الكارثي، حسب دياب، فيرى أن الغرب يسير نحو الهاوية عبر أزماته وحروبه، أما الرؤية الرابعة فهى رؤية نوستالجية تنطلق من أن الإسلام هو الذى حمل الحضارة إلى الغرب، والرؤية الخامسة تبريرية تنطوى على أن كل شيىء موجود في القرآن والسنة. ومن ثم يتم استحضار هذه الأنماط على هيئة تعبيرات وتصورات سالبة عن الغرب، يضاف إليها أفكار نمطية راسخة في أذهان العامة، من تفكك الأسرة والإنحلال الاخلاقي وإنفلات النساء والتعامل بالربا والفردية، والإلحاد وحب الماديات.
ويستعرض محمد حافظ دياب في كتابه العديد من الأعمال الأدبية العربية التى أهتمت برصد صورة الغرب لدى المبدعين العرب. بدءا برواية “رحلة الشيخ علم الدين” لعلى مبارك عام 1882، و”حديث عيسى بن هشام”، لمحمد المويلحى عام 1889، ومرورا برواية طه حسين “أديب” عام 1935، و”عصفور من الشرق” لتوفيق الحكيم عام 1938، و”قنديل أم هاشم” ليحيى حقى عام 1944، و”الحى اللاتنيى” لسهيل أدريس عام 1954، و”موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح، عام 1965. وغيرها الكثير من الأعمال الأدبية العربية التى تناولت الشخصية الأوربية.
ومن خلال بعض النماذج الأدبية، حاول دياب استقراء صورة الغرب في تلك الأعمال، وهي صورة تترواح ما بين الصدمة إزاء الغرب والتباين في تقليده والخلاف في قبوله إلى تكوين موقف إرضائي يقلل من وطأته وإلى الانبهار به، وصولا إلى رؤيته بندية وفقا لرؤية نقدية.
ففي رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” يشير دياب إلى أن الطيب صالح عبر في روايته عن الشعور بالتواصل الإنساني، بين عالمي الإسلام والغرب، على لسان الراوى حين عاد إلى قريته بالسودان بعد غياب دام سبع سنوات، مجيبا عن أسئلة أبناء قريته حول أوروبا، والذين “دهشوا حين قلت لهم إن الأوروبيين إذا استثنينا فوارق ضئيلة مثلنا تماما، يتزوجون ويربون أولادهم حسب التقاليد والأصول ولهم أخلاق حسنة وهم عموما قوم طيبون” ويستطرد الراوى قائلا: “وسألنى محجوب: هل بينهم مزارعون؟ فقلت لهم نعم بينهم مزارعون وبينهم كل شيء، منهم العامل والطبيب والمزارع، مثلنا تماما، وأثرت ألا أقول بقية ما خطر على بالى، مثلنا تماما، يولدون ويموتون، وفي الرحلة من المهد إلى اللحد يحلمون أحلاما بعضها يصدق وبعضها يخيب، يخافون من المجهول وينشدون الحب، ويبحثون عن الطمأنينة في الزوج والولد، فيهم أقوياء وبينهم مستضعفون بعضهم أعطته الحياة أكثر مما يستحق، وبعضهم حرمته الحياة”.
الطيب صالح ورواية موسم الهجرة إلى الشمال
أما الروائى الموريتانى موسى ولد ابنو، فيصور الأخر الغربى على أنه النصرانى المستعلى المنتصر، الذى آلت إليه مقادير مدينة الرياح والمستقبل كله، بينما يوثق المواطنون ويقادون إلى الثكنات “فالنصرانى يركب عبدا لقاء أوراق تبغ في طريق القافلة”.
ويبلغ الإنبهار بالغرب حد قصيا مع “سامى” بطل رواية “المتميز” للأديب الأردني الراحل محمد عيد، الذى بلغ به توقه إلى الحرية حد الهروب إلى أحضان الغرب وترك وطنه بل ومطالبته بفصم عرى الإرتباط به، نظرا لما ساده من دمار وجنون.
ويرصد دياب الرواية الجزائرية، ويصف صورة الغرب بها على أنها تتراوح ما بين صورة الأمس الثابتة كمستعمر مدان، وصورة اليوم المتحولة، والتى وإن أختلفت معالمها وسماتها من عمل لآخر فإنها تكاد تتفق على أن هذا الآخر ليس شرا كله، وأن إيجابياته أكثر من سلبياته ومن ثم ينبغى الإقتداء به.
إجمالا يشير محمد حافظ دياب إلى أن المدونة الإسلامية إزاء الغرب قد حكمها بناء القوة بين الإسلام والغرب، وتراوح الموقف من الغرب ما بين القبول التام، والرفض المطلق، وذلك عبر الموقف من وجهتى نظر إحداهما تتمسك بالموروث الثقافى، والأخرى تعجب بالتقدم الآتى من الغرب.
ويطرح محمد حافظ دياب رؤية لتسوية الصراع وحالات الإحتقان بين الإسلام والغرب بإعتماد ما أطلق عليه مفهوم إعادة تأهيل الذاكرة الجمعية للشعوب. والتأكيد على ما طالب به هابرماس عبر نظريته حول “الفعل التواصلى” من ضرورة ترك الباب مفتوحا أمام ما أطلق عليه زيادة التواصل والنقاش الموضوعى والسجال الحر والمشاركة بين الأفراد والجماعات. إضافة إلى ما قدمه الفيلسوف الفرنسى روجيه جارودى، عبر مشروعه “حوار الحضارات” والذى دعا فيه إلى تأسيس أرضية للتفاهم بين الشعوب، منطلقا من نقد مركزية الغرب، إلى رؤية أكثر رحابة وإنسانية.