خلال يومين خسرنا رمزين هامين من رموز السينما العربية: رمزين بديلين، لنقل، عن السينما التي أصبحت تجثم على قلوبنا وتؤرق كل حس ونبض جمالي وشغف سينمائي حيواني وأصيل ما زال يعيش في وجداننا. رمزين بديلين تناغما، كلا منهما بجنون خاص به مع من تبقى اليوم من محبي السينما الأشاوس في عالمنا العربي الحزين الذي أصبح أشبه بالصحراء القاحلة التي تصول وتجول فيها جحافل ممن هب ودب من كارهي الحياة وكارهي الجمال وكارهي الحب وكارهي حتى وجودهم ووجود من حولهم.
جوسلين صعب وأسامة فوزي كانا مختلفين في كل شيء: في الرؤية الفنية، في النظرة السياسية، في الاستلهام الفلسفي للعالم الذي عايشاه، في شكل وطبيعة من تعاملا معه لاخراج منتوجهما الابداعي الى الحياة… في كل شيء تقريبا. هذين المبدعين تمايزا أيضا وبشكل جذري في الفترة التاريخية التي شهدت النشأة الفنية لكل منهما: جوسلين عملت ابتداء من ستينات وسبعينات القرن الماضي، حيث الثورة والأحلام الكبيرة الغير مساومة والتي ترفض أي رقيب أو وصي عليها بغض النظر عن الحلة “السياسية” التي يرتديها… ووجدت جوسلين في هذه الأجواء المشحونة بشبق الأحلام ملاذا طبيعيا متفاعلا بل وظهيرا لابداعها البصري والفكري عبر السينما.
وبقيت هذه النشأة ترافق صعب حتى مع عبورها إلى مراحل الثمانينات ووصولا إلى الألفية الثالثة. وبالنتيجة فإن سينما جوسلين صعب كانت تنحو باتجاه الشخصنة البصرية الغير مساومة لمظاهر الكبت والاضطهاد الاجتماعي وللغته ولشكله ولامتداداته الفكرية والسياسية. وبالتأكيد، فقد كان هذا المنحى هاجسا لجوسلين صعب مفاده طمع هذه الفنانة في أن لا يكون رد فعل المشاهد لأفلامها مهادنا أو محايدا تجاه ما يراه.
جوسلين صعب
أما أسامة فقد رسم لوحات ابداعه على امتداد حقبتي تسعينات القرن الماضي و سنين الحقبة الأولى للألفية الحالية، حيث تكاملت عملية غسل دماغنا وروحنا معه: فعلى امتداد هاتين الحقبتين أريد لهذا المخ، أو ما تبقى من هذه الكتلة القابعة في رؤوسنا والتي تكتنز عشرات المليارات من الخلايا العصبية التي تجمع المعلومات وتحللها وتسيطر على جسمنا وتديره وتستطيع أن تتحول الى منبع لانتاج المعلومات والرؤى والفكر الجديد والحر، أريد لها أن تصبح “عورة” أخرى تضاف الى باقي “العورات” التي خلقنا بها والتي تستدعي بل تستوجب الكبت والقمع والاخفاء والتعطيل… أو ربما أريد تحويل هذا المخ الى سلعة أخرى تباع وتشترى في سوق النخاسة الممتد من “المحيط الى الخليج” والذي يستفرد بالتمتع بخيراته شيوخ الذهب والبترول والغاز والأوصياء عليهم في دول الاستعمار الجديد. خلال هاتين الحقبتين تحولت هذه الكتلة “الأعجوبة” من آلة تدير جسدنا، الى اناء لاستيعاب وتكريس الخوف وجلد الذات وكراهية الآخر والقمع الذاتي للاحلام وللكوابيس على حد سواء …
ضمن هذا الجو، الذي تنبأ به ورسم العبقري يوسف شاهين أولى تجلياته في فيلمه “اسكندرية كمان وكمان”، كان على أسامة فوزي أن يسبح عكس التيار، ليس لانه اختار ذلك، بل لأن سباحته “المستفزة” هذه كانت بحد ذاتها خيارا وجوديا له كانسان وكمبدع له رؤيته الفنية الخاصة للعالم وللمجتمع. هو بكل بساطة أراد أن يحمل “حبه للسينما” على متن رؤيته الخاصة لوجوديتها “الما بعد سلعية” البريئة والممتعة…تلك السينما التي عايشها الكثيرون منا في طفولتنا، قبل أن تضع أوزار “الصح والغلط” الاجتماعية والدينية والسياسية والفكرية الوهابية أثقال أوزارها الايديولوجية علينا. هذا بالطبع لا يناسب كهنوت “ثقافة الترفيه” الجديدة التي تقيس كل شيء بمعيار الربح والخسارة.
هذين الفنانين الجميلين روحا وتمردا وتحيزا للحياة تمايزا أيضا في البيئة الاجتماعية التي ترعرعا فيها والتي ساهمت في تكوين حبهما للسينما. فبيروت والقاهرة، في الظهير الأول هما رمزين متكاملين و”مثاليين”، في المعنى الأفلاطوني للتعبير، لحالة الانفصام الثقافي والفكري والتاريخي والديني والسياسي التي تعيشها المجتمعات المدينية في عصر الرأسمالية الأخير ضمن ما اصطلح على توصيفه “بالعالم الثالث” أو “النامي”. لكن في الظهير الثاني، فان المدينتين تختلفان جذريا في كيفية تفاعلهما مع حالة الانفصام التي تلازمهما. ففي حين “تحب” بيروت أن ترى نفسها “مستوعبا” لتناقضات افصامها، فانها واقعيا ودائما وبالنهاية تميل الى الانفجار ضد وعلى نفسها وعلى رصيدها من الجنون المكبوت.
من فيلم دنيا إخراج جوسلين صعب
أرادت جوسلين صعب أن تجد مكانا لها من غير أن تسمح لهذه المدينة بأن تستوعبها ضمن جحيمها الدامي والقاسي دوما. هي واجهت بيروت هذه عبر اصرار أفلامها على الفرز المستمر والقاسي بين الهوية الساذجة لهذه المدينة وللبلد كله والمستوحاة من خيال عن “سويسرا شرقية”، وبين واقع تاريخها وحاضرها الأسير ضمن شرق منكوب بأطماع الاستعمار وطبقة بورجوازية عاهرة تعودت بيع نفسها لمن يدفع أكثر، على ايقاع المثل الشعبي: “اللي بيتجوز امي، بيصير عمي”. وفي موتها اليوم نرى السينما اللبنانية تعاني أكثر من أي وقت مضى من ظاهرة “التغريب” الفكري والثقافي والسياسي، الى الدرجة التي أضحت تصنع نفسها ليس ضمن بيئة واقعها كما هو، بل في رحم ما تقتضيه أذواق ورِؤية “كان” و”فينسيا” والأوسكار.
أما القاهرة فروحها تكمن في أن “جنونها” الانفصامي اعتاد أن يسترخي مرتاحا ضمن بيئة مكنها ارثها التاريخي الذي لا بداية له من أن تستوعب وتتفاعل بروية أسطورية مع تناقضاتها. هي اعتادت أن تستوعب جنونها وأن تتعامل معه على مراحل وبنفس طويل وبصبر أيوب. هي مرت عبر الكثير وأبقت عليه وحفظته في قلبها ولم تتنكر له أو عليه كما تفعل بيروت. حتى لدى اختلاط الرؤية لديها وتخيلها بانها قد خطت الى “مرحلة جديدة” في تاريخها، فالقاهرة تبقى تسير وتعيش وتمارس طقوسها الحياتية والوجودية على حجارة بنيانها التي يصعب الفصل فيها بين “الفرعوني” والهليني والقبطي والفاطمي ووو. وقد يعني هذا أيضا أن المدينة التي قد تبدو مثل عملاق لا يقهر، هي أيضا عملاق يكبت الكثير… وهكذا كبت كثيرا ما ينفجر ضمن الشرايين الصغيرة للمكون البشري لهذه المدينة العصية على الموت.
من فيلم بحب السيما إخراج أسامة فوزي
منذ أكثر من حقبتين، هناك في هذه المدينة محاولات حثيثة لتطويع ومن ثم احتكار ما تعنيه السينما ضمن مكان وجغرافيا شهدت البدايات التكوينية للسينما. وكثير من هذا التطويع يجد جذوره واستمراريته في غزو رأس المال الخليجي الذي أصبح على مشارف فرض شكل أحادي من السينما، وهو “السينما كنشاط ترفيه”. وهذا ضمن محاولة خبيثة أصبحت واضحة المعالم والأدوات لترسيخ مفهوم “الترفيه” كنظيرللسخافة وانعدام الثقافة والسطحية، وبالتالي تصوير الابداع والفن والعلم والأدب كأنشطة “معادية للترفيه” أوهامشية وغير ضرورية أو مرغوب بها.
هذا الغزو الفكري والعملي الاحتكاري الطابع يضع اليوم ضغطا ثقيلا وغير مسبوق على شرايين الابداع للثقافة السينمائية القاهرية والمصرية بشكل عام. فأسامة فوزي كما الكثيرين اليوم وكما مدينتهم حاولوا ويحاولون استيعاب هذا الواقع الجديد بهدوء وصبر، ولكنهم أيضا رفضوا ويرفضون أن يفقدوا هويتهم ووجودهم كمبدعين ذو رؤِية خاصة ومميزة. هؤلاء مثلوا ويمثلون شرايين هامة في جغرافيا هذا الجسد الثقافي السينمائي العملاق الذي اضحى يعاني من كبت غير صحي نتيجة لهذا الغزو المتسارع عليه اليوم. شريان مكبوت من شرايين هذا الجسد انفجر اليوم والضحية كانت أسامة فوزي.
رحم الله جوسلين صعب وأسامة فوزي، فعلى الرغم من كل الفروقات بينهما، وربما بسبب تلك الفروقات، فقد أغنيانا كل على طريقته برصيد سينمائي هام ساعدنا وسيساعدنا كثيراعلى تقدير متعة وجمال التنوع في السينما. واليوم، في موتهما، يدق كل منهما ناقوس الخطر التحذيري ضد وقوع السينما العربية في فخ رأس المال الاحتكاري البغيض الذي ينفخ ترابه بقوة من الخليج والذي لا يخفي من طياته رؤِيته الأحادية لدور وشكل و مضمون السينما في هذا الجزء من العالم.
من فيلم بالألوان الطبيعية إخراج أسامة فوزي