مع بداية عملي بجريدة “الشروق” قبل 10 سنوات، كنت معنيا بمعرفة رأي وانطباعات الأستاذ سلامة أحمد سلامة رئيس مجلس تحرير الجريدة حينها، على ما أنشره من أخبار وتقارير وتغطيات لملف جماعة الإخوان، والصراع الدائر في صفوفها على وقع الانتخابات الداخلية التي اطاحت بنائب المرشد محمد حبيب وعدد من قادة الجماعة أبرزهم عبد المنعم أبو الفتوح.
وضعتني الصدفة في طريق الأستاذ سلامة للمرة الأولى فعرفته بنفسي، فرد علي: «عارفك ومتابع شغلك.. وعارف أن الجماعة –يقصد مكتب ارشاد الإخوان- زعلانين من اللي أنت بتنشره..ومادام المصدر زعلان يبقى الصحفي شاطر».. تعاملت مع كلماته العابرة باعتبارها درسا، ووضعتها نصب عيني وأنا أتحسس طريقي في بلاط «صاحبة الجلالة».
دروس في الصحافة
التقيت الأستاذ سلامة بعدها مرات قليلة، فظروف مرضه الأخير كانت تحول دون مداومته على العمل بالجريدة بشكل يومي، وفي كل مرة كنت اتنظر بشغف تعليقه على ما أنشر، أو بالأحرى انتظر الدرس التالي.
في إحدى احتفالات «الشروق» التي أسسها مع صديقه الناشر إبراهيم المعلم وعدد من زملائه وتلاميذه ألقى سلامة أحمد سلامة بصوته الرخيم العميق كلمة على محرري الجريدة، طالبهم فيها بالاهتمام بالتفاصيل والبحث عن القصص المعمقة، فالجريدة المطبوعة لن تستطيع منافسة المواقع الالكترونية والفضائيات في نقل الأخبار، “يجب أن يكون لديكم ما يقنع القارئ بشراء جريدتكم في اليوم التالي لمعرفته بالخبر، اجتهدوا في الوصول إلى ما لا تصل له كاميرا التلفزيون، وعمّقوا قصصكم لتعطوا القارئ خدمة مختلفة عن المواقع الإخبارية”.
مارس سلامة في هذا الاجتماع فضيلة النقد الذاتي وعلق على عدد من القصص والتقارير التي تم نشرها في الجريدة، وسخر منها بعمق وجدية في آن واحد، وهو ما شجع الحضور على ممارسة نفس الفضيلة، ودفعهم إلى البحث عما يجعلنا مختلفين، وظني أننا اجتهدنا حينها في تنفيذ تعليماته.
وبعيدا عن الدروس الصحفية المباشرة، فإن عموده اليومي الذي كان يكتبه بصحيفة الأهرام تحت عنوان «من قريب»، قبل أن ينتقل إلى «الشروق» مطلع عام 2009، كان مساحة للتعلم والمعرفة، خاصة عندما يتناول قضايا الصحافة وهمومها وأزماتها وتشريعاتها، فضلا عن اشتباكه اليومي مع معظم الأحداث الجارية. وكان السؤال «كيف تسمح الأهرام بنشر مقالات تنتقد السلطة ومؤسساتها المختلفة، ويهاجم فيها طريقة تعامل النظام مع الإعلام، ويطالب بتوسيع الهامش ورفع الوصاية التي وصلت إلى حد التوجيه بـ«الريموت كونترول» على حد تعبيره.
الإجابة أن سلامة، كان يحظى بثقل صنعه بتاريخه المهني واستقلاله يجبر صاحب القرار في «الأهرام» على تمرير النقد حتى لو كان لاذعا في بعض الأحيان، فقد ظل حتى وفاته محل إجماع الصحفيين والجمهور ودوائر السلطة والمعارضة، وافق قلمه قناعاته التي لم يقايض عليها حتى رحل.
عاش سلامة «1932-2012» حياته يدافع عن الحقيقة وحق القارئ واستقلال مهنته «على مر سنوات ظلت مشاكل الصحافة تحتل جانبا رئيسيا من اهتماماتي فيما أكتبه وأنشره وأفكر فيه.. وأعتقد أن مهمة البحث عن الحقيقة هي الشغل الشاغل لكل من الكاتب والقارئ والنظام السياسي الذي نعيش في كنفه».
الصحافة رئة المجتمع
كان يؤمن بأن الصحافة هي رئة المجتمع التي تنقيه من الشوائب، بحسب ما وصفها في كتابه «الصحافة فوق صفيح ساخن» الصادر عام 2009 عن دار العين، «تمثل الصحافة الحرة في المجتمعات الحديثة ما تمثله الرئة في جسم الإنسان، لتنقية دمائه وتجديد خلاياه والإبقاء على حيويته، فهي تستقبل أطنانا من الهواء قد لا يحتوي إلا على نسبة ضئيلة من الأوكسجين، إلى جانب كمية هائلة من العوادم والشوائب، التي تطردها مع كل زفير إن أمكن، وقد يبقى بعضها في الرئتين رغم ذلك بحسب درجة النقاء والشفافية أو الفساد والتلوث في البيئة المحيطة» يقول سلامة.
ويرى الكاتب الراحل أن الصحافة تقوم بهذه العملية المركبة بهدف «ضخ الأفكار الجديدة والمعلومات الصحيحة والآراء السديدة في شرايين المجتمع والتخلص من العناصر الفاسدة والرواسب العالقة التي تلوث الدماء كلما اتسع مجرى الشرايين وتحررت قنواتها من الانسدادات الناجمة عن ضيق الأفق، أو الترهل في الحركة أو التسلط في الرأي».
وفي تشخيصه لأزمة الصحافة في مصر، كان الاستاذ سلامة يرى أن الحاصل في الصحافة المصرية هو أن “فساد البيئة المحيطة واضطراب حركة المجتمع، مع تعدد مصادر الفساد وإغراءاته الاقتصادية والسياسية وتسلط فكر سياسي لم يخرج بعد من عباءة الحزب الواحد، لم يترك للصحافة فرصة استشراف آفاق أرحب من تلك التي تفرض بغلظة على المجتمع، مما أدى إلى ظهور أنواع من الصحافة العشوائية اختلط فيها الحابل بالنابل ووضعت الجميع في بوتقة واحدة”.
الصحافة والسلطة
وكان سلامة يرى أن نظرة السلطة إلى الإعلام ظلت محكومة بنفس الأفكار والكوابح التي نبتت وتأسست في ظل الأوضاع الاستثنائية لنظام ثورة يوليو، فأسبغت على الحكم سلطات تستعصي على المساءلة والنقد، وعجزت عن مواكبة التقدم الذي شهده العالم في مجال حرية الإعلام والصحافة».
وعن إشكالية العلاقة بين الصحافة والسلطة كتب سلامة معلقا على القضايا التي لاحقت عدد من الصحفيين خلال السنوات الأخيرة من عمر نظام مبارك: «أسوأ ما تتعرض له الصحافة أن تضع السلطة نفسها في مواجهة صحفي أو صحيفة بعينها، وأن يكون التعتيم والاستبعاد هو الأساس، تقابله على جانب آخر محاولات مستميتة للحصول على الأخبار بطرق قد تكون ملتوية أو مستفزة أحيانا.
وطالب سلامة بتطبيع العلاقات بين النظام والصحافة بمختلف اتجاهاتها وميولها، وليس بمنطق الفرز، أو هذا معي وهذا ضدي، كحل لهذه الإشكالية.. «لو أُخذت الصحافة مأخذ الجد فإنها تصبح وسيلة للتثقيف والتنوير والتغيير، وهي تؤخذ بالفعل مأخذ الجد في الديمقراطيات العتيدة، التي تحافظ وتدافع عن حرية الإعلام وتعدد الآراء وتنمية القدرة التعبيرية لدى الشعوب والأفراد، لأنها بذلك تضمن استمرار التغيير والدفع بدماء جديدة إلى الأمام».
وبروح المدافع عن استقلال الصحافة ورفع القيود التي تفرض على حرية الرأي والتعبير خاض سلامة أحمد سلامة ، سواء من خلال عموده اليومي أو من خلال عضويته بمجلس نقابة الصحفيين مطلع التسعينيات من القرن الماضي، معركة ضد القوانين التي تشرّع الحبس في قضايا النشر، واعتبرها تناقض روح الحرية وتعوق انطلاق الفكر، «هذه القوانين بقدر ما تضيق الخناق على الكاتب وتحرمه من حقه في الحصول على المعلومات، بقدر ما تترك القارئ أو المتلقي نهبا لكثير من التجاوزات التي تعري حياته الشخصية وتتدخل في خصوصياته دون حسيب وتحرمه من حقوقه المدنية».
رفض سلامة محاولات الأنظمة السياسية المتعاقبة لإخضاع الصحافة والسيطرة على الصحف، وكتب ساخرا “انتقلت القيود من مرحلة الرقيب والتدخل المباشر إلى مرحلة الريموت كونترول، بتوجيه رؤساء التحرير أو إخضاعهم”.
للحرية ثمن
تعود أصول سلامة أحمد سلامة إلى محافظة الشرقية لكنه ولد في القاهرة وتعلم في مدراسها، وفي عام 1948 شارك في مظاهرة لفك الحصار عن طلبة كلية الطب التي شهد محيطها مقتل حكمدار العاصمة اللواء سليم زكي إثر ألقاء قنبلة من داخل الكلية على قوة كان يتقدمها الباشا. وقد ألقي القبض على سلامة وهو لا يزال في التوجيهية (الثانوية العامة) مع عدد من زملائه، وخضع للتحقيق لمدة 4 أيام، علمته تلك التجربة أن لـ«الحرية ثمن وللمواقف أثمان».
نحتت مرحلة ما قبل ثورة يوليو شخصية سلامة، تفاعل خلالها مع قضايا الاستقلال والحرية، وكان حريصا خلال تلك المرحلة على المشاركة في مسابقات الشعر والأدب، وكان شديد التأثر بأدب وفكر الدكتور طه حسين.
طه حسين
التحق سلامة بقسم الفلسفة في كلية الآداب، وتخرج فيها عام 1953، وكان اختياره لقسم الفلسفة نابعا من شغفه الشديد بالتعرف على قضايا الفكر الإنساني من روافده الأساسية، وقد عبر عن ذلك بقوله إن “الفلسفة تجمع بين الأدب والعلم وعلم تفسير الحياة، وتعطي أبعادًا وعمقا لها”، وحصل سلامة أيضا على ماجستير الصحافة والإعلام من جامعة “مينيسوتا” الأميريكية عام 1967.
في بلاط «صاحبة الجلالة»
بدأ سلامة حياته المهنية في صحيفة «أخبار اليوم» بعد عام من تخرجه، وكانت الجريدة تضم آنذاك كوكبة من كبار الصحفيين أمثال محمد حسنين هيكل ومصطفى أمين وعلي أمين وكامل الشناوي، حيث التحق بقسم الشؤون الخارجية، ثم عمل مراسلا لها في ألمانيا، وكان أول من فتح الطريق للمراسلين في الخارج وعمق مفهوم المراسل.
وانتقل بعد ذلك للعمل بجوار الأستاذ هيكل في جريدة «الأهرام»، حيث كان الأخير مقتنعا بموهبته ومهنيته، وكانت “أهرام هيكل” تضم كبار الكتاب أمثال نجيب محفوظ وزكي نجيب محمود وتوفيق الحكيم، وقد ترك هؤلاء جميعا أثرا عميقا في شخصية سلامة، ثم عاد إلى ألمانيا مرة أخرى عام 1969 ليعمل مراسلا صحفيا لـ«الأهرام» من هناك.
محمد حسنين هيكل
عاد سلامة للعمل في قسم التحقيقات الخارجية بـ«الأهرام» وتولى رئاسته، ثم انتقل إلى «الديسك المركزي» ومنه إلى منصب مدير التحرير لسنوات طويلة، وفي عام 1999 أسس مع الناشر إبراهيم المعلم مجلة «وجهات نظر» التي اختار لها كاتبها الرئيسي الأستاذ هيكل شعار «مجلة مختلفة لقارئ مختلف» وترأس سلامة تحريرها حتى عام 2008، ونجحت المجلة في صنع مكانة مميزة بين المثقفين والأكاديميين وصناع القرار في العالم العربي، بتحليلاتها المعمقة وترجماتها الحصرية لمقالات ودراسات في مجلات ودوريات أجنبية شهيرة.
شارك سلامة للمرة الثانية صديقه الناشر إبراهيم المعلم في تأسيس تجربة «الشروق» وتولى رئاسة مجلس تحريرها مع مجموعة من زملائه وتلاميذه ونقل إليها عموده «من قريب».
تنبأ بسقوط نظام مبارك وإقامة نظام جديد، بعد المخالفات التي شابت انتخابات مجلس الشورى منتصف عام 2010، وكتب في يوليو من ذات العام تحت عنوان «سنة الفراغ السياسي»: «لابد أن نعترف بأننا نشهد في هذه السنة بالفعل ملامح مختلفة عن سنوات سابقة، تتميز بأنها قد تكون مقدمات لتغيير ما يصعب تحديده»، مشيرا إلى أن الحزب الوطني سيتلاعب بانتخابات مجلس الشعب على غرار ما جرى في انتخابات «الشورى» وهو ما سيؤدي إلى انهيار ما تبقى من ثقة في الدولة ومؤسساتها المختلفة وسينتهي الحال إلى خلق واقع سياسي جديد، «سوف تكون الشهور المقبلة لحظة الامتحان الفاصلة!!».
حسني مبارك
المستغني عن الإلحاح
وصف الأستاذ هيكل أسلوب سلامة في الكتابة بـ«المستغني عن الإلحاح»، ويرى أن مقالاته «لمحات تعرض نفسها علي الناس، وتقوم بمهمتها في التنوير علي طريقة الفنار في اتساع البحر وعمقه، صرح يقوم شامخاً في قلب جزيرة من الصخر، وهو يدور علي ما حوله بومضات من ضوء نافذ إلي بعيد يهدي السائرين في الظلمات».
وفي رسالة نشرها سلامة في مقدمة كتابه «الصحافة فوق صفيح ساخن» يقول هيكل عن مقالات سلامة: اكتب يا صديقي، وانشر وتكلم، ودع الأمواج تتكسر علي الصخر، ودع ومضات النور تلمع علي سطح البحر في كل اتجاه، وتنير كل بقعة تصل إليها، وأما الأمواج فليس في مقدورها غير أن تغسل الصخور كل مساء، وترتد عنها كل صباح».
صدر له عدد من الكتب المهمة، التي ناقش فيها تطورات الأوضاع في المنطقة العربية وقضايا الصحافة مثل «المناطق الرمادية» و«الشرق الأوسط الجديد»، و«الصحافة فوق صفيح ساخن».
وحصد سلامة جوائز عديدة على أعماله أهمها جائزة الإبداع الإعلامي، التي حصل عليها من مؤسسة الفكر العربي، وجائزة مصطفى وعلي أمين، وهي أول جائزة حصل عليها في حياته وكان دائما ما يذكر أنها أهم جائزة حصل عليها وأقربها إلى قلبه.
في 9 يوليو 2012 وقبل وفاته بيومين نشر مقاله الأخير في «الشروق» تحت عنوان «الطريق إلى الفوضى»، انتقد فيه انتشار الجماعات التي تنشط باسم الدفاع عن الإسلام أو الدعوة إلى مبادئ الدين الصحيح، «تبدأ هذه الحركات التي غالبا ما تنقلب إلى أهداف سياسية، بدعوات متشددة لتطبيق تعاليم الدين وفرض سلوكيات بعينها على المرأة. ويتطور الأمر بعد ذلك إلى تدمير الأضرحة والمواقع المقدسة بحجة تخليص العقيدة مما يلحق بها من أوشاب وانحرافات».