ارتبط تاريخ الكنيسة القبطية الارثوذكسية منذ منتصف القرن التاسع عشر بمحاولات عديدة لضرب استقرارها، وذلك من خلال البعثات التبشيرية التي اتخذت الدين كمرتكز رئيس لمساع الدول الغربية لاختراق مصر بعد سقوط الدولة العثمانية. ومن خلال ذلك وعبرتطورات وأحداث تاريخية سقطت مصر في الاحتلال البريطاني الذي سمح بموجات أشد ضراوة لبعثات التبشير البريطانية والأمريكية التي كانت تتحرك بأهداف سياسية تتجاوز الدين، إلى محاولة اختراق تقاليد الكنيسة القبطية الراسخة والسيطرة عليها من الداخل، وضم أبنائها الى كنائس أخرى.وربما زاد من وطأة تلك المخاطر أنها صادفت الكنيسة والوطن، وهما في لحظة طرح تأويلاتهم المبدئية بشأن سؤال النهضة واللحاق برؤى التحديث، وكان التعليم في نظر الكنيسة وبطريركها في ذلك الحين -كيرلس الرابع -بمثابة الخلاص واللحظة التي تسمح للكنيسة بالنهوض بدورها الوطني والروحي .
اهتم البابا كيرلس الرابع بالتعليم واعتنى بإنشاء المدارس واهتم بتعليم الفتيات وأنشأ أول مدرسة للبنات في مصر، كما اهتم بجلب مطبعة للبطريركية واقام لها حفلا كبيرا. وبذلك عرفت الكنيسة القبطية في التعليم حركة موازية لحركة الاصلاح التعليمي التي قامت بها الدولة المصرية منذ عهد محمد على.
البابا كيرلس الرابع
الإرساليات التبشيرية الأجنبية ومحاولات تغيير المذهب
كان التعليم الأجنبي في مصر قد انتشر على يد الإرساليات التبشيرية حيث عملت الإرساليات الأمريكية على انشاء المدارس الدينية في أنحاء مصر والتي تركزت في أسيوط بصعيد مصر والقاهرة والإسكندرية، فكان افتتاح أول مدرسة في أسيوط عام 1865، وبحلول عام 1887 بلغ عدد المدارس التابعة لهذه الإرساليات نحو 168 مدرسة يدرس بها نما يزيد عن أحد عشر الف تلميذ.
وبموازاة ذلك تسارع تحول أعداد متزايدة من الأقباط الارثوذكس إلى المذهب الإنجيلي، حيث قفز عدد من تحولوا الى المذهب الانجيلي من 600 عام 1875، إلى 4554 عام 1895، ثم إلى نحو 29 ألف في عام 1904. ( ابو سيف يوسف، الأقباط والقومية العربية، ص 115).
وفي مواجهة الدور المتنامي لمدراس الارساليات الأجنبية وفي شهر يوليو 1893 قدم الاستاذ حنا باخوم، وكان مدير المدارس القبطية مشروع المدرسة الاكليريكية إلى البابا كيرلس الخامس وتمت الموافقة عليه من ناحية المبدأ، وفي الشهر التالي -يوليو 1893 -تمت الموافقة على الخطوات التنفيذية لتأسيس المدرسة وتخصيص منزل بالفجالة لها وتحديد اجور أساتذة المدرسة مع ميزانية كاملة بلغت اربعة وثمانين جنيها شهريا، وانخرط في الدراسة بها أربعون طالبا كان من بينهم الطالب حبيب جرجس.
حبيب جرجس
الكنيسة القبطية وخطر الهوية
لم يكن تزايد نفوذ الارساليات التبشرية الأجنبية ومدارسها هو التحدى الوحيد الذي واجهته الكنيسة القبطية مع نهاية القرن التاسع عشر، فقد ظهرت تحديات اخرى تمثلت في بروز تيارين متباينين داخل الجماعة القبطية :الأول اتجاه الكنيسة الذي كان يتزعمه البابا كيرلس الخامس، وآخر يهدف نحو تحجيم نفوذ البابا والاكليروس لصالح المجلس الملي الذي سمح بمشاركة عدد من وجهاء القبط في إدارة أمور الكنيسة غير الدينية. وقد أدى ذلك إلى دخول البطريرك في مواجهات ومنازعات مع أعضاء المجلس الملي أسفرت في نهاية الأمر عن نفي البطريرك إلى دير البراموس بوادي النطرون، ونفي مساعده ووكيله الانبا يوأنس إلى دير الانبا بولا بالصحراء الشرقية.
وكان أول مجلس ملي قد تشكل في منتصف يناير 1874، وانتخب بطرس غالي وكيلا له، ونصت لائحته على أن تكون رئاسته للبابا البطريرك. وبدا المجلس في أداء مهامه في فبراير من ذات العام، بعد أن اقر الخديوي إسماعيل تشكيله، وأصدر قراره بذلك. وقد خلق انشاء المجلس الملي إلى جانب الكنيسة القبطية أجواء مؤاتية للصراع بين رجال الدين -الاكليروس -والعلمانيين، و فتح الباب لانقسام الأقباط بدروهم الى فريقين: أحدهما يقف إلى جانب رجال الدين، وآخرين إلى جانب المجلس الملي ورجاله، ومن ثم أضحت الدولة طرفا أصيلا في المنازعات التي ستطرأ بين الكنيسة والمجلس الملي. كل ذلك القى بظلاله على دور وموقع الكنيسة في معادلة القوى السياسية والدينية المصرية وهي تسعى تخوض معركة الاستقلال.
وأمام هذه التحديات ولتعزيز سلطة الكنيسة قرر البابا والمجمع المقدس تدريس الدين المسيحي وتاريخ الاقباط ،والعمل على ضرورة ذهاب التلاميذ إلى الكنيسة ،وأن تكون الدروس الدينية مؤسسة على المبادئ الارثوذكسية، وأن تراجع من قبل لجنة مراقبة التربية الدينية المشكلة في البطريركية بأمر البابا. وحتى يكمل البطريرك إجراءات مواجهة بعثات التبشير ونشاطها الملحوظ في جنوب مصر، قرر القيام برحلة رعوية استهدفت مدن وقرى الصعيد. ولما اصبح سعد زغلول ناظرا للمعارف سنة 1907 قرر ادخال تعليم الدين المسيحي في المرحلة الابتدائية.
لكن أزمة المدرسة الاكليريكية كانت في عدم وجود مدرس للدين، اذ ظلت اربع سنوات تكتفي ببعض الكتب التي توزع على الطلبة ليقرأوا فيها حتى تم تعيين القمص فليوثأوس إبراهيم معلما للاهوت،غير أن تقدمه في السن وظروف مرضه حالت بينه وبين الاستمرار في مهمته، ومن هنا بدأ تلميذه حبيب جرجس في تدريس الدين لبعض طلبة المدرسة، وشرع في وضع خطة لتطوير المدرسة والمناهج تكفل لها ان تقدم آباء الكنيسة الارثوذكسية.
حبيب جرجس.. ميلاد مدارس الأحد
في آواخر عام 1918 وبينما الحرب العالمية الاولى توشك على الانتهاء، لتخرج انجلترا وحلفاؤها براية النصر، وتبعث الأمل عند المصريين في الاستقلال وانهاء الاحتلال البريطاني ورفع الاحكام العرفية والغاء الرقابة على الصحف، انطلقت أحداث ثورة 19 لتشق في تاريخ البلاد مجرى جديدا نحو حلم الاستقلال.
وفي خضم ذلك كان ثمة خط متماسك التقطه حبيب جرجس كتلميذ في المدرسة الاكليريكية وكمدرس للدين فيما بعد، تجسد في مشروع مدارس الأحد الذي أعده وخطط له على خلفية ما تعوزه الكنيسة من الاهتمام بتعليم الاطفال روحيا، وربطهم بالانتظام للحضور داخل الكنيسة، والانتظام في ذلك ؛ فقدمت تعليما لأطفال المدارس الحكومية يوم الجمعة، والمدارس الاخرى يوم الاحد ،والتزم الارشيدياكون -رئيس الشمامسة -حبيب جرجس بوضع كتب خاصة بمناهج التدريس.
وخلال أربعة أعوام فقط تم الانتهاء من تكوين اللجنة العامة لمدارس الأحد وكان مقرها المدرسة الاكليريكية بمهمشة( بالقاهرة)، وتم اعداد لائحة لعملها حددت فيها أغراض مدرسة الأحد وهي: المواظبة على حضور الكنائس لسماع القداس يوم الأحد، وتعليمهم حقائق الإنجيل، والفضائل والأخلاق السامية، وبث روح القومية وتعويدهم على خدمة وطنهم، وذلك من خلال القاء دروس بواسطة معلمين من طلبة المدارس الاكليريكية، وتنظيم رحلات رياضية، وتدريبهم على الاشتراك في العطاء.
وقد استطاعت مدارس الأحد تأسيس عدد من الفروع لها داخل القاهرة وما حولها فتأسس فرع بكنيسة مارمرقس بالجيزة، وآخر في جزيرة بدران، وشبرا، ثم ما لبثت أن أسست فروعاً لها خارج القاهرة بالإسكندرية وأسيوط.
وفي 28 فبراير 1922 صدر التصريح الشهير معلناً نهاية الحماية البريطانية على مصر، لكنه ابقى لبريطانيا نفوذها على الكثير من الملفات وكان على رأسها السيطرة على إيقاع الإرساليات التبشيرية، وبخاصة الأمريكية، لضمان ألا يتعارض مع توجهاتها وأهدافها، ولتبقى لها اليد العليا في سبل اختراق الجماعة الوطنية. في العام 1927 توفي الزعيم سعد زغلول والبابا كيرلس الخامس، لينفتح الوطن والكنيسة معا على مشهد وواقع جديدين.
البابا كيرلس الخامس