منوعات

في ذكرى ميلاده: جمال عبد الناصر.. الزعيم الذي طال غيابه

اليوم وفي ذكرى مرور مائة عام وعامين على ميلاده، تعود الذاكرة الوطنية إلى واحدة من أهم صفحات تاريخنا الوطني، صفحة عنوانها «جمال عبد الناصر» الذي حين رحل عن دنيانا (28 سبتمبر 1970) كتب شاعر المقاومة الفلسطينية الكبير محمود درويش قصيدته الشهيرة «الرجل ذو الظل الأخضر»، يخاطب الراحل فيقول:

نرى صدرك الآن متراس ثائر.. ولافتة للشوارع

نراك طويلاً.. كسنبلة في الصعيد

جميلاً.. كمصنع صهر الحديد

وحراً.. كنافذة في قطار بعيد

ولست نبياً.. ولكن ظلك أخضر

كان جمال عبد الناصر في حياته ملهماً للجماهير، وما يزال رغم رحيله الطويل حاضراً في ذاكرتها، وكلما مضت السنون أمعنت سيرته في الحضور، يستذكره ناسه في كل وقت، وعند كل ضيق، وتثير الملمات أشواقهم إلى البكباشى الشاب ذي الـ 34 عاماً الذي استطاع أن يدشن قواعد العدل الاجتماعي في مواجهة داخلية مع قلة استحوذت على النسبة الأعظم من ثروات البلاد، وتركت الفتات يقتات منها بقية المصريين، واستطاع في مواجهاته الخارجية أن يحافظ على استقلال القرار المصري ضد قوى عظمى أرادت أن تستتبع مصر وتدخلها في حظيرة الطاعة.

تمكن عبد الناصر من بعث رسالة واضحة عن مضمون «الانقلاب العسكري» الذي قام به الضباط الأحرار في غضون ٤٨ يوماً فقط من وقوعه، عندما أطلق يوم ٩ سبتمبر عام ١٩٥٢ مشروع الإصلاح الزراعي، وبدأت علاقته المميزة بناس البلد من يومها، ثم تعاظمت في أعقاب محاولة اغتياله التي دبرها التنظيم السري لجماعة «الإخوان» قبيل نهاية العام 1954، ونال من وقتها تأييداً شعبياً جارفاً، وحين ترشح ليكون أول رئيس مصري منتخب حاز أغلبية كاسحة، فشكل وزارة برئاسته، وأنشأ ثلاث وزارات جديدة، هي وزارة التخطيط، ووزارة الصناعة، ووزارة الإصلاح الزراعي، وبدا أنه قرر أن يخوض معركة التنمية في الداخل.

وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد امتنعت عن إمداد مصر بالسلاح اللازم للدفاع عن أراضيها، خاصة بعد تكرار الاعتداءات «الإسرائيلية» على الحدود المصرية، فكان رد عبد الناصر بالاتجاه للاتحاد السوفييتي للحصول على السلاح فيما عُرف بصفقة الأسلحة «التشيكوسلوفاكية»، ثم كان أن قررت أمريكا سحب عرض البنك الدولي لتمويل بناء السد العالي، فكان رد جمال عبد الناصر هو تأميم قناة السويس في 26 يوليو سنة 1956.

وقرر الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية معاقبة مصر على قرار التأميم، وانقسم العالم إلى قسمين: الأول يؤيد حق مصر فيما قامت به، وعلى رأسه الاتحاد السوفييتي، وتضمن الهند ودول أوروبا الشرقية، وكثير من دول أفريقيا وآسيا، وقسم آخر يعارض هذا القرار بشدة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، ويشمل دول حلف الأطلنطي والدول التي تدور في فلك الغرب، وكانت النتيجة النهائية لهذا الصراع، هي قيام حرب السويس، في 29 أكتوبر سنة 1956، حيث واجهت مصر عدوان ثلاث دول هي بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، واستمرت أعمال القتال حتى بعد صدور قرار وقف إطلاق النار من الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 2 نوفمبر، ولكنه توقف صباح يوم 8 نوفمبر، وتحت الضغط الدولي وفي ظل اشتداد المقاومة المسلحة على الأرض لقوات العدوان انسحبت قوات الدول الثلاث من منطقة قناة السويس في 22 ديسمبر سنة 1956، وبقيت القوات الإسرائيلية تحتل أجزاء من سيناء حتى أجبرت على الانسحاب نهائياً منها يوم 7 مارس سنة 1957.

منذ بدأت شخصية جمال عبد الناصر تبرز على الخريطة الدولية والعربية، أولاً في مؤتمر باندونج في العام 1955 ثم من بعد في إدارته لحرب السويس في مواجهة قوى الاستعمار العالمي، صار عبد الناصر بطلاً للقومية العربية، وارتفعت شعبيته في المحيط العربي إلى حد لم يعطه العرب لغيره من قبل، وأصبحت القاهرة مركزاً لحركات التحرر العربية والإفريقية والآسيوية، وفي نهاية عام 1957 عقد بالقاهرة مؤتمر الشعوب الإفريقية والأسيوية، وقد كان هذا امتداداً لمؤتمر باندونج، وحضر المؤتمر ممثلون عن حكومات الدول المستقلة، وممثلون عن الشعوب التي كانت تكافح في سبيل الاستقلال.

وفي ظل هذه الظروف الدولية والإقليمية بدأت ظروف سوريا وقادتها يضغطون من أجل الوحدة مع مصر، وجاء اليوم الأول من فبراير سنة 1958 ليعلن في القاهرة عن قيام الوحدة بين مصر وسوريا تحت اسم «الجمهورية العربية المتحدة» لتكون نواةً للوحدة العربية، وفي يوم 21 فبراير سنة 1958 تم الاستفتاء الشعبي في البلدين على الوحدة وعلى رئيس الجمهورية، وجاءت نتيجة الاستفتاء بما يشبه الإجماع على قيام الوحدة وعلى انتخاب جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية الوليدة.

حقق عبد الناصر في النصف الأول من الستينيات أهم وأكبر وأنجح خطة تنمية في تاريخ مصر بنيت خلالها آلاف المدارس والمصانع، وأقام قاعدة تصنيعية كبيرة، وصادر الأراضي من الاقطاعيين، ووزعها على الفقراء فأصبحوا أحراراً بعد معاناة طويلة من العبودية، وحرر العمال المصريين من ربقة سيطرة الرأسماليين، وأشركهم في الأرباح وفي الادارة لأول مرة، وبنى السد العالي، وفي سنة 1967 وبعد الهزيمة أعلن باسم الأمة رفض الهزيمة وتحمل مسؤوليتها بشجاعة واستقال على أثرها من منصبه.

انتفضت الجماهير العربية بعد إعلانه الاستقالة وامتلأت شوارع مصر والبلدان العربية بلا استثناء وفي الكثير من مدن العالم خرجت الجاليات العربية في مظاهرات عارمة، والكل يطالبه: بالعدول عن الاستقالة، واستجاب عبد الناصر لرغبة الجماهير التي هي بالنسبة إليه أمر لا يرد، وحين أطلق موشى ديان (وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك) تصريحه الشهير بأنه ينتظر مكالمة هاتفية من عبد الناصر، يعلن استسلام مصر، كان رد عبد الناصر: (لا تفاوض، لا صلح، لا اعتراف بإسرائيل)، وانطلقت المقاومة الفلسطينية للرد على الهزيمة، ودخلت مصر أطول وأشرس حرب واجهت فيها اسرائيل حرب الثلاث سنوات التي كبدت فيها إسرائيل الكثير من الخسائر، وكانت بمثابة “البروفة الجنرال” لحرب أكتوبر سنة  1973.

لم يكن غيابه في سبتمبر سنة 1970 هو نهاية المطاف لرجل أعطى لوطنه وأمته روحه حتى آخر لحظة في حياته، بل ظل حضوره طوال هذه الفترة يفوق الغياب خلال كل المناسبات الكبيرة والحوادث المهمة التي مرت بها مصر طوال هذه السنين.

في سنة 1971 حين اشتد الصراع عند قمة السلطة كان حاضراً بقوة في ذروة الصراع في مايو من نفس العام، وفي سنة 1975 وحين انتفض عمال حلوان في مواجهة المساس بمصالحهم وحقوقهم كانت صوره ترتفع فوق أكتافهم، وكانت هتافاتهم ترتفع لعنان السماء: «عبد الناصر يا ما قال، خلوا بالكم من العمال»، وفي انتفاضة يناير سنة 1977 كانت الهتافات التي ملأت ميادين مصر وشوارعها من أقصاها إلى أدناها: «عبد الناصر اصحا وشوف، سرقة وعلني ع المكشوف»، وكانت تردد وكأنها تشتكي إليه في غيابه فجيعتها، وما وصلت إليه أحوالها: «عبد الناصر بص وطل، من بعدك شفنا الذل».

حتى عندما تمكن الفنان الراحل أحمد زكي من التغلب على كل العقبات التي وقفت حائلاً دون إنتاج فيلمه الأشهر «ناصر 56» شهدت دور السينما في مصر وعدة أقطار عربية ما يشبه الخروج الكبير لمشاهدة الفيلم، وكأن الجماهير العربية تبعث إلى من يهمه الأمر برسالة مزدوجة: تعبر في نصفها الأول عن اشتياقها إلى الزعيم الذي طال غيابه، وتعبر في نصفها الآخر عن افتقادها للحلم الذي حلمت به مع جمال عبد الناصر.

وهكذا، وفي كل حدث كبير مرت به مصر طوال الستين عاما الماضية كان عبد الناصر يزداد حضوراً، وفي ميادين الثورة في 25 يناير 2011 كان عبد الناصر حاضرا بقوة بصوره وانحيازاته  السياسية والإجتماعية عن الكرامة الوطنية والعدالة الاجتماعية، وكان حاضراً في هتافات التحرير يوم ٣٠ يونيو 2013: «آه لو عبد الناصر عايش كان لبسكوا طرح وغوايش»، و«عبد الناصر قالها زمان الإخوان ما لهمش أمان».

على طول فترة الغياب منذ غيبه الموت في 28 سبتمبر سنة 1970 كانت الجماهير المصرية والعربية تستحضره في الملمات الكبرى، وكانت السلطة تستدعيه في اللحظات الفارقة، يحنّ المصريون إلى الاستقلال الوطني، إلى وجود القضية الوطنية المشتركة والصراع مع العدو، يحنّ المصريون إلى أيام كانت فيها «المواجهة العسكرية» بكرامة، أفضل ألف مرة من السلام المزيف والتذلل للحليف الغربي والهزيمة المعنوية في كل يوم، يحنّ المصريون إلى أيام كانوا فيها قيادة عربية شامخة والآن أصبحوا يتذللون من أجل معونة أو قرض أو فرصة عمل.

من لم يعترف بفضله في حياته جاءت الحوادث بعد مماته لتعيد تعريف الناس بفضله وقيمته، وظل يكسب أرضًا جديدة وهو في قبره كل يوم، ورغم مرور ما يقارب نصف القرن على رحيله، واليوم مع دخول السنة المائة من ميلاده مازال حضور جمال عبد الناصر طاغياً في وجدان المصريين، عصيٌ على الغياب، وأكبر من كل محاولات تغييبه، ويبقى حياً وهو في عداد الأموات، بينما يزخر المشهد السياسي بموتى وهم على قيد الحياة.

وما زال هناك الملايين التي تردد مع شاعر العرب الكبير فؤاد حداد:

يا حضن مصري يا طلعة فجر يا ريّس..

مع السلامة يا والد يا أحنّ شهيد..

آدي الرقابي ودي الأعلام بتتنكـّس..

فين طـلـّتك في الدقايق تسبق المواعيد..

والابتسامة اللي أحلى من السلام بالإيد..

محمد حماد

كاتب وباحث في التاريخ والحضارة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock