هل يمكن أن يصبح الإيمان بفكرة ما الدافع للبقاء على قيد الحياة، وما مدى الصلابة التي يكتسبها الفرد جراء إيمانه هذا، لمحاربة الديكتاتورية التي تبدو وكأنها ستبقى للأبد؟ كيف يمكن لأي منا أن يبرر لذاته الاختيار الطوعي لطريق مليء بالصعوبات، دون أن يشعر في بعض الأحيان أن حياته قد سلبت، بل إنه يقدمها كقربان لحرية منتظرة.. ربما لا تأتي؟
قليلة هي الأفلام التي تشعر –حتى وإن كنت تعلم نهايتها- أنك جزء منها أو ترغب في ذلك، وربما تحلم أنك تقوم بتغيير بعض مشاهدها، ليس لقسوتها ولكن لأنك تعلم أنها قصة حقيقة حدثت بالفعل، ربما تريد أن تحذر أحد شخصياته، وطمأنة أخر، وحتى مشاعر الغضب والقتل ستجد لها متسعا في نسختك الخاصة من ذلك الفيلم… أما إذا كنت قد مررت بتجربة السجن ولو لساعات فهذا الفيلم يتحدث عنك ويقف بجانبك.
استطاع المخرج والكاتب الأوروجواياني ” ألفارو بريشنر” تركيز أكبر كمية من المشاعر المتناقضة في ساعتين تقريبا في فيلمه a twelve-year night، الحائز على جائزة الهرم الذهبي لأفضل فيلم في ختام مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في نسخته الأخيرة ٢٠١٨، وجائزة الاتحاد الدولي للنقاد “فيبريسى” من نفس المهرجان، بالإضافة إلى جائزة ” Grand Prix” من مهرجان كان، ورشح لثلاث جوائز في مهرجان فينسيا لأحسن فيلم ومخرج وسيناريو.
الفيلم مستوحى من قصة حقيقة ، حيث يستند لمذكرات السياسي والشاعر الأوروجوياني ” ماوريسو روزنكوف” الذي تقلد أحد المناصب الثقافية الهامة في بلاده سابقا، والتي كتبها بمشاركة الصحفي والسياسي ووزير الدفاع الأورجوياني الأسبق ” اليلوتيريو فرنانديز هويدوبرو” عام ١٩٨٩، وهو إنتاج مشترك لشركات من أورجواي وإسبانيا والأرجنتين، وتدخل به أورجواي سباق الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي الشهر المقبل.
تتناول أحدث الفيلم ثلاث قصص لثلاث شخصيات من ضمن تسعة أفراد، ينتمون إلى حركة ثورية يسارية “التوباماروس” التي كانت تمارس حرب العصابات، في مواجهة الديكتاتورية العسكرية الحاكمة، ويتم القبض عليهم ويتم حبسهم انفراديا لمدة تزيد عن الاثني عشر عاماً، من بينهم راؤول سيندك أحد مؤسسي الحركة، وخوزيه موخيكا، الذي أصبح رئيسا للبلاد في ٢٠١٠، بالإضافة إلى روزنكوف وهويدوبرو، هذه الحركة أصبحت حزبا سياسيا بعد سقوط الديكتاتورية.
الفيلم بطولة، الإسباني أنطونيو دي لا تور، والأرجنتيني شينو دارين، والأورجواياني ألفونسو تروت، وطبقا لبرشنر فقد خضع الممثلون الثلاثة لجلسات مطولة مع شخصيات سجنت في تلك الفترة ،من بينها موخيكا نفسه، بالإضافة إلى جلسات مع أطباء نفسيين للوصول إلى درجة الاتقان التي خرج بها الفيلم، كما أجرى ” بريشنر “مقابلات عدة مع موخيكا وروزنكوف وهويدوبرو قبل وفاته لصقل السيناريو أكثر من مرة على مدار أعوام.
صورة مع مخرج الفيلم أثناء التصوير
يبدأ الفيلم بمشهد ٣٦٠ درجة داخل أحد السجون في أوروجواي، حيث يتم نقل عدد من السجناء الذين يتعرضون للضرب المبرح، مع خلفية صوت قادم من الراديو ليعطي شعورا ببعد المسافة بين ما يحدث في الداخل مع المعتقلين، وما يقال في الخارج بعد سيطرة الديكتاتورية العسكرية التامة على المشهد وهزيمة حركة “توباماروس” في حربها.
يبدأ التعارف بين المشاهد وأبطال الفيلم سريعا، لنجد أن النظام العسكري قرر نقل هؤلاء السجناء إلى أحد السجون النائية وهي الوسيلة التي ستتكرر طوال الفيلم، وفي الواقع على مدار ١٢ عاما، مع حرمانهم من الشمس، ومنع الحراس من التحدث إليهم أو التحدث إلى بعضهم البعض.
حركة الكاميرا طوال الفيلم تحاول، أما أن تحاكي رؤية أحد الأبطال الثلاثة، أو التركيز على وجه أحدهم وتفاصيل مرور الوقت والأحداث على الجسد، كتقرحات الأصابع على سبيل المثال، والتي ظهرت بسبب قيام المعتقلين باستخدام القرع على الحائط كوسيلة للتواصل فيما بينهم قبل أن يتم نقلهم مرة أخرى، أو كيف أثرت ظروف السجن على بنيتهم الجسدية، وفي كل هذه المشاهد كان الأسلوب المتبع في التصوير عاملا رئيسيا ناجحا في رسم الصورة الكاملة لأبطال الفيلم.
مشاهد الحصار والعزلة التي يعاني منها السجناء انفراديا، نجح المخرج وبالطبع الممثلون في إيصال احساسها الخانق للمشاهد بشكل مبهر يدفعك للتعاطف والتماهي الكامل مع السجناء الثلاثة. هذا الحصار يقابله هنا ذاكرة كل منهم، فهي الشيء الوحيد الذي لا سلطان لأحد عليه إلا لكل منهم على أرض الواقع.. فتلك الوسيلة التي يستخدمها العقل كفعل مقاوم هي ما ساعدهم على البقاء على قيد الحياة، وبشكل فني رسمت لنا الذاكرة جزءا من حياتهم الماضية العادية، فنجد أحدهم مع أبنته، والأخر يذهب للبحر مع حبيبته.
المثير في الفيلم، أنه يرسم صورة شديدة الدقة لما يمكن أن يفعله أي نظام ديكتاتوري، سواء في أمريكا اللاتينية أو أفريقيا أو قديما في أوربا. فما كان يحدث في الأورجواي، كان صورة لما حدث في إسبانيا فرانكو، وبرتغال سالازار، وهما بدورهما مثل أعلى لما حدث في الأرجنتين تحت حكم خورخي فيديلا. وما فعله الثوار الثلاثة للبقاء على قيد الحياة، هو ما يمكن أن يفعله أي فرد، دون وعي منه إذا واجه نفس الظروف.
ورغم أن البعض قد يرى أن الفيلم كان يحتمل أن يلقى نظرة أعم وأشمل على صورة المجتمع في أورجواي خلال هذه الحقبة، إلا أن تركيز الفيلم فقط على الطريقة التي عاملت بها الديكتاتورية مسجونيها، أعطى مثالا عن كيفية إدارتها للمجتمع الأورجوياني ككل، وربما أراد المؤلف الإشارة بشكل فلسفي إلى أن الدولة التي تعامل بعض مواطنيها بمثل هذه الشكل، لا يوجد لها صورة اخرى، وأن الأصل في قصتنا هنا هو الإنسان نفسه.
الدور النسائي في الفيلم غير كبير نتيجة التركيز الذي رغب فيه بريشنر، لكنه محوري ومؤثر، فعلى سبيل المثال دور والدة موخيكا، والتي قامت به الممثلة الأوروجويانية، ماريلا باسكوال، ببراعة شديدة ورغم ظهورها في ثلاثة مشاهد بالفيلم، فإنها كانت جميعها من أبرز المشاهد في الفيلم.
ومن بين المشاهد المؤثرة، والتي خلقت تعاطفا كبيرا مع تلك السيدة التي تدعم إبنها، الزيارة الأولى بينها وبين موخيكا، الذي أصبح يعاني من بعض الهلاوس جراء الحبس الإنفرادي.
“موخيكا:- عليك التوقف عن المجيء إلى
الأم : عليك الاستماع إلى، إنهم يريدون أن يقودونك إلى الجنون، لا يمكنك أن تسمح لهم، عليك المقاومة بأي طريقة تستطيع ولا تسمح لهم بقتلك
موخيكا: لا أعرف كيف
الأم : ستعرف، المهزومون فقط هم من يتوقفون عن القتال، ستتخطى ذلك وستمضي ولن يستطيع أحد أن يأخذ ما بداخلك”.
“مشهد الأم”
بريشنر استطاع توظيف المؤثرات السمعية ليعطي للمشاهد الشعور الأكمل بما يدور حول ذلك الشخص المحبوس انفراديا، فما قد تسمعه في حياتك اليومية من صوت العصافير أو أوراق الشجر كأصوات طبيعية جميلة، قد تتحول إلى كابوس إذا أصبحت هي الشيء الوحيد الذي تسمعه، ومع الوقت والصمت قد تحاول الاستماع إلى صوت النمل مثلا.
مشهد المؤثرات السمعية
“مشهد النهاية”