ما أن وطئت قدماي ممراته حتى تذكرت تلك الجنيهات العشر التي ادخرتها صغيرا في سبيل الحصول على “نظرات” المنفلوطي وعبراته، ورغم مرور السنوات لا يزال المكان محتفظا برحيقه المعتق الذي يتناثر على موائد الكتب العامرة، وصنوف المجلدات الضخمة، والأوراق الصفراء القديمة.. هنا فقط يمكنك أن تحصل على تلك المطبوعات القديمة لدور نشر اندثرت خلال سنوات الرعونة الثقافية: عيسى البابلي الحلبي، الشعب، نهضة مصر، وغيرها من مطبوعات مكتبات بغداد العريقة وبيروت العامرة.. هنا فقط يمكنك أن تشعر بذلك التلاحم المدهش والتواصل الحميم بين أجيال من القراء، حين تشتري رواية فتجدها ممهورة بإهداء مؤلفها، أو ممزوجة بمذكرات وخواطر قارىء سابق تتخلل هوامش الصفحات. يدون ملاحظاته، أو ربما سجل لحظات تماس عاطفي ووجداني ما بين مشاعره الخاصة و صفحات هذا الكتاب القديم. إنه سور الأزبكية الشهير في وسط القاهرة، حيث المعرض الدائم للكتب القديمة والجديدة، ذلك المعلم الثقافي، الذي يعد مزارا لكل محبي القراءة وأصدقاء الكتاب من قاطني القاهرة، أو أبناء محافظات الجمهورية الذين يأتون حاجين اليه كلما نزلوا العاصمة، وحتى من أبناء العالم العربي.
وإذا كان معرض القاهرة الدولي للكتاب يحتفي في دورته هذا العام بعيده الذهبي، بعد مرور خمسين عاما على انطلاقته الاولى، فإن من المفارقات أن يغيب سور الأزبكية بكتبه ومكتباته عن مشهد المعرض وقاعاته في تلك الفترة، بعد أن خصصت إدارة المعرض لهم مساحة اعتبرها باعة الأزبكية، صغيرة جدا ولا تتسع لعرض كتبهم ومكتباتهم، بينما رآها أخرون محاولة واضحة لاستبعادهم من فعاليات أنشطة المعرض، فقرروا الاحتجاج على طريقتهم بإطلاق احتفالية ومهرجانا للقراءة والكتاب على سور الأزبكية لمدة شهر كامل( من 15 يناير وحتى 15 فبراير).
في ممرات وطرقات مكتبات سور الأزبكية اختلطت في رأسي ذكريات الأمس مع وقائع اليوم.. أجواء مٌبهرة تحمل فرحة النجاح وربما زهوة الانتصار.. طرقات مزدحمة بجماهير القراء الذين ما أن التقطوا خبر الإعلان عن (مهرجان سور الأزبكية) للكتب حتى تفاعلوا معه تفاعلا أدهش حتى المنظمين أنفسهم ،والذين عولوا على الثقة في جمهور مكتباتهم الغنية قبل أن يعولوا على نجاح التنظيم.
يعلق طارق جاويش، وهو أحد أصحاب مكتبات سور الأزبكية على ذلك بقوله: “كنا نتمنى أن نحتفي باليوبيل الذهبي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب داخل المعرض، لأننا جزء أصيل من تكوينه على مدار سنوات طوال، لكن ثمة من أرادنا خارج المعرض، لكن تفاعل جمهور القراء مع دعوتنا كان تعويضا كبيرا وجبرا لخواطرنا”.
طارق جاويش
أما (حربي حسين) الشهير بعم حربي، والذي يندر أن تجد من مرتادي السور من الباحثين والمثقفين من لم يمر على محطته، ولم ينهل من مكتبته، أرجع الأمر إلى مشكلة تنظيمية، حيث أن إدارة المعرض كانت ترغب في استضافة (33) مكتبة فقط من مكتبات السور التي تزيد عددها عن ال(118) مكتبة. ويضيف “عم حربي” :” كان من الصعب أن نفاضل بيننا لنقرر من يذهب إلى المعرض ومن يبقى، فنحن جميعا هنا نمتهن مهنة سامية.. نحن حاملي المسك، وهذا مصدر دخلنا الوحيد. فكانت فكرة الدعوة لمهرجان خاص بالسور، وهي فكرة قديمة حضرت عندما تم إلغاء المعرض في عام 2011 وكانت مدته ثلاثة أيام، وحتى الأن أشعر بتعويض كبير من الجمهور والقراء.. التفاعل ينسينا الشعور بالمرارة والإهانة اللذين لحقا بنا منذ إقصائنا من مهرجان القاهرة للكتاب”.
حربي حسين
لكن “هبه كرم” ذات الخامسة والعشرين ربيعا، والتي تعلق في عنقها شارة كتب عليها( منظم) تؤكد أن اختيار موعد مهرجان سور الأزبكية بالتزامن مع معرض القاهرة للكتاب، ليس تحديا لأحد، وإنما مرتبط بأجازة نصف العام الدراسي للطلاب، حيث تأتي الأسر معا لتحتفي وتشتري الكتب.
وتضيف “اتخذنا قرار تنظيم هذا المهرجان نتيجة الضغوط التي تعرضنا لها، فالهيئة العامة للكتاب وضعتنا تحت قيادة اتحاد الناشرين، لكننا لسنا أعضاء في اتحاد الناشرين، وربما يعتبروننا منافسين لهم، هم يتعاملون معنا باعتبارنا مزورين ولصوص.. لكننا نفخر بأنفسنا وما نمارسه من عمل هنا، نحن نحافظ على الثقافة في مصر، ورثنا هذا العمل عن أبائنا وأجدادنا ونشعر بالمسؤلية والرغبة في استكمال المسيرة، ولابد أن تنتبه وزارة الثقافة للدور الذي نلعبه، نحن لا ننافس أحدا ولا نتمنى لأحد الفشل.. نتمنى لمعرض القاهرة الدولي للكتاب النجاح. لأنه في النهاية نجاح لمصر ونجاح للكتاب. ونراه نجاح لنا”.
هبه كرم
أما عن كيفية الإعداد للمهرجان، فتوضح هبة كرم أنهم اختاروا عشرة من بين (أصحاب المكتبات) واتفقوا على القيام بالأمور التنظيمية، فقاموا بحملة إعلامية مدفوعة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة الى لافتات دعاية للمهرجان الكتاب السنوي الخاص بسور الأزبكية.
ويؤكد “يوسف أنور” أحد أصحاب المكتبات ما قالته هبة كرم بقوله” كنا قديما نتحمل الكثير من النفقات في أرض المعارض في النقل، وفي استئجار مساحات لعرض الكتب، وبعض الزوار لم يكونوا يعرفون مكاننا. لكن هذا العام اختلفت المسالة، فقد قررنا تخصيص جزء من هذه المصروفات للإنفاق على الدعاية لأنفسنا، كما لم ننسى جمهورنا وزوارنا فطبعنا كتبا مجانية كهدايا، كما خصصت كل مكتبة ركنا للكتاب المجاني، وهو يناسب الأذواق المختلفة ما بين قصائد لنزار قباني، أو روايات لأجاثا كريستي، إلى جانب كتب الطعام التي تناسب اهتمامات المرأة العادية”
يوسف أنور
ويضيف يوسف: “أجمل ما في الأمر أننا نعمل تحت قيادتنا، وننظم لأنفسنا تجربة جديدة وممتعة لنا، وإذا كنا قديما حلمنا بمعرض خاص لمدة ثلاثة أيام، فقد بات لنا معرض مدته ثلاثون يوما”.
مينا جرجس أحد زوار سور ألازبكية الذي قال إنه أتى تفاعلا مع دعوة منظمي المهرجان على مواقع التواصل الاجتماعي، ويعدد الأسباب التي دفعته للحضور ما بين رخص الأسعار، وتنوع الكتب، وتوفير الطبعات النادرة والمؤلفات التي أوقفت طبعاتها منذ سنوات طويلة.
ويضيف مينا “على الرغم من غياب بعض العناوين الصادرة في 2019 إلا أنها شهور قليلة وستكون موجودة هنا على نفس الأرفف وسأشتريها من هنا لأن الأسعار هنا تناسبني، في حين أن أسعارها لدى دور النشر مبالغ فيها جدا”
أما “وائل سمير” صاحب أحد المكتبات وخبير الكتب الذي لا تستميله القراءة- فيزعم أن هنا رفضا مقننا لوجود سور الأزبكية في معرض القاهرة هذا العام ” الهيئة العامة للكتاب واتحاد الناشرين رفضوا دخول ناشري سور الأزبكية، بحجة عدم وجود أماكن كافية هذا العام، حيث خصص للسور 33 جناحا، مساحة الجناح تقريبا 9 أمتار، يعني مساحة كلية 277 مترا، في حين أنهم كانوا يشغلون ما لا يقل عن ثلاثة آلاف متر سنوبا، في الوقت الذي خصص فيه للناشر الواحد تقريبا ما بين 127 و 162″
وائل سمير
ويرى وائل سمير أن أهل السور هم خبراء الثقافة والكتاب في مصر، فلديهم أقدم وأوائل الكتب التي طبعت في العالم بكل لغاته وحتى 2019، ويقول: “لدي هنا مثلا مقدمة ابن خلدون اصدار عام 2014 وتباع في المكتبات ب125 جنيها، في حين أننا نبيعها هنا بخمسين جنيها فقط، وهي نسخ أصلية من طباعتنا نحن”.
ويشير إلى أن أغلب الاقبال حاليا من قبل القراء يكون على الروايات، والسبب في ذلك هو الاحتكاك الكبير الذي أصبح بين الروائي وجمهوره من خلال صفحات التواصل الاجتماعي كالفيسبوك وغيرها.. تستطيع أن تقول إن الروائي يقوم بالدعاية لعمله، هو الذي يرسل الينا جمهوره المتابع من خلال صفحته الشخصية والملاحظ انها الروايات موضع الاقبال، روايات خفيفة المحتوى ولغتها ضعيفة في كثير من الأحيان، لكنها مطلوبة وبالتالي نعمل على توفيرها لجمهورنا.. فمهمتنا ارضاء كل الأذواق”.
وينفي وائل سمير بشدة الاتهامات الموجهة لأصحاب مكتبات سور الازبكية بنسخ وسرقة الكتب والمؤلفات الحديثة وعدم مراعاة قواعد وحقوق الملكية الفكرية، ويقول “هذا غير حقيقي نحن نعيد طباعة المؤلفات القديمة في طباعة فخمة وجيدة وبأسعار تناسب شرائح القراء الذين يئنون من الغلاء، نحن نحمي القراء من احتكار واستغلال دور النشر، أنظر حولك.. هذا كتاب “مبادىء الفلسفة” بترجمة أحمد أمين، وهذا تاريخ الفلسفة اليونانية، وتاريخ الفلسفة الأوروربية ليوسف كرم. هذه المؤلفات تباع لدينا بطبعات جيدة ب20 جنيها، في حين أن دور النشر الكبرى تبيعها ب60 وسبعين جنيها للنسخة “.
ورغم هذه الاتهامات التي تلاحق أصحاب المكتبات هناك، وبغض النظر عن صحتها من عدمها، سيبقى “سور الأزبكية” بمكتباته المتنوعة يلعب دورا مهما ومؤثرا في الحياة الثقافة المصرية والعربية، وهو دور يفرض على الجهات الثقافية المعنية أن تولي له قدرا من الاهتمام والدعم الذي يتيح له الازدهار في ممارسة عمله، بل واستنساخ تجربة السور في ربوع مصر المختلفة.