لست من دراويش القطاع العام، لكن الانصاف يلزمني بتحيته فهو مع كل اختبار جاد يظهر أصالة معدنه ويقود بمحبة وفهم قاطرة التنمية في أي مجال يوكل إليه العمل فيه. لقد بنى القطاع العام السد العالي كما بنى حائط الصواريخ الذي وقف شامخًا ضد هجمات العدو على العمق المصري في زمن حرب الاستنزاف المجيدة. ومن حائط الصواريخ إلى الاحتفال بمئوية ثورة 1919 لعب القطاع العام أعظم الأدوار الجادة المحبة.
الجدية والمحبة يضاف إليهما الفهم العميق لمسرح الأحداث، كل تلك العوامل مترابطة قادت خطوات الهيئة العامة لقصور الثقافة ( إحدى هيئات القطاع العام ) وهى تتحمل منفردة أو تكاد تكون كذلك، أعباء تخليد ذكرى مئوية ثورة 1919.
لا شك أن الاحتفال بمئوية ثورة عظيمة خالدة كثورة 1919 تتنوع وتتعدد أشكاله، ولكن لأن ظروف الوطن هى كما نعرف، فقد رأت هيئة قصور الثقافة الذهاب في الاحتفال لأعمق نقطة ممكنة، لقد قررت نشر تسعة كتب دفعة واحدة تتناول دقائق الثورة وتفاصيلها.
الكتب التي نشرتها الهيئة هى
1- تاريخ مصر القومي من 1914 – 1919.
2- في أعقاب الثورة المصرية ج1.
3- في أعقاب الثورة المصرية ج2 ( الكتب الثلاثة كما هو معروف للمؤرخ الكبير الاستاذ عبد الرحمن الرافعي ).
4- ثورة مصر 1919 دراسات تاريخية تحليلية لعبد العزيز الرفاعي.
5- بريطانيا وثورة 19 19 المصرية – لمكي الطيب شبيكة .
نتوقف قليلًا عند الدكتور “مكي الطيب” لنسجل أنه مؤرخ من السودان الشقيق وقد أحسنت الهيئة عندما نظرت لكتابه وأعادت نشره، ذلك لأن ثورة 1919 لم تكن مقصورة على المصريين فقط، بل أمتد تأثيرها ليعم الوطن العربي من شرقه لغربه ومن شماله لجنوبه، وليس بعد المصريين من هم أولى بهذه الثورة من الأشقاء السودانيين.
يقول مؤرخو حياة شبيكة إنه سبق مجايليه في السودان في الحصول على أول شهادة دكتوراه في فلسفة التاريخ، وقيل أنه أول سوداني يحصل على درجة الدكتوراه وأول سوداني علي الإطلاق نال درجة الأستاذية. وقد ولد في العام 1905 وتوفي في العام 1980، بعد أن ترك ثروة من المؤلفات القيمة.
6- دراسات في ثورة 19- لحسين مؤنس.
7- تأملات في ثورة 19 – لمحمد عبد الفتاح أبو الفضل.
8- سعد زغلول ثورة 1919 – لعبد الخالق لاشين.
9-الكتاب التاسع والأخير هو سجين ثورة 19 19 – محمد مظهر سعيد .
أما عن الملاحظات على هذا العمل العظيم فهى:
أولًا: حسن اختيار الكتب الجديرة بإعادة النشر، وهنا يجب تحية القائمين على النشر، وعلى رأسهم الدكتور أحمد عواض رئيس مجلس الإدارة والشاعر جرجس شكري أمين عام النشر، فكل الكتب هي لمؤلفين من المهرة أصحاب البصيرة المضيئة التي قرأت الثورة على وجهها الصحيح، فالثورات ليست عملًا من الأعمال التي تؤتي ثمرها في التو الحين، إن الثورات في الحقيقة أعمال مركبة معقدة، تفعل فعلها ببطء وعلى مهل وتظهر نتائجها بعد أجيال من اندلاعها، الكتب التي نشرتها الهيئة نظرت إلى الثورة هذه النظرة المنصفة العادلة.
ثانيًا: أثمان الكتب، خرافية، ولكنها خرافة التواضع، فمن المفارقات أن كل الكتب التي أعادت الهيئة نشرها سبق لي الحصول عليها من مصادر نشر أخرى، ما عدا كتاب ” سجين الثورة ” الذي سأكتب عنه لاحقًا، وبالنظر إلى ثمن كل كتاب تظهر المفارقة، فدار نشر خاصة تطرح مؤلفات الرافعي عن الثورة بمئات الجنيهات، ولكن الهيئة طرحت كتبه الثلاثة بخمسة وأربعين جنيهًا فقط لا غير.
ثالثًا: أمانة النشر، وهذه ميزة عظيمة، وذلك لأن دور نشر خاصة تعمد إلى تجزئة الكتب واختصارها اختصارًا مخلًا تضيع معه قيمتها، ولا يعرف تلك الميزة إلا الذين اكتووا بنار الاختصارات المخلة. القطاع العام لم يسقط أبدًا تلك السقطة الشنيعة، فهو غاية في الأمانة عندما يقرر إعادة نشر أي كتاب، حيث ينشره بتمامه كما كتبه مؤلفه.
رابعًا: وفرة منافذ التوزيع، فالكتب لدى كل بائعة الجرائد وفي كل مكتبات الهيئة، لكنها مع عظيم الحسرة لا تحظى ولو بأدنى درجات الدعاية والتسويق والإعلان، وهذا عيب أصيل من عيوب القطاع العام الذي لا يعرف فن خدمة ما بعد الانتاج، فهو ينتج الطيب ولكنه يطرحه على الأرصفة غير مدرك لأهمية منتجه.
خامسًا: وما سأقوله هنا هو عيب خطير لا أعرف كيف نتصدى له، إذ تقوم الدولة مشكورة بدعم ما تصدره الهيئة، وهو الدعم الذي يمكنها من تسعير الكتب بأسعار تكاد تكون رمزية، ثم تقوم عصابات ( أعني الوصف حقًا ) بالسطو القانوني على منافذ بيع الهيئة، كأن يطلب الواحد منهم عشر نسخ من الكتاب المراد السطو عليه، يدفع رجل العصابة الثمن الرسمي ثم يذهب بمسروقاته إلى باعة الأرصفة يقدم لهم ما سطا عليه بفارق ربح بسيط، ثم يقوم بائع الرصيف بإزالة الثمن الرمزي الرسمي ووضع الثمن الذي يروق له، فيقع المتلهف على قراءة هذه النوعية من الكتب تحت أنياب بائع الرصيف، ويدفع له ما يطلبه وهو كثير جدًا قياسًا على السعر الرسمي الرمزي، وقد رأيت بعينيّ هذا الفعل الشنيع مرات ومرات، ووقعت كغيري فريسة سهلة لباعة الأرصفة. وقد تعرضت كتب ثورة 1919 لهذا السطو ولم يعد لها من وجود لدى باعة، فماذا في يد الهيئة أو الدولة من آليات تتصدى بها لتلك العصابات التي تسطو على الدعم؟.ليتنا جميعًا نتشارك في البحث عن حل يوقف هذه السرقات.