ثقافة

أحمد أبو خنيجر في «مشاهد عابرة لرجل وحيد».. لقطات سردية مشبعة بالدفء والحيرة

يعد أحمد أبو خنيجر أحد الأسماء الأدبية المهمة من جيل التسعينات من الروائيين وكتاب القصة، لكن ما يميزه عن أبناء جيله هو أنه يمتلك جهاز استقبال  قويا يمكنّه من الإمساك بتلك اللقطات الشاردة في حياتنا، وربما يرجع ذلك إلى إنه يعيش في الجنوب، في مدينة أسوان الساحرة، حيث الهدوء الرائق، بعيدًا عن القاهرة التي يقول إنه روحه لم تتصالح معها أبدا. لذلك  فهو يقدم لنا في مجموعته القصصية الجديدة عينا بصرية سردية شديدة الخصوصية واللماحية، وشديدة الذكاء أيضًا.

 في مجموعته القصصية صغيرة الجحم كبيرة التأثير والجمال، والتي جاءت تحت عنوان “مشاهد عابرة لرجل وحيد” يقدم أبو خنيجر عددا من القصص  القصيرة التي تجري أحداثها على لسانه، فهو لا يسردها على لسان شخص آخر، بل إن الوقائع تحدث تحت ناظريه، ويقوم بتسجيلها بحرفية شديدة. بين بشر تتحرك، وظلال تتشاجر، وأموات يناوشون الذاكرة، وأحلام تتكاثف وتريد الخروج، وحيوانات تتقافز في حب وإخلاص. لا يتوانى “أبو خنيجر” عن تدوين كل ما يمر أمام عينيه، وبإحساسه الرهيف المشبع بحراره الجو الخالي من عوادم المشكلات والزحام والضجيج في أسوان،ليقدم لنا تلك النماذج البشرية المحيرة، وتصرفاتها شديدة البراءة والغرابة واللئم البشري في آن، فما تكاد أن تمسك بشخصية أو محور القصة حتى تنتهي، وتتلاشي كما يتلاشي دخان السيجارة.

هذه المجموعة القصصية، التي فازت قبل أيام  بجائزة ساويرس للقصة القصيرة لعام2019، تجعلك ممتلئا وسعيدا بالسرد، وسعيدا أكثر بحركات وتصرفات هؤلاء البشر حولنا.. حياة عامرة وممتلئة بالأنفاس تكاد أن تقفز من بين سطور المجموعة، بحس صوفي ولغة مسترسلة لا يعوقها أي نشاز، وأفكار طازجة، ابنة عيون هذا الراوي العليم الذي يخبرنا برؤيته وأحاسيسه، وسط  كل هذه الأطياف العابرة التي نراها في حياتنا اليومية.

في الجزء الأول “مشاهد عابرة” يقدم الكاتب تسع عشرة لقطة أو صورة، يسردها دون أي رتوش، وكأنها صور بالأبيض والأسود، وبالتالي جاءت حميمية،  فضلا عن واقعيتها الشديدة التي تفضح ما وصلت إليه الأمور بالنسبة للإنسان.

 في كل هذه الصور تشعر أن “أبو خنجر” قد جهز نفسه وقلمه وأوراقه الصغيرة لتسجيل تلك اللحظات، أي إنه لم يترك نفسه هكذا جالسًا على المقهي كي يقطع ملل الأيام الطويلة في حياته، فحّول تلك اللحظات إلى سرديات شجية، وخاصة جدًا، وأن كانت تمر على أعيننا دون أن نمسك بها. فمنذ أول قصة أو أقصوصة: “رقص” عن ذلك الولد  النائم والذي ما أن تخطو داخل بازاره(محله)  امرأة أجنبية، وهي تشير له على الطبلة، حتى تتفجر أنامله بنقر على الطبلة، وما يكاد جسد المرأة يبدأ في الاهتزاز، حتى يتحول النقر إلى ضرب على الطبلة، وكأنها قلب ميت وقد مسته دفقة روح فأعادت له الحياة.. يستند الولد على ركبته ويبدأ في الضرب على الطبلة، لينفجر جسده في رقص مع المرأة، يجعل كل الشارع بل وكل العالم يتحرك ويتهز، ليتفتت الاستحياء، ويمتزج الإنسان بالإنسان، فالرقص هو لغة العالم ونبضه أيضًا.

ثم ينقلنا إلى ذلك العجوز الذي يدخل المقهي طالبًا تعميرة (جحر معسل)، وتعامل نادل المقهي الجاف معه، حيث يجره بعيدا عن الزبائن، إلى عمق المقهي بجوار”النصبة” التي تفح بالحرارة، وكأنه إنسان درجة عاشرة. فلم يكن من هذا العجوز إلا أن نهض مغادرًا المقهي تاركًا خبطات عكازه ترن في قلب السارد، وكأنها تنبهنا إلى خشونة التعامل والتفرقة والغباء أيضًا في تعاملاتنا.

 وفي “اصطباحة” نشعر بشجن صوت الشيخ محمد رفعت ممتزجا مع صوت فيروز، بينما يتتبع- الراوي – مراهقين وهما يحرران أقدامهما، وقد شعر الكاتب بنفسه متذكرًا أيام شبابه.تلك اللحظات الشفيفة بين الشاب والفتاة، من نظرات واحتكاكات، غربلت ثقل اليوم وجعلته يومًا للحنين القديم، وكانه يخبرنا عن براءته التي ضاعت، وعن بهجة الأصوات بين فيروز ومحمد رفعت التي كانت تفتتح أيامنا الماضية.

الفقرة الصباحية في الإذاعة المصرية

 في قصته “صوت” تأتي الصورة لتكشف تحولات الزمن على تلك السيدة التي رآها تحمل رضيعا في سيارة أجرة. صوتها يعيده للماضي البعيد والسعيد، عندما  تقابلت بالصدفة “حلمة” نهدها مع كف يده، ، لكن خلف هذا الصوت أصبحت تملك جسدا مهزوما ونهدا مستهلكا.

  وفي قصته “نقاب” نجده يقدم  لقطة ضمن اللقطات التي صارت أساسية في حياتنا، في البيت، وفي أروقة مكاتبنا الوظيفية وفي المواصلات. وقد جاء ذكر النقاب في قصتين من قصص المجموعة.. في الأولي “نقاب 1” يلقي الضوء على تلك اللحظات عند دخوله إلى مكتبه والنساء اللاتي يسرعن بوضع النقاب على وجوههن، وعدم معرفته بهن الآن بينما في الماضي كان يعرفهن جيدًا، حيث اصبحن مشتابهات.تذكره وجوههن تحت النقاب بوجه “عمته” وهو ينزلها من عند الطبيب جثة وقد وضعوا على وجهها “طرحة” .

 وفي القصة الثانية “نقاب 2” يحدثنا عن تلك الأم التي تجلس في سيارة أجرة وقد وضعت رضيعها على ركبتها وهو يصرخ، في فزع، فلا تعرف كيف تتصرف لأنها تريد أن تلقمه ثديها أو ان تناغشه بابتسامة وجهها، فيقف النقاب حائلا دون ذلك، وعندما تتلفت حولها خشية تطفل الركاب، وتدخل الطفل من تحت النقاب لرؤية وجهها، يهدأ الصراخ ويضحك الطفل، وكأن أحمد أبو خنجير، أراد في هاتين اللقطتين أن يقول لنا إن هذا النقاب أصبح  يعيقنا، ويحرمنا من كثير من براءتنا، وإنسانيتنا.

في الجزء الثاني من المجموعة والتي تحمل عنوانا فرعيا “رجل وحيد” تأتي القصص عبارة عن حلم كبير ومتاهة أكثر إتساعا، لهذا الإنسان الحائر، بين حي أو ميت، وبين الحلم بالمدينة التي يريد أن يدخلها ولا يعرف لها بابا رغم كثرة الأبواب. خلال هذه القصص يدخلنا أبو خنيجر في عالم من الحيرة مع الأبواب السرية المتشابهة للمدينة اللعوب العامرة.فيقول ساردًا: “في بداية مصاحبتي لشيخي أوصاني بالصبر وطول البال، وعدم التعجل، والوضوح والدقة، وأن أستمع كثيرًا لصوت المدينة التي أرغب الولوج إليها، أقترب منها، كي أتعرف على روحها، عمقها، وألا أقع تحت سطوة بهرجتها ومفاتنها المغوية”.. “للمدن غوايات، وألاعيب تجربها على من يرغبون الدخول، تختبر قوة أرواحهم وجدارتهم بأن تسمح لهم بالدخول”.

  بهذه الغواية يقدم لنا حكايات الجزء الثاني عن حتحور سيدة البلاد وربة الفن والجمال، وعن رجل الحمام حيث الزمن ومرواغته، وشخصية “سن الحجر” في قصة “في انتظار الريح”، والغداء مع الجد الذي يصير طيفًا عابرا يلقي له ببعض الذكريات، ثم قصصه المتوالية في نهاية المجموعة عن ذلك الشخص الذي يتحرك بيننا وهو يريد أن يكتشف نفسه وما حدث له، سواء بالنظر في المرآة أو الامساك بالاحلام أو بإكتشاف أنه ميت، في مرآة الصباح.

 في هذا الجزء، تتحول القصص لبعد فلسفي آخر بعيدًا عن الواقعية السردية التي نراها في الجزء الأول، فأحمد أبو جنيجر في قصص الجزء الثاني “رجل وحيد” ممتليء بالشك فيما حوله، ويبحث عن ذاته التي تلاشت سريعا مثلما أصاب رأسه الصلع سريعًا بعدما كان يتدلي شعره في الماضي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock