منوعات

الصوفية كوسيلة للحرب على الإرهاب.. فرص ومخاطر

أليس فيليبو

ترجمة: أحمد بركات

تقديم:

تحاول هذه المقالة للباحثة “أليس فيليبو” المتخصصة في ملف السياسة والسلطة في الصوفية المعاصرة، تسليط الضوء على محاولات استخدام الصوفية  كوسيلة للحرب على الإرهاب وذلك من خلال تكريس صورة برّاقة للصوفية، تقدمها كمعبر عن وجه الاسلام المعتدل والمتسامح في مواجهة الوجه الراديكالي المتشدد. لكن الباحثة، وهي استاذ علم الاجتماع بمعهد الدراسات السياسية بمدينة إكس – بروفانس بفرنسا، تقول إن استخدام الصوفية كوسيلة في الحرب على الإرهاب، جعل منها هدفا للعديد من العمليات الإرهابية في عدد من الدول الإسلامية. وترى الباحثة في مقالتها التي جاءت تحت عنوان “الصورة الإيجابية والقوة الناعمة.. تعزيز الصوفية في الحرب على الإرهاب” أن استهداف الصوفية من قبل الجماعات المتطرفة يعود في جانب منه إلى محاولة استغلال بعض الأطراف الدولية كالولايات المتحدة، أو الأنظمة الحاكمة المحلية، وخاصة السلطوية منها، للصوفية لتحقيق أهداف سياسية، الأمر الذي يجعل هذه الجماعات  تتعامل معها (الصوفية) باعتبارها وكيلا لمصالح الغرب. لكن ما يؤخذ على هذه الدراسة التي ينشر موقع “أصوات أونلاين” ترجمة لنصها كاملا، فضلا عن  نظرتها للصوفية وكأنها أداة جاهزة للاستخدام من قبل الغرب وغيره، هو محاولتها نفي النهج المعتدل والمسالم للصوفية، لمجرد أنها قادت المقاومة ضد  المحتل الأجنبي في حقبة الاستعمار في عدد من الدول العربية والاسلامية كما حدث في الجزائر والهند وغيرهما، وكأن المسلم ليكون معتدلا لا ينبغي أن يقاوم الاحتلال لبلاده أو يتصدى للعدوان عليها.

أليس فيليبو

نص المقال

منذ أن دارت رحا الحرب على الإرهاب، تم وسم الوهابية على أنها المرادف الأيديولوجي للكراهية وعدم قبول الآخر. وعلى النقيض من ذلك، فقد بذلت جهود كبيرة لتصدير الصوفية على أنها البديل المعتدل، والوسيلة الناجعة لمكافحة الإرهاب في العديد من الدول ذات الأغلبية المسلمة وغيرها. كما برزت الصوفية إلي واجهة دوائر صناعة السياسة الأمريكية كدرع أيديولوجي لمقاومة التطرف والإرهاب، كأداة فعالة للقوة الناعمة الدينية.

الصوفية في مواجهة الراديكالية

 ولتقديم صورة إيجابية عن الإسلام، عكفت جهات حكومية وغير حكومية على توظيف الصوفية كوسيلة للتأثير في الآخرين من خلال الجذب والإقناع، بدلا من القهر والإكراه. وتتشابك هذه العمليات المعقدة التي تتجه من القمة إلى القاعدة والعكس في الممارسات الدبلوماسية وعبر الوطنية، وتترك تأثيراتها في مستويات مختلفة، من المحلية إلى العالمية. في هذا السياق، تمت تعبئة الدلالة المفعمة بالمعاني الراقية للصوفية بمحتوى مثالي ينطوي على الحب والسلام والتسامح وقبول الآخر والاعتدال، وهو ما جعله يلهم سردية مؤثرة تفيد وجود إسلام آخر مختلف تماما في هذا التوجه الروحاني البعيد عن تشوهات السياسة، وأن الفضائل الجوهرية الكامنة في هذا التوجه من شأنها أن تقدم بديلا مناسبا يمكن أن يحل محل التجليات الأكثر راديكالية في الإسلام السياسي. وتم تقديم الصوفية مرارا وتكرارا باعتبارها الوجه الحقيقي للإسلام الذي يجب اعتناقه وتبنيه لمواجهة الإرهاب ونزع الشرعية عنه وهزيمته. وبهذه الطريقة جرى وضع الصوفية والإسلام الراديكالي كمفهومين متناقضين يقصي أحدهما الآخر، وككيانين متصارعين يتقاتلان من أجل تمثيل الجوهر الحقيقي للإسلام.

رغم ذلك، فإن نظرة تاريخية سريعة على تسيس الصوفيين ونظرة الغرب إليهم قد تشي بأن هذا النوع من المعالجة المثالية للحركة الصوفية يمكن أن يكون مضللا. ففي وقت ما من تاريخ العلاقة بين الإسلام والغرب لم يكن “الخطر الإسلامي” مرتبطا بالسلفيين الجهاديين، من أمثال أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة أو أبو عمر البغدادي زعيم تنظيم داعش، وإنما بمشايخ الطرق الصوفية الذين قادوا حركة المقاومة ضد القوى الغربية. ففي الحقبة الاستعمارية برزت الصوفية بوضوح كتهديد سافر وخطر داهم على المشروع الإمبريالي الغربي. وكانت الطرق الصوفية التي قادت الجهاد ضد القوى الاستعمارية من الجزائر إلى الهند تشكل مصدرا فجا للبارانويا التي عانى منها القادة الغربيون في المستعمرات.

أما اليوم، فقد تحولت الصوفية إلى تجسيد حقيقي للقيم الدينية الإيجابية التي يتعين على العالم تعزيزها من أجل دحض الإرهاب. وكما قال جوناثان غرانوف، العضو السابق في لجنة المنظمات غير الحكومية المعنية بنزع السلاح والسلام والأمن في الأمم المتحدة، في المنتدى العالمي للصوفية الذي عقد في عام 2016: “يحتاج العالم بأسره، في الشرق والغرب، إلى إعادة التفكير في استراتيجيته الحالية لمواجهة الإرهاب الجهادي، وإصلاحها. في هذا السياق، تمثل الصوفية علاجا ناجعا وملهما يمكنه إعادة إحياء القدرة الإنسانية على الحب والتعاطف والرحمة والسلام”. ففي الوقت الذي تربعت فيه النزعة القومية الهندوسية على عرش السلطة في الهند لتكشف عن توجهات عدائية قوية ضد المسلمين، كان ينظر إلى الصوفية باعتبارها أداة محتملة للقوة الناعمة الدينية. كما تم إدراج عناصر من الصوفية في السياسات المحلية والخارجية للعديد من الدول مثل باكستان وإندونيسيا وحكومات شمال إفريقيا وحتى دول الخليج، باستثناء المملكة العربية السعودية.

جوناثان غرانوف

 أحد أدوات القوة الناعمة

وكأداة من أدوات القوة الناعمة، استخدمت الصوفية لصياغة نسخة مقبولة رسميا من الإسلام. وقد توافقت هذه السياسات الدينية مع جهود صانع السياسة الأمريكية لتقديم إسلام معتدل، ووفرت له مصادر عديدة يمكنه الاعتماد عليها في سبيل تحقيق هذا الهدف. ففي باكستان، التي تمثل إحدى أهم دول خط المواجهة في الحرب على الإرهاب، تم إبراز الصوفية باعتبارها إسلام السلام والمحبة. كما تم إدراجها كجزء أصيل من سياسة “الاعتدال المستنير”، التي انتهجها الرئيس برفيز مشرف، ومن القوة الناعمة الباكستانية. كان الهدف الرئيس من هذا النموذج الجديد هو تعزيز صورة متسامحة ومنفتحة وتقدمية لباكستان – خاصة أمام الغرب – في الوقت الذي بلغ فيه خطر التطرف الإسلامي ذروته.

 الرئيس الباكستاني السابق برويز مشرف

وبينما تم توظيف الصوفية داخليا وخارجيا من قبل حكومات مختلفة لأهداف سياسية متباينة، نشطت الكيانات والقوى الصوفية أيضا لاستغلال الفرصة ولتحقيق مصالحها الخاصة، والمضي قدما في ’سياساتها الخارجية‘ التي حاولوا من خلالها التأثير على السياسات الخارجية الرسمية لبلدانهم. وقد تركت هذه السياسات العامة للحشد الاستراتيجي “للإسلام المعتدل” آثارا محلية مهمة في بعض البلدان. ففي منطقة الساحل الإفريقي على سبيل المثال أدى ذلك إلى تفاقم الخلافات بين الجماعات الدينية المتنافسة.

التجربة الباكستانية

وفي باكستان، قامت بعض الحركات الصوفية – التي كان ينظر إليها من قبل الدولة باعتبارها حركات معتدلة مثل “البريلوية” التي تأسست في القرن التاسع عشر كرد فعل على انتشار الحركات الإصلاحية المحافظة مثل “الديوبندية” – بالتعبئة بعد دعوة الحكومة في عام 2009 وما تلاه لإنقاذ روح باكستان من “الطالبانية” الزاحفة.

وبعد تهميشها لعدة عقود انحازت الجماعات البريلوية إلى القابعين في السلطة بحثا عن موارد مادية ورمزية وسياسية. وأكد البريلويون على هويتهم كمسلمين صوفيين يمثلون الإسلام المعتدل في مقابل الوهابية، أو السلفية، التي كانت تتحول بقوة إلى مرادف أيديولوجي للإسلام المتطرف الذي يتعين مواجهته عالميا. وعزز البريلويون بقوة السردية المناهضة للوهابية، وركزوا بعمق على الأسباب الثيولوجية (وليس السياسية) لتفشي الراديكالية والإرهاب، وعكفوا بدأب على تنظيم العديد من المؤتمرات التي تهدف إلى التنديد بالطالبانية والتأكيد على دور الجماعات الصوفية في تعزيز نسخة سلمية متسامحة من الإسلام. وفي أبريل من عام 2010، توجه وفد من قيادات البريلوية إلى واشنطن، حيث جرى استقبالهم بحفاوة بالغة، والتقوا عددا من ممثلي وزارتي الخارجية والدفاع والكونجرس ووكالة التنمية الدولية التابعة للولايات المتحدة ومراكز بحثية ومنظمات غير حكومية.

وقد نشر طاهر القادري – أحد رموز الحركة البريلوية، ورئيس منظمة “منهاج القرآن”، وهي منظمة عبر وطنية تحظى بمتابعة دولية واسعة – فتوى باللغة الإنجليزية ضد الإرهاب والهجمات الانتحارية انتشرت على نطاق واسع. وفي معرض انتقاده للأفكار والممارسات الوهابية المتشددة، أكد القادري على الطريقة التي أسهمت بها الوهابية في تشكيل العقل الجمعي الغربي الذي ينظر إلى الإسلام باعتباره دين يحث على الإرهاب، وهو ما يمثل محاولة للتأثير على الجدل المحموم والمستمر حول ممارسة العنف باسم الإسلام. وعلى نحو مشابه، شهدت إندونيسيا انعقاد “قمة دولية للقادة الإسلاميين المعتدلين” في جاكرتا في مايو 2016 برعاية جمعية “نهضة العلماء”، المعادل الإندونيسي لحركة البريلوية في باكستان.

طاهر القادري

 الآثار العكسية

وبينما يبدو إضفاء النزعة المثالية على الصوفية في السياسة العامة أمرا جيدا على المستوى النظري، وجذابا للقوى الغربية، إلا أنه قد ينطوي على آثار عكسية في سياق تقويض العنف. وربما أسهمت المبادرات الصوفية في إزكاء النزوع الراديكالي الذي انطلقت لمواجهته. وفي بعض الحالات، عززت هذه المبادرات فعليا الانقسامات المذهبية، وزادت من حدتها. ففي ثمانينيات القرن الماضي، دشن الجنرال ضياء الحق حركة أسلمة في باكستان تتجه من أعلى إلى أسفل، تثمن الإسلام الديوبندي المحافظ على حساب التأثيرات البريلوية والشيعية. وربما تترك المساعي الرسمية الأخيرة لتعزيز صوفية الدولة آثارا مشابهة، وتعمق الانقسام المذهبي الذي تحول إلى أمر معتاد منذ عهد الرئيس محمد ضياء الحق. ومنذ عام 2005، تحول العديد من قادة الصوفية وأضرحتها ودور عبادتها المقدسة إلى أهداف سائغة للعنف المتزايد، وذلك بعد أن تم النظر إليهم باعتبارهم رؤوس حربة نافذة في الحرب على الإرهاب. ومن جانبها، قامت السفارة الأمريكية في إسلام أباد بتمويل تجديد عدد من الأضرحة والأماكن المقدسة لدى الصوفيين في إقليم البنجاب الجنوبي، كما احتفى نظام مشرف – الحليف للولايات المتحدة الأمريكية – بهذه الأماكن الجماعية لممارسة الشعائر الدينية الصوفية بعد أن جرى تلطيخ هذه الأضرحة إبان موجة مواجهة الأمركة.

الرئيس الباكستاني السابق محمد ضياء الحق

 الاستغلال السياسي للصوفية

وإذا كان الجدل المحتدم بين الصوفيين والمناهضين للصوفية لا يمثل شأنا جديدا في جنوب آسيا، فإن الجديد هو استهداف دور العبادة الصوفية، وهو ما لا يمكن تفسيره فقط بارتفاع المد الديوبندي، أو حتى السلفي، الذي كان موجودا فعليا على مدى ثمانينيات القرن الماضي قبل تفشي موجة العنف. ولكن، عندما تحاول الدولة – وبخاصة الدولة السلطوية –  ركوب موجة حركة إسلامية بعينها من أجل تحقيق أهداف سياسية مثيرة للجدل، فإن هذا غالبا ما يؤدي إلى إضعاف الحركة. في هذا السياق، يمكننا أن نتساءل ما إذا كان الترويج واسع النطاق للصوفية في إطار الحرب الأمريكية على الإرهاب، والنظر المحتمل إليها من قبل قوى جهادية فاعلة على أنها أداة في يد الإمبريالية الجديدة يمكن أن يفسر جزئيا أسباب تحول الأضرحة الصوفية بعد أحداث 11 سبتمبر إلى مسرح للعمليات التي تشنها الجماعات الراديكالية المسلحة، وهوما أودى بحياة كثير من الصوفيين. وتثار في أماكن متفرقة من العالم الإسلامي أسئلة مشابهة: “ماذا يحدث عندما يتحول الصوفيون إلى وكيل أمريكي في الوقت الذي يصبح فيه الأمريكيون أنفسهم هدفا بعيد المنال عن أسلحة هذه الجماعات؟” هذا السؤال ينطبق أيضا على دولة مالي؛ فقد جاءت الأضرحة الصوفية والأماكن المصنفة كمواقع تراث عالمي من قبل اليونسكو في مدينة تمبوكتو بين أول ما تم استهدافه بعد احتلال المدينة من قبل جماعة أنصار الدين في عام 2012، وهو ما يمثل رسالة لأكثر من جهة.

لحظة تفجير مرقد النبي يونس في الموصل

وأخيرا، ربما أسهمت محاولات الدولة لبسط النفوذ عن طريق شرعنة الجماعات الصوفية في بيئة تضج بالصراعات المذهبية في إضفاء الطابع الراديكالي على بعض الحركات الصوفية التي كان مقررا استخدامها في الحرب على الراديكالية. لقد كان النظر إلى البريلوية باعتبارها “حركة معتدلة” ساذجا ومضللا. فعلى سبيل المثال، تتصدر أخبار جماعة “تحريك لبيك باكستان” البريلوية عناوين الأخبار في الآونة الأخيرة كحركة إسلامية متشددة. وقد اكتسبت هذه الجماعة شعبية كبيرة بفضل إصرارها الصارم على إصدار قانون إزدراء الأديان وتمجيدها لقاتل حاكم إقليم البنجاب، سلمان تيسير، بعد اتهامه بالكفر. وحصد حزب “تحريك لبيك باكستان” المركز الخامس من حيث عدد الأصوات في الانتخابات العامة في عام 2018، بعد أن نجح في حشد مؤيديه حول أجندته السياسية التي تقوم على الدفاع عن سمعة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وعن نبوته، ومعاقبة المجدفين والطاعنين في الدين بالموت. وفي نوفمبر 2018، دفع حكم البراءة الذي منحته المحكمة العليا في باكستان لآسيا بيبي، المرأة المسيحية التي اتهمت بالتجديف في عام 2009، وأودعت السجن منذ ذلك الحين، بالبلاد إلى أتون حالة من الشلل التام جراء التظاهرات التي نظمها حزب “تحريك لبيك باكستان” في جميع أرجاء باكستان. ودعا الحزب إلى القيام بحركة تمرد داخل القوات المسلحة، وهدد بقتل القضاة، وطالب بإعدام بيبي. وقد واجهت الحكومة الباكستانية هذا التهديد الجديد من نوعه من جانب الإسلاميين الصوفيين بإجراءات قمعية طالت الآلاف من قيادات الحزب وأعضائه، كما قامت باحتجاز العديد من رموزه بتهم تتعلق بالإرهاب وتهديد السلام الاجتماعي.

يمكن الاطلاع على النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا 

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock