العقوبة كفعل بشري، شيء خاضع، مثل طبيعة كل الأفعال والأمور بشكل فلسفي للنسبية، فالكوكايين مثلا كان في وقت من الأوقات يستخدم كمضاد للاكتئاب، لكنه في عصرنا الحالي أصبح من الممنوعات.. وظاهرة العبيد أيضا كانت جزءا من ثقافة وتقاليد مجتمعات سابقة، ورفضها أو إنكارها كان ضربا من الجنون.. لكن هل فكرة السجن هي فكرة أبدية، وهل هي منتهى ما قد تصل إليه البشرية لما يتفق عليه المجتمع – أي مجتمع- كعقوبة، وهل كانت فكرة عزل المدان أصلا جزءا من التاريخ البشري السابق؟، وكيف ولدت تلك الفكرة ولماذا نقر أنها فكرة قائمة وأبدية؟، وهل السجون بشكلها الحالي وسيلة للإصلاح.. وكيف يمكن للإبداع أن يكون بديلا ناجحا للسجن في إصلاح وتهذيب سلوك المدانين بالجرائم؟
عبر صفحات قليلة لا تتعدى المائة صفحة، تحاول الكاتبة والباحثة الاجتماعية البريطانية “د. كايومي مكافنشي”، الإجابة عن هذه الأسئلة، من خلال كتابها “المسرح والسجن” والذي صدرت ترجمته إلى العربية أخيرا عن المركز القومي للترجمة، وكان أحد العناوين المطروحة أمام جمهور معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الحالية.
في مقدمة الكتاب تقدم الكاتبة تمهيدا عاما عن شكل السجون في عصرنا الحالي وطبيعة المسجونين، حيث تشير إلى ما تسميه الشكل الطبقي الذي تتعامل به منظومة العدالة في الدول والمجتمعات الغربية حاليا مع السجون والسجناء. فالأشخاص المنتمين للطبقات السفلى من المجتمع، هم أقل من يحصل على الحماية من الجريمة والأكثر عرضة للحرمان من القصاص عبر القنوات القانونية عند ارتكاب الجرائم ضدهم والمعاناة من الظلم خلال اجراءات العدالة القانونية”.
وتعقد الكاتبة، وفي سطور قليلة من المقدمة، مقارنة بين ما يمكن أن تتكبده الدولة في سعيها لإصلاح مواطنيها بين بناء السجون والتعليم، فتقول”غالبا ما تكلف إدانة شخص لمدة سنة في السجن، ووضعة في مكان، تقل فيه الفرص التعليمية والتنموية، الدولة أكثر من الاستثمار في قنوات تعليم رسمية والفرص التي تقدمها عند إطلاق سراح السجناء، هذه المفارقة تضع الدولة في موضع الاتهام، حيث من المفترض أنها بذلك تدعم العقاب وإعادة التأهيل، بينما في الواقع هي تساهم في الابقاء على العيوب الهيكلية المجتمعية والفروق والجمود الاجتماعي”.
الكاتبة والباحثة الاجتماعية البريطانية “د. كايومي مكافنشي”
السجون الخاصة والأرباح الهائلة
وترى الكاتبة أن تجربة السجون التي تديرها شركات خاصة في بعض البلدان مثل بريطانيا وأمريكا، تثير العديد من الأسئلة الأخلاقية، حيث أن هذه الشركات الخاصة التي تنتهج السياسات الرأسمالية تعتمد على تعظيم مكاسبها من الأرباح، وبالتالي فإن من مصلحتها زيادة عدد المسجونين، وهو ما يتنافى مع الرغبة السياسية المعلنة من حكومات تلك الدول في تقليل عدد المسجونين لأن ذلك يتناقض مع “المصالح المادية للمساهمين في الشركات المديرة للسجون الخاصة”.
وتقدم الكاتبة مثالا على أرباح تلك الشركات، بشركة مثل G4S للأمن الخاص، وهي شركة لديها مثل تلك السجون، ولها فرع في الشرق الاوسط، وسبق وشاركت في تأمين الجدار العازل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، هذه الشركة كانت حتى 2010 يعمل لديها 600 ألف موظف على مستوى العالم، ووصلت أرباحها في أول تسعة أشهر من 2010 إلى 143 مليون جنيه استرليني، وشركة مثل مؤسسة التأهيل الأمريكية “Core Civic” تملك مساحة استيعابية تزيد عن 80 ألف مسجون وقت صدور الكتاب، وتزيد عن 90 ألف مسجون في 2016.
سجن تابع لشركة “Core Civic”
تقسم المؤلفة كتابها إلى ثلاثة أجزاء: الأول بعنوان “تطبيق العقاب”، وتناقش فيه بشكل مختصر فكرة السجن نفسها كفكرة مترسخة كعقاب لدى المجتمعات، ورغم أننا غالبا ما نتخيل أن “السجون كانت موجودة دائما”، إلا أن الكاتبة وفي لمحة تاريخية عن السجن توضح أن بريطانيا باعتبارها الأساس لعقيدة السجن، كانت تستخدم السجون كأماكن احتواء وليس للعقاب ،حتى أواخر القرن الثامن عشر: “كانت السجون مؤسسات قطاع خاص، يدفع المسجونون مقابل طعامهم، ووجود نظام للمأوى يعكس إمكانيات السجناء ،فهؤلاء الذين تقل فرص سداد ديونهم ينتهي بهم الوضع في زنزانات تحت الأرض، وعلى الناحية الأخرى تمكن الأثرياء من شراء الامتيازات مثل حرية الخروج في الصباح، وكانت السجون متاحة للعامة حتى القرن السابع عشر”.
خشبة المسرح وخشبة الإعدام
ومن أبرز فقرات هذا الجزء من الكتاب هو الربط بين فكرة خشبة المسرح، والخشبة التي كانت تقام عليها الاعدامات العلنية في الساحات أمام الجمهور في القرن الثامن عشر بشكل استعراضي والتي وصفتها الكاتبة بأنها “كانت فاعليات كرنفالية حددت شكل العلاقة بين الدولة والعامة”، وضربت مثالا على ذلك بما قاله الكاتب الأمريكي “دوايت كونكير جود” في كتابه” المسرح القاتل”، عن أن عقوبة الإعدام العلني في أمريكا ظلت لمئات الأعوام ذات جاذبية للجمهور الذي كان يأتي لمشاهدة هذا ” الاستعراض المأسوي” . ويضيف جود ” كانت أحكام الإعدام أكثر أساليب الأداء شعبية، في القرنين السابع والثامن عشر في أمريكا”.
وفي نهاية القرن الثامن عشر ومع ظهور الأفكار التنويرية للطبقة البرجوازية عوضا عن سيطرة الارستقراطيين، وتغير العلاقة بين الدولة والفرد، تحول السجن من مكان يستهدف العقاب فقط إلى العقاب والإصلاح.
عمالة السجناء
وتلفت الكاتبة النظر إلى أن السلطة الجديدة بطبيعة الحال يتطلب عملها “قوى عاملة منظمة” وبالتالي تغيرت النظرة إلى قيمة المجرم ، حيث منعت عقوبة الإعدام ” حيث قد يتمكن المدانون الذين خضعوا لإعادة تأهيل من تقديم أداء مثمر كقوى عاملة” وبالتالي خضعت سياسة العقاب إلى قوى السوق الجديد ، ومن ثم تحول هؤلاء المدانون ، الذين هم في الأصل سجناء بلا عمل وغير منتجين، إلى عمالة رخيصة أو مجانية، وفي بعض الاحيان كان يتم نقلهم إلى المستعمرات لتصبح العقوبة ذات أهمية في بناء العالم الجديد.
في الجزء الثاني من الكتاب، تحدثنا الكاتبة عن “المسرح حول السجن”، لتعطي لنا عرضا مختصرا عن أهم العروض المسرحية التي حاولت القاء الضوء على ذلك المكان الذي أصبح غامضا بداية من القرن التاسع عشر، وبالطبع لم يكن المسرح فقط هو الوحيد الذي حاول تقديم صورة للسجن للعامة، بل شاركته الرواية والأفلام السينمائية ، لتطرح السؤال مجددا عن طبيعة استخدام الدولة للسجون، وما قد يراه المجتمع كوضع طبيعي، وهل هو وسيلة للعقاب والإصلاح أم أنه عقاب أبدى حتى وإن انتهت فترة السجن.
في هذا الجزء تقدم الكاتبة عرضا لثلاث مسرحيات من فترات مختلفة، فنجد مثلا عرضا لمسرحية “العدالة” التي قدمها جون جالسوثري عام 1910 في بريطانيا، وهي المسرحية التي أدت إلي قيام وينستون تشيرشيل، وزير الداخلية آنذاك إلى اعادة النظر فى الحبس الانفرادي كعقوبة بعد لقاء مع جالسوثري بالإضافة إلى إصلاحات أخرى.
سجناء ومسرحيون
الجزء الثالث من الكتاب جاء تحت عنوان “المسرح في السجن” وخصصته الكاتبة للتجارب المسرحية لفرق تشكلت على يد مدانون داخل السجون بداية من عام 1953 وحتى عصرنا الحالي، وتطور ذلك حتى وصل إلى التجارب المساعدة في إعادة الترابط الأسري، بين المسجونين وبقية أفراد عائلاتهم. لكن تلك التجارب التي قد تساهم في إعادة تأهيل المدانين وضعت أمامها، كما تشير الكاتبة، العراقيل من قبل إدارات السجون خوفا من تمرد المسجونين على واقعهم.
الكتاب عموما يهدف إلى تقديم تجربة المسرح أو الإبداع عموما كوسيلة مساعدة في الإصلاح، لا عن طريق التلقين والدروس، ولكن عن طريق الشعور المتولد لدى السجين من خلال مشاركته في هذا العمل الإبداعي ، فسواء كان هذا الشعور هو شعور بالذنب في حالة أن المسرحية تدور حول جريمة تشبه ما قام به، أو الشعور بالفخر نتيجة القيام بدور ملك في مسرحية ما، كل ذلك قد يكون سبيلا لتأهيل وتقويم حقيقي للمسجون مما يعود بالنفع عليه وعلى المجتمع نفسه دون القضاء على ملكات الإبداع لدى الفرد حتى إن كان مدانا أو مسجوناَ.