جاء «فيسبوك» كأحد أهم مواقع التواصل الاجتماعي ليضع قدما ثقيلة في حياتنا اليومية، وما يزيد من ثقلها وتأثيرها ليس ما يعرض في هذا الفضاء الافتراضي الرحب من مشكلات وأزمات، بل أيضا ما يقدمه من فرص مذهلة في الارتباط وتكوين الصداقات والعلاقات، بل وقنص وظائف وتحقيق شهرة وغيرها من الانجازات التي ربما لم يحرم منها مستخدم واحد، ولو على سبيل الاستمتاع وكسر حالة الوحدة والملل.. إنه كل شيء ونقيضه في الوقت نفسه.
لكن كما كان تأثير فيسبوك في حياة الناس في مجتمع مثل مصر، إيجابيا مثلما حدث في ثورة 25 يناير 2011، التي كانت واحدة من أعظم انتفاضات القرن الحادي والعشرين، فقد بدا تأثيره سلبيا في الفترة التي أعقبت هذه الثورة، حين عكس التناقضات الصارخة بين أحزان وشماتة وفرح وتخوين، وغيرها من المشاعر والاتجاهات التي كانت فعليا تؤثر في مصير ووحدة تحركات الشارع في أكثر من تيار سياسي واحد.
أحيانا تدخل إلى «فيسبوك» فتجده أشبه بسرادق عزاء، أو دار مناسبات واسعة: هنا تهنئة بفرح، وهناك تعزية في فقيد.. لقد أصبح فيسبوك وسيلة ناجحة لتذكير الناس بالواجبات الاجتماعية وتحقيق نوع من التضامن الانساني في السراء والضراء. لكن ما يميز فيسبوك أنه ليس منصة ثابتة تلزمك بأداء دور معين. فكل بروفايل له عالمه الخاص «كل منا لديه الفيسبوك الذي يستحقه».
كتاب «الفيسبوك والفلسفة» الذي صدر أخيرا عن المركز القومي للترجمة للكاتب «دي إي وتركوور» وترجمه «ربيع وهبة»، يحاول تسليط الضوء على الدور والتأثير الهائل الذي بات يلعبه موقع فيسبوك في حياة الناس في مجتمعات وثقافات عديدة ومختلفة، وهو تأثير يتجاوز ما هو اجتماعي إلى ما هو أشمل وأكبر. فمثلما أثّر «فيسبوك» في علاقات ومسارات الحياة على مستوى الأسرة والعمل والعلاقات الشخصية ـ كان خير معين في حشد الجهود والجماهير الغفيرة من أجل تحقيق تغير اجتماعي بل واسقاط حكومات ورؤساء.
ردا على منتقدي الفيسبوك
يقول مؤلف الكتاب، الذي يدّرس الفلسفة والدراسات متعددة التخصصات المعرفية في جامعة كارولينا الأمريكية، إن كثيرا من أفعالنا على فيسبوك قد تبدو بلا معنى، لكنها عندما تؤخذ بشكل معين تعني شيئا ما. لو تناولنا مثلا «النكز» poke. سترى ما الذي يحاول أن يوصله شخص لآخر باستخدام النكز؟ قد تكون طريقة غير لفظية لقول مرحبا، أو قد تكون مغازلة أو نوعا من اللعب.. أن تنكز وهو/هي يرد بنكزة.
ويشير المؤلف إلى أن موقع فيس بوك أصبح موضع اهتمام الكثيرين حينما بلغ عدد رواده نحو ربع مليون شخص في بدايات انطلاق الموقع قبل نحو 15 عاما، حيث بدأ الحديث عن أهميته وتأثيراته، وهذا أمر طبيعي، «فأي شيء بهذا المستوى من المشاركة العالمية يستحق بلا شك شيئا من الانتباه والاهتمام الجاد». غير أن الـ«فيسبوك» كان موضع انقسام لافت، فقد «ظهر عند بعض الكتاب ملاكا، وعند بعضهم الآخر شيطانا.. قرية عالمية جديدة في نظر بعضنا، وعزلة مقنعة عند بعضنا الآخر؛ فرصة للحفاظ على العلاقات في رأي أشخاص، وإذاعة لحالة النرجسية في رأي آخرين».
هل الفيسبوك هو الناس؟
«فيسبوك في معظمه هو الناس» هكذا تقول «سوزان سونتاج» وهي ناقدة ومخرجة وروائية أمريكية، والتي ينقل الكتاب عنها قولها «الناس الذين نعرفهم جيدا، والناس الذين لا نعرفهم جيدا.. الناس الذين نرتبط بهم، وعرفوا كل شيء عن حياتنا، والناس الذين تقابلنا معهم من فورنا، والناس الذين كانوا أفضل أصدقائنا في الصف الخامس وانتقلوا إلى مدينة أخرى، وصار لديهم دستة من الأطفال.. الناس الذين نعمل معهم، والناس الذين نقابلهم على الانترنت».
ولأن فيسبوك هو جميع هؤلاء الناس- فهذا يعني، كما يقول المؤلف، أن «بعضنا سيحب الفيسبوك وبعضنا الآخر سيكرهه..» فالناس ليسوا في حالة فكاهة عظيمة، أحيانا يكونون في مزاج صعب ومحبطين، وإذا توقعنا أن يكونوا دائما مصدرا لنقاش مثير هادف، فقد نصاب بخيبة أمل، ما لم نكن على استعداد لبدء تلك المحادثة بأنفسنا.. ليس من العدل أو الملائم الدخول إلى غرفة لنقول «هذه الغرفة هنا مملة، الناس هنا لا يخوضون في الأمور التي أود الخوض فيها».
ويسأل الكاتب: «تُرى كم مرة سمعت عن شخص ربما تجاوز الأربعين من عمره يقول «الأولاد لا يأبهون هذه الأيام بالخصوصية»؟.. وخير مثال على ذلك هو فيسبوك» فأكثر من أربعمئة مليون مستخدم ويزيد، يطلعون العالم على جميع أنواع التفاصيل الشخصية شديدة الخصوصية. لكن المسألة في الوقت نفسه لا تشبه مجرد لعبة من ألعاب المرح، مثل الشرب من برميل البيرة وانت واقف على ذراعيك. فثمة أشياء يعتبرها القانون شديدة الخصوصية ومن غير القانوني أن يسألك أحد عنها، حتى في مقابلة التقدم لوظيفة مثل السن، والجنس، ومحل الميلاد، والديانة، لكنك تجدها جميعا أسئلة على الصفحة الأولى لاستمارة الصفحة الشخصية على فيسبوك. أجل، الحق أن الخصوصية ماتت وأن أطفال هذه الأيام قتلوها».
هل الفيسبوك امتداد للإنسان؟
ووفقا للمؤلف «فإنه وعلى الرغم من أن الاتصال عبر الانترنت يعتبر من أكثر وسائل الاتصال علانية وثباتا، فقد رصد الأخصائي النفسي «جون سولر» استعدادا لأثر التخلي عن التحفظ عبر الانترنت»، حيث يكون الأشخاص العاكفون على التفاعل على الانترنت أكثر تحررا وأقل تعقيدا ويعبرون عن انفسهم بمزيد من الحرية». ويشير سولي إلى أن بعض الناس خلال تواجدهم عبر الانترنت يتجهون إلى الإفصاح عن شخصياتهم أو استعراض أنفسهم بطريقة أكثر وضوحا من أدائهم الفعلي: «….يضع بعضهم تعليقات ملهبة ومتعمدة أو استفزازية وغالبا ما يكون ذلك دون أي جهد مقابل الانخراط فكريا أوثقافيا مع الاشخاص أو المجتمعات ذات الصلة.. مثال ذلك القيام بتشويه مرحاض عام بكتابات مجهولة للسباب بداخله.. فالأشخاص الذين ينشرون شتائم يشعرون بحرية تجاهل الأعراف الاجتماعية المتعارف عليها، وهذا الشعور بالحرية هو ما يعرفه سولر «بتأثير التخلي عن التحفظ عبر الانترنت».
من يستخدم الفيسبوك ولماذا؟
ويرى المؤلف أنه ومنذ تأسيس موقع فيسبوك في 2004، غّير موقع هذه الشبكة الاجتماعية حياتنا تغييرا عميقا.. «فالموقع يستخدمه حاليا أكثر من أربعمئة مليون مستخدم على مستوى العالم، نصفهم يدخلونه بمعدل يومي، و ثلاثون في المئة تقريبا من هؤلاء المستخدمين من الولايات المتحدة، علما بأن سكان الولايات المتحدة حاليا ثلاثمئة وثمانية ملايين نسمة، وهو ما يعني أن واحدا من كل ثلاثة أمريكيين يستخدم فيسبوك».
هويتنا الفيسبوكية
يمكننا التفاعل على فيسبوك؛ بإرسال القبلات والأحضان والضربات، وكل تلك التحركات هي طرق لبناء موقعنا على الانترنت، حيث يمنحنا فيسبوك منبرا يمكننا عليه أن نبني بفعالية هوية لنا، لكن هذا لا يعني بالضرورة أننا ضحايا إغواء الفيسبوك، كما أن قضاء وقت من يومنا على فيسبوك لا يعني أننا نهرب من واجباتنا الاجتماعية الرتيبة، ولكن قد يعني ان فيسبوك يساعدنا في الهروب من واجب تصديق قيم معينة والعمل على أساسها، والاستمتاع بحياتنا عموما.
ويخلص الكتاب إلى أن الفيس بوك سواء اعتبرناه مضيعة للوقت أو ساحة معارك سياسية جديدة، فإنه يتولى أحيانا الأعباء التي لا نستطيع القيام بها بسبب سلبيتنا «فقد تشعر بالمتعة لأنك قضيت وقتا حميما مع أصدقائك، أو أنك غيرت شيئا في حياتك بانضمامك لمجموعة تهتم بقضية ما، لكن الحقيقة أنك لم تفعل شيئا.. فيسبوك هو من أنضم وشارك وتفاعل».