هل جربت السفر وذقت المر متنقلا بين مدن وموانيء البحر المتوسط؟، وهل جعت بالأيام وتسكعت بين مقاعد المتفرجين وأروقة السينما؟، وهل جلست تنتظر ساعي البريد وانت تحلم بأنه يحمل لك طوق نجاة، هل تذوقت طعم الحلم وكتبت كل أحلامك ؟، وهل فكرت في سنوات التكوين كيف مرت وكيف علقتها في قلب صديقك القريب بينما يفصل بينكما باب أو شارع أو بحر، ويجمعكما حلم وأمنية غالية؟
وهل لم يكن لك رفيق ولا مؤنس فى غربتك ووحشتك إلا شاشة السينما، الشاشة الحلم، تلك التي ظللت تحلم بها، ليل نهار، ليس حلمًا عابرًا يأتيك ليلا كي لا يفتته ضوء النهار، وليس حلمًا صبيانيًا يتلاشي فور قدوم حلم آخر أكثر بريقًا، بل هو حلم حقيقي ظل يناوش عقلك ويمدك بالأمل وبالرؤية وبالبهجة أيضًا.
حلم واحد
تضعنا خطابات المخرج الراحل “محمد خان” لصديقه المصور “سعيد شيمي”، والتي صدرت في كتاب عن دار “الكرمة”، في حالة من البهجة.. بهجة الفرح بالإبداع، فكل صفحة في الكتاب تذكرنا بشيء حميمي على قلوبنا، أو تدفعنا للأمام كي نحقق حلما نسيناه وسط طوفان الحياة المتسارعة. تعبر تلك الخطابات عن سنوات الشباب في حياة هذين الرجلين، في صراحة عظيمة وربما فاضحة في بعض رسائلها، فلم يتخللها أي تنميق أو تهذيب. كل سنة من هذه السنوات كانت تمر حاملة معها أحلاما وخيبات.. لحظات من التفوق واخرى من السقوط، لكن الحلم ظل ثابتًا داخل فؤاد الصديقين: محمد خان وسعيد شيمي.
حياة كاملة بين طفلين، يذهبان للسينما سويًا بصحبة والديهما، ثم يشتركان في حلم واحد، وهو حب السينما، ثم تحقيق هذا الحلم بتقديمها لنا في أفلام هي علامات سينمائية خالدة.
في هذا الكتاب الذي يقترب من الأربعمائة صفحة، جاءت تلك الخطابات في صورة مذكرات لعقل وقلب ورؤية شاب شديد العذوبة والإبداع، سمع وشاهد ،واحتك ،وسقط وارتفع إلى أن أصبح المخرج الكبير محمد خان، أو ” ميمي” وهو اللقب الذي كان يناديه به صديقه ” سعيد شيمي”. وبناء على وصية محمد خان، أخرج صديق عمره هذا الكتاب شديد البهجة والوجع الإنساني والخصوصية الأدبية.
يكمل هذا الكتاب جزءا من حياة المخرج ” محمد خان”، ويوقد ” شمعة متوهجة” لعالمه السينمائي، فهذه الرسائل تحمل كمية كبيرة من الرؤية السينمائية للشاب الصغيرذى العشرين عامًا، ليس للفن السينمائي فقط ، بل للأشخاص والأماكن حوله، رؤيته الفنية والذاتية والفلسفية، وبالتالي تأثيرات كل هذا عليه في المستقبل.
حكاية جيل
هذه الخطابات التي جمعها الكتاب- في الجزء الأول منه، هي بمثابة كنز حقيقي، يخرج من قمقم الزمن، ساردًا فترة زمنية ليست لصديقين فقط، بل لجيل كامل – خاصة في الفترة من نهاية الخمسينات إلى بداية الستينات. فالخطابات ممتلئة برؤية الشاب “خان” التى يشرحها لصديقه “شيمي” للأفلام السينمائية التي يشاهدها في لندن. ففي هذه الخطابات يقدم لنا “محمد خان” رؤية سينمائية ونقدية تفصيلية شديدة البراعة لكل الأفلام التي شاهدها في الغربة، بل إنه يذكر لسعيد شيمى في كل خطاب تحليلا لكل ما يشاهده تلك الافلام.
كما أن الروح التي تمتليء بها الخطابات، تُشعرنا بأن محمد خان لا يراسل صديقه، بل يتحدث مع نفسه، ويبوح بكل شيء يريده ويفكر فيه، حتى علاقاته مع الناس، ما بين صداقة أو حب، وعلاقته مع الأسرة التي تبحث له عن وظيفة كي يساعدها بعد تعرضها لأزمة عنيفة نتيجة “نصب ” أحد الأشخاص على الوالد وضياع ثروته وفقدان تجارته، وهنا تكمن قوة تلك الخطابات وقدرتها على مخاطبة عقل ووجدان أي شاب مقدم على دخول المجال السينمائي.
في هذا الكتاب برسائله تشعر بأن “محمد خان” قد ظهر من جديد في أحد أفلامه، يتحرك بيننا ويتكلم ويقدم لنا النصائح. فالدراما المذهلة التي تحملها تلك الخطابات تجعلنا أمام فيلم سينمائي مستمر عبر كل تلك السنوات بين هذين الشابين. انها رحلة حياة كاملة عبر شريط سينمائي يتحرك بنا من مناطق القاهرة المختلفة.. من عابدين لغمرة وأرض شريف ووسط البلد، إلى الاسكندرية ومنها إلى لندن ولبنان حيث رحل “محمد خان ” مع أسرته، وعمل وتعلم الفن السينمائي. ما بين القاهرة والإسكندرية ولندن وبيروت تأتى الخطابات حاملة لهذه الأحلام التي لم تفارق صاحبها أبدا.
في الخطابات ذاتها نسمع خبطات ونقرات صوت الآلة الكاتبة التي استخدمها خان في كتابة رسائله حاملة معها الأمل والبهجة والدموع والأحلام والافلام، بل من خلالها نقيس الوضع المادي لـ “لمحمد خان” في تلك الفترة، فشريط الآلة الكاتبة، إن كان جديدًا كانت الكلمات واضحة وبراقة، أما إذا كانت الكلمات باهتة أو مهشمة، فهذا دليل على الحالة السيئة التي يمر بها والظروف المادية الصعبة التي تعتصره في الغربة. وفيها أيضا نشم رائحة أوراق الكربون. فالخطابات لا تحمل مزاج كاتبها فقط، بل حالته الاقتصادية والنفسية أيضًا، هي تشكل دراما بمفردها، قبل أن تحمل لنا سيرة هذا المخرج الكبير.
السينما والبشر والحياة
تشبه البهجة التي جاء بها الكتاب، تلك التي نعيشها حين نشاهد أحد أفلام “خان” المدهشة مثل “خرج ولم يعد، أو زوجة رجل مهم، أو أحلام هند وكاميليا، وضربة شمس، والحريف” وغيرها.. يطل علينا “خان” المتجدد، بهذا الكتاب مرة أخري، وهو يشاهد العالم “بكاميرا” متحركة، وعدسة قوية لكل الأشياء التي يحبها أو يخشي منها، تلك الكاميرا التي جاءت بعد ذلك في أفلامه التي أحببناها.
وفي خطاباته يؤكد خان أن لا شيء يحدث عبثًا، وأن من يريد أن النجاح عليه بالعمل والصبر والمقاومة والأحلام، وأن يعرف جيدا كيف يتحدى الظروف، كما فعل هو نفسه مع ظروفه الصعبة التي عاشها وكانت تتلاعب به كما تتلاعب الأمواج بسفينة شراعية لا تحمل بداخلها إلا بوصلة وهي قلب متوهج وحالم وموهوب، ويعرف قدر موهبته.
حب السينما وحب البشر وحب الحياة، ثلاثة أضلاع لمثلث كتاب خطابات خان لصديقه المصور سعيد شيمي، ومن خلال هذه الأضلاع الثلاثة نرى أنفسنا وماضينا ونفكر في مستقبلنا، متعلقين بشغف شديد وحب عظيم للسينما.