كتب جون ميناديو
ترجمة تامر الهلالي
ربما يكون من غير المألوف، أو من المحرج الجزم بأن النظام الاقتصادي السائد منذ قرون والمتمثل في الرأسمالية النيوليبرالية – قد يكون على مشارف نهايته. فما كان يعرف فيما مضى بمدرسة الاقتصاد في شيكاغو – الاحتفال الكلاسيكي الجديد “بالسوق الحرة” و”الحكومة الصغيرة” – لا يزال يغلق عقول صانعي السياسة الاقتصادية في الولايات المتحدة واقتصاداتها الضخمة. أما في أوروبا، فقد كان هناك دائمًا عدم ثقة عميقة في الاحتفاء الأنجلو أمريكي بـ”الفردية التملكية” ونبذها للمجتمع, وعلينا أن نتذكر هنا ازدراء رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة “مارغريت تاتشر” لفكرة “المجتمع”.
إنكار الفشل
من غير المستغرب أن ينتقد المدافعون عن الليبرالية الجديدة، التعاطي الأوروبي المتنامي مع الاقتصادات المحلية والإقليمية والعالمية باعتبارها حنينًا إلى “أوروبا القديمة”، بالرغم من الفشل الواضح، الذي لا مراء فيه، للنيوليبرالية. فعواقب هذه الإخفاقات غير مرغوبة إلى حد كبير أو متجنبة من قبل صانعي السياسة في الولايات المتحدة، وأتباع ذلك المعسكر في المملكة المتحدة وأستراليا. إنهم ينكرون حقيقة أن النيوليبرالية لم تفلح فقط في تحقيق أهدافها المزعومة، ولكنها عملت بشكل مدمر على تقويض أسس الرأسمالية الحديثة, والنتيجة هي أن الهيكل السياسي والاقتصادي الغربي كله يرزح على حافة الهاوية الاقتصادية.
وكان من أبرز من تعرض لملامح هذا الانهيار متصاعد الوتيرة للرأسمالية اثنان من العلماء الأوروبيين البارزين الذين أدركوا عواقب الكارثة النيوليبرالية وهما الاقتصادي الفرنسي “توماس بيكيتي” والاقتصادي الألماني “فولفجانج ستريك”.
توماس بيكيتي فولفجانج ستريك
الطريق إلى المجهول
كتاب “بيكيتي” الصادر عام 2013، بعنوان“رأس المال في القرن الحادي والعشرين”Capital in The Twenty-First Century”، يتحدث بالتفصيل عن مخاطر عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية التي خلقتها الرأسمالية على مدار تاريخها. ويوضح كيف يمكن أن يكون هذا التفاوت مدمراً للنمو الاقتصادي المستدام.
الأكثر إلحاحًا، بحسب ما شرح “بيكيتي” بتفصيل دقيق كيف أن السياسات النيوليبرالية المعاصرة شيدت أسوأ أشكال عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية في التاريخ. وقد تم التأكيد على تحليله من خلال تقرير أوكسفام الأخير الذي أظهر أن ثمانية فقط من أصحاب المليارات يملكون ما يعادل نصف رأس المال لدى نصف سكان العالم.
وعلى الرغم من دراية بيكيتي الدقيقة، تستمر الاقتصادات النيوليبرالية الغربية في السير على الطريق إلى المجهول. وقد وُضعت أسس هذا الطريق من خلال السياسات الإيديولوجية الفاضحة لـ تاتشر ورونالد ريغان – و تبعهما السياسيون الأستراليون من جميع التوجهات السياسية الحزبية منذ ذلك الحين.
وفي السياق نفسه, أظهرت الأبحاث التفصيلية التي قدمها فولفجانج ستريك, الماهيات والآليات التي تبين كيف دمرت الرأسمالية نفسها بالاستسلام لسياق السياسات النيوليبرالية. ويكشف كتابه الأخير، “كيف تنتهي الرأسمالية ؟”How will Capitalism End، كيف انتصرت هذه الرأسمالية النيوليبرالية على خصومها (وخاصة الشيوعية) من خلال إهمال منتقديها ومعارضيها، وتجنب كل البدائل الممكنة لسياساتها وأدواتها المتوحشة.
وإذا كان ستريك على حق، فنحن بحاجة إلى توقع ما قد يبدو عليه عالم ما بعد انهيار الرأسمالية. إذ يُعتقد على نطاق واسع أن النتائج ستكون كارثية, حيث يخشى من ظهور نموذج دولة جديدة تشهد تعاوناً وثيقاً بين الرأسمال الكبير والزعماء النقابيين والحكومة والجيش كنتيجة للأزمة المالية العالمية الكبرى التالية فيما يعرف بـ Neo-corporatism وهي علاقة تعاونية بين مجموعة المصالح والحكومة بغرض الحفاظ على إجراء ثابت لتطوير وتنفيذ السياسات الاقتصادية, وهي واحدة من مدارس التفكير لمجموعات المصالح.
ويعتقد “ستريك” أن ملايين الوظائف ستختفي وسيتركز رأس المال بشكل مكثف في أيادي قليلة جدا، كما سيتحول الأثرياء فاحشو الثراء، إلى جيوب أمنية تستمتع بشراهة بكل أشكال الرفاهية التي يمكن تخيلها. في هذه الأثناء ستكون الجماهير عالقة في عالم ملوث وبائس حيث الحياة – كما قال هوبز – ستكون انفرادية، فقيرة، سيئة، وبحتة وقصيرة. الشيء المدهش هنا هو مدى عدم معرفة أو فهم عمل مفكرين مثل بيكيتي وستريك, في استراليا اليوم, مثلما كان الحال مع علماء آخرين في أوروبا، والذين طالما حذروا من الوعود الجوفاء “للعقلانية الاقتصادية” في أستراليا. ولكن، مثلما حدث مع الأوروبيين، تم تهميش نظرياتهم، حتى مع تعمق عدم المساواة بشكل كبير، وبدأت تداعيات الشعبوية في تسميم سياساتنا، وتمزيق آخر قطع من ديمقراطيتنا المتداعية.
لقد حان الوقت لتخيل مبدع لعالم ما بعد النيوليبرالية الجديد, والذي من شأنه أن يصلح إخفاقات النيوليبرالية الكارثية، والبدء في صنع عالم متعاون يسعى للتكامل. ويمكن البدء بثلاث خطوات فورية في هذه الرحلة الرائعة:
-أولاً، نحتاج إلى رؤية إحياء ما أطلق عليه العالم الأمريكي ريتشارد فولك “العولمة من أسفل”، بما يعني إحياء المجتمع المدني الدولي لموازنة قوة النخب ذات النزعة الأنانية الذاتية (المديرون متعددو الجنسيات وعرائسهم السياسية والعسكرية) الذين يعتلون السلطة الآن.
-ثانياً، نحن بحاجة إلى الخروج بأشكال جديدة من الحكم الديمقراطي ترفض الافتراض الراسخ المتصور بأن السياسة الحالية للحكومة التمثيلية تشكل أعلى شكل من أشكال الديمقراطية. لا يوجد شيء حول الحكومة التمثيلية. لا يوجد الآن في واقع الأمر ما يمكن أن يطلق عليه حكومة تمثيلية ديمقراطية, بل هو ما وصفه “فيلفريدو باريتو”, عالم الاقتصاد الفرنسي الشهير, “بتداول النخب” الذين أصبحوا بعيدين عن الناس الذين يحكمونهم.
-ثالثًا، نحتاج إلى رؤية الدول تتدخل بشكل شامل في ما يسمى بـ “السوق الحر”. وبصرف النظر عن إعادة تنظيم النشاط الاقتصادي، فإن هذا يعني وضع المؤسسات العامة في صلب الخطط الاستراتيجية الاقتصادية، للتنافس مع القطاع الخاص، وليس وفقا لشروطها حصرا, ولكن في ما يصب في مصلحة جميع المواطنين.
وكما يشير “بيكيتي” و”ستريك”، فإن حقبة ما بعد النيوليبرالية قد بدأت في التدمير الذاتي. وأمامنا أن نختار: إما أن يشهد عالم ما بعد الرأسمالية فاشية جديدة كئيبة، أو أن علينا أن نشكل بصورة استباقية نسخة جديدة وخلاّقة للغاية من الديمقراطية المجتمعية. لقد حان الوقت لبعض التخيل الرائع.
جون ميناديو: كاتب و دبلوماسي سابق و رجل أعمال استرالي