منوعات

«الفتوة»: من البطولة إلى البلطجة

مفهوم “الفتوة” هو واحد من أكثر المفاهيم حضورا في ثقافتنا الشعبية، لاسيما بين شرائح مجتمعية وفئات عمرية تنزع إلى العنف، وتؤمن بالقوة وسيلة وحيدة لبسط النفوذ، وانتزاع الحقوق. والحقيقة أن شخصية “الفتوة” كمعنى وكمفهوم طالته ولحقت به تداعيات التردي الاجتماعي، والتراجع القيمي،  والأخلاقي، والثقافي في المجتمع المصري.. فكيف ظهر هذا المفهوم، وما هو تاريخ نشأته؟ وما معناه؟ وإلى أين انتهى؟

الفتوة في الجاهلية

في عصر ما قبل الإسلام (العصر الجاهلي) فرضت قساوة البيئة العربية الصحراوية، وحياة البداوة ،التي تكثر فيها وقائع الاعتداء والسلب والتناحر القبلي ضرورة وجود شباب للقبيلة يقومون بحمايتها والذود عنها والدفاع عن ممتلكاتها، وحماية نسائها من السبي الذي قد يُلحق بأفراد القبيلة العار. وقد كافأت البيئة هؤلاء الشبان الشجعان بوصف، وتسمية هذا الصنف من الشباب بـ” الفتى” وكان المعنى يجمع حينذاك  بين صفات الكرم والقوة والشجاعة والمروءة والإقدام، ومن هذا الاسم، اشتق بعد ذلك بعقود طويلة لفظ “الفتوة” الذي أُطلق على كل من يتمتع  بتلك الصفات النبيلة. وقد كثر في أشعار الجاهليين ومعلقاتهم – باعتبارها الدواوين التي سجّلت يوميات حياتهم، – مديح بعضهم البعض مديحا تظهر فيه -كثيرا – تلك الصفات التي تقترن بالفتى أو الفتوة.. فمثلا يقول دٌريد بن الصمة مادحا يزيد بن عبد المدان:

إذا قارعوا عنه لم يقرعوا                وإن قدّموه لكبش نطح

وإن حضر الناس لم يخزِهم              وإن وازنوه بقرن نجح

فذاك فـــــتـــــاها وذو فضــــــــلِها          وإن نابح بفخار نـــــبح

وقد وصف طرفة بن العبد نفسه بقوله:

إذا القوم قالوا مَن فتى؟ خلت أنني     عُنــــــــيتُ فلم أكســـــل ولم أتبلّدِ

لا فتى إلا علي

وفي فجر الإسلام كانت صفة “الفتوة” لصيقة بجيل من شباب المسلمين الذين رفعوا رايات الفتوحات ونشر الدين الجديد بعد التغلب على أعتى الحضارات القديمة كالفرس والروم. وكان على رأس هذا الجيل من شباب الإسلام الإمام علي ابن أبي طالب، كرم الله وجهه، والذي نودي فيه يوم أحد – بعد ما قدم من بطولات وشجاعة في المعركة -(لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي).

وقد توارث المسلمون هذا الاهتمام بالفتوة، فكان الخليفة الناصر العباسي يهتم بتدريب الشباب وتعليمهم سبل المقاومة والنضال، وكان الشاب منهم إذا بلغ حدا من القوة والكياسة والرجاحة في عهده شرب كأس الفتوة، وهو كأس ليس من الخمر أو النبيذ وإنما (ماء وملح)، وهكذا صار للفتوة شجرة ونسب، ينتهي للإمام علي بن أبي طالب.

وفي أيام المماليك كان هناك شكل من أشكال الفتوة العسكرية حيث يُربَى الأطفال على أخلاق الشجاعة والفروسية، وكان لهؤلاء الفضل في الدفاع عن المقدسات الإسلامية ومواجهة حملات الصليبيين والمغول.

وفي كتابه (الفتوة) يشير الكاتب والمفكر أحمد أمين، إلى أن ثمة لونا آخر من الفتوة تناوله الرحالة ابن بطوطة الذي زار بلاد الأناضول (تركيا حاليا)، حيث تحدث عن فتيان بلاد التركمان باعتبارهم أهل صلاح  وورع وتقوى، وأنهم أكثر الناس جودا وإسراعا في إكرام وإيواء الغرباء، و كانوا ينادون بعضهم البعض بكلمة “أخي”، والمؤرخون الأتراك  كانوا يصفون بعض أهل الفتوة بقولهم

( وأخي حسام هذا صاحب الفتوة والمروءة، والمعروف بالسخاء والشجاعة والزهد والعبادة، وإطعام الطعام للمساكين، وإكرام العلماء والفقهاء. قليل الكلام. لا يخوض في كلام لا طائل تحته. آمر بالمعروف ، ناه عن المنكر).هذه الأخلاق والصفات كانت وحدها ما يستحق وصف الفتوة في ذلك الزمان.

الفتوة (الشعبي)

وفي العصر الحديث ظهر المفهوم الجديد للفتوة الذي نعرفه، والذي انتشر وسيطر، لاسيما في أحياء القاهرة القديمة والشعبية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والذي قدم صورة إيجابية  للشخص الفتوة. فالفتوة هو الذي يدافع عن المظلومين ويرد الحقوق لأصحابها، وينتصر للضعفاء في وجه الأقوياء والجباة جامعي الضرائب. وقد بدا المفهوم للفتوة قريبا لمفهوم “الصعلكة “حيث السطو على أموال الأغنياء المحتكرين أصحاب السلطة في سبيل إعادة توزيعها على المعوزين والفقراء ، وهو مفهوم اتسق تماما مع  الفتوة في التراث والمزاج الشعبي   المصري  الذي عرف سيرة سيف بن ذي يزن، وعنترة ابن شداد، والظاهر بيبرس، ثم في فترة لاحقة سيرة شخصيات مثل  الزيني بركات ، وعلي الزيبق ، وعاشور الناجي وغيرهم،  وقد ظل هذا المفهوم الايجابي للفتوة ودوره  في أحيائنا الشعبية القديمة  يحمل هذا المعنى  النبيل حتى وقت قريب.

ويربط البعض ما بين ظهور الفتوات في مصر والاضطرابات السياسية التي شهدتها تلك الفترة، والتي انعكست على قوة ومركزية الدولة، وبينما تشكلت عصابات تقوم بالسطو على الأسواق وسرقتها، فقد تكونت في المقابل جماعات تقوم بحماية الناس، والحفاظ على تجاراتهم وممتلكاتهم بمقابل أو بدون، وهؤلاء هم من تسموا ب(الفتوات). ومن أشهر الفتوات في الأحياء الشعبية المصرية (إبراهيم كروم) فتوة حي بولاق، (زكي الصيرفي) فتوة الحسنية، والذي جسد شخصيته الفنان “فريد شوقي” في فيلم ” فتوات الحسنية” إنتاج 1954.

كذلك (حرفوش) فتوة الجمالية والحسين، ويبدو أن هذا الإسم هو الذي ألهم الأديب العالمي نجيب محفوظ بفكرة روايته الشهيرة (الحرافيش)

الفتوة في الأدب السينما

انتبه الأدب لهذا النموذج المجتمعي الجيد الذي يلعب دورا هاما في حياة البسطاء والمهمشين في الأحياء الشعبية، فقد كانت شخصية الفتوة بطلا في العديد من الأعمال الأدبية، ولعل أهمها، كما أشرنا، رواية “الحرافيش” لنجيب محفوظ، والتي اعتبرت مصدرا رئيسا لكثير من الأعمال السينمائية التي تناولت شخصية الفتوة مثل (التوت والنبوت)، وفيلم (الجوع)، و( سعد اليتيم)، تلك الشخصية التي قدمها الفنان أحمد زكي.

 فتوات آخر زمن

لكن في السنوات الأخيرة طرأ تغير مهم وجوهري على مفهوم ومعنى وملامح شخصية الفتوة ليصبح أقرب لشخصية “البلطجي” الشرير، منها إلى البطل  المحبوب النبيل، حيث بات مرادفا للتحلل الأخلاقي، وعدم الالتزام بقوانين المجتمع والدولة، والقدرة على إيذاء الآخرين، وإلحاق الضرر بهم، والتصقت صورة هذا الفتوة بالقوة بعيدا عن الأخلاق.. فتوة “نخنوخ” لا فتوة عاشور الناجي، فبات الفتوة هو من يخافه الناس لشره، لا من يلجأون اليه لمساعدتهم، وبات الفتوات (البلطحية) متشردين منتشرين في الشوارع يبسطون نفوذهم على الطرقات والأرصفة لا أحد يعرف من هم، ولا مصدر القوة التي تضطر البعض لدفع الأتاوات، بل قد نجد من يقوم بتوظيفهم سياسيا من أجل تصفية خصومات سياسية أو لحسابات شخصية. ولعل هذا ما يستوجب توضيح وإجلاء هذ الخلط الذي لحق بمفهوم الفتوة وتنقية صورته الإيجابية الأخلاقية مما علق بها من شوائب لعل ذلك يفلح في الهام أجيال من الشباب ذوي الفتوة لكى ينفعوا مجتمعهم ووطنهم، لا أن يصبحوا عبئا عليه، يتمتعون فقط بقوتهم الجسدية ولكنها قوة بلا أخلاق تحميها من الانحراف، وهي القوة التي قال عنها أرسطو انها فضيلة البهائم وحدها.

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock