رؤى

سؤال أثار جدلا في أمريكا(1-2): هل نحن بحاجة إلى مئذنة لنكون مسلمين؟

كتب: سلطان تيبي، جامعة إلينوي

ترجمة: أحمد بركات

تقر العديد من الدراسات بقدرة الدين المزدوجة على تجاوز أو تعزيز بعض الحدود الاجتماعية والأثنية والجغرافية المتجذرة. ومع ذلك، تركز الدراسات التي تتناول تأثير الإسلام في المجتمعات، على تأثير الإسلام والمسلمين على مدنهم أو مجتمعاتهم المحلية، وتبحث كيف يعزز الإسلام الهويات المشتركة الموجودة مسبقا، وإمكانية دمج هذه الهويات على نحو أفضل. لكن هذه الدراسات تتجاهل في الوقت نفسه، تعدد خبرات المسلمين، وتترك دون إجابة أسئلة تتعلق بتأثير هذه المدن على خبرات المسلمين فيما يتلق طرق الإدارة الحضرية.

 فالطرق المميزة التي تمارَس بها الإدارة الحضرية ليست غريبة على خبرات المسلمين، بل إنها تلعب دورا مهما في حياة المجتمعات  الإسلامية المحلية، وفقا لما أشار اليه كل من أفي أستور وعثمان بلقان في كتابسياسات الإسلام في  أوربا وشمال أمريكا “ The Politics of Islam in Europe and North  America – .في أحد فصول هذا الكتاب والذي جاء تحت عنوان “هل نحن بحاجة إلى مئذنة؟

السياقات الحضرية وتغير المفاهيم الإسلامية

يحاول الباحث سلطان تيبي، من جامعة إلينوي الأمريكية، توضيح تأثير طرق التعامل مع دور العبادة على خبرات المسلمين وهوياتهم. حيث تركز هذه الدراسة على مسألة الخلافات حول بناء مساجد للمسلمين في المجتمعات الغربية، بما يؤدي إلى وضعها في هيكلتها الإدارية الحضرية وتتبع الأسئلة اللاهوتية التي تطرحها.

تظهر المراجعة الشاملة لعدد من الحالات التي تبحثها الدراسة، للخلافات المتعلقة ببناء المساجد، وجلسات الاستماع العامة وما يتبعها من نقاشات، أن تلك الحالات ليست استثنائية أو خاصة بالمجتمع الأمريكي دون غيره، ولكنها تساعد على فهم توجه عام.

 وتبين الدراسة من خلال ما توصلت اليه من نتائج، أن التعامل مع المجتمعات الإسلامية بشكل مجرد، يستوجب مراجعة فكرة أن المعتقدات والممارسات الإسلامية هي ذاتية التطبيق، بمعنى أنها تشكل بيئاتها، دون أن تتأثر بها. كما أن الدراسات المجردة لهذا  الموضوع والتي تفتقر إلى سياق محدد، تخاطر بتصدير أو تقديم سرديات تفتقر إلى العديد من الأوجه المهمة الخاصة بهذا النوع من النقاشات.

قد يبدو بناء أماكن للعبادة، أو ذات طبيعة دينية، عملية روتينية، لكن هذه المحاولات كانت تمثل دائما تحديا جسيما للجماعات الدينية غير التقليدية (الخاصة بالأقليات) في الولايات المتحدة. وفي عام 2000 تم تطبيق قانون فيدرالي جديد يعرف بـ “قانون استخدام الأراضي لأغراض دينية” لمنع تجاوز جماعات دينية على جماعات دينية أخرى. فالجماعات الدينية، خاصة من المسلمين، التي تناضل من أجل أن يكون لها أماكن عبادة خاصة بها، لديها خيارات شراء معبد أو كنيسة خاليين، أو شراء مبنى لإعادة استخدامه كمسجد، وذلك بعد الحصول على “تصريح استخدام خاص”، أو شراء قطعة أرض خالية لإقامة منشآت جديدة عليها. ويفرض كل خيار من هذه الخيارات الثلاثة تحديات مختلفة. فعلى سبيل المثال، غالبا ما توجد المعابد الشاغرة في المناطق ذات الكثافات السكانية المنخفضة، ويمكن أن يمثل الحصول على تصريح خاص صعوبة بالغة بسبب قلة المباني القائمة وعدم توافر مواقف سيارات في هكذا مناطق. أما قطع الأراضي المتاحة للشراء فغالبا ما تقع في مناطق معزولة (يتطلب إنشاء مبنى على هذا النوع من الأراضي إجراءات إدارية خاصة، وفقا للقوانين المعمول بها في الولايات المتحدة) تحتفظ بقدر من الاستقلالية وتخضع مباشرة لإدارة مقاطعاتها.

وتستعرض الدراسة العديد من مشروعات المساجد في شيكاغو من خلال التركيز على مشروع “مسجد مكة”، بضاحية دوبيدج، في شيكاغو، إلينوي، والذي يقع في منطقة معزولة بالقرب من قرية ويلوبروك. حيث تقدم هذه الحالة نموذجا ممتازا لهذه القضية برمتها وتأثيرها على المجتمعات الإسلامية المتنوعة، كما تعكس نمطا من التخطيط المعماري الذي كان ينظر إليه في دول مثل إسبانيا، كوسيلة لدفع الأماكن الدينية الجديدة التي يبنيها المهاجرون، إلى خارج المناطق السكنية،  كما أن هذه الحالة  تسلط الضوء على النقاشات الدائرة  داخل تلك المجتمعات بشأن هذا الأمر.

مشروع “مسجد مكة

 قوبل طلب بناء “مسجد مكة” بالرفض من قبل المسئولين في مقاطعة “دوبيدج ” حيث أشار بعضهم إلى أن المنطقة “مكتظة بالمؤسسات الدينية”، وأن المناطق النائية التي تقع في أطراف المقاطعة تهدف بالأساس إلى المحافظة على ما تبقى من طابع ريفي في أطراف البيئات الحضرية، ومن ثم، فإن هذا النوع من المشروعات الإنشائية يمثل تهديدا سافرا لتطلعات سكان المقاطعة.

ويردد المعارضون لمشروع إنشاء “مسجد مكة” بوجه عام نفس الأسباب التي عادة ما تتردد في هكذا حالات، مثل الشكوك المتعلقة بالأعداد الدقيقة لمستخدمي المنشأة، والاختناق المروري المتوقع خاصة في أوقات صلاة الجمعة والمناسبات الدينية، وتراجع قيمة العقارات في المناطق المجاورة، واحتمالات التدفق المتزايد على المنطقة وما قد ينجم عنه من مشكلات تتعلق بمرفقي المياه والصرف الصحي.

لكن هذه الاعتراضات لم تصمد طويلا أمام التدقيق الأولي. فبغض النظر عن الإشارة إلى “تخمة المؤسسات الدينية التي تعاني منها المنطقة”، فقد شهدت قرية “ويلوبروك” تراجعا مطردا في تعداد سكانها منذ عام 2010؛ رغم ذلك، احتفظت بمتوسط دخل يقدر بــ 70000 دولار، ومعدل قيمة عقارية للمنزل تقدر بـ 227000 دولار، ومعدلات مواليد أجانب بنسبة 25% لتفوق بذلك المعدل الإجمالي في ولاية إلينوي بأكملها الذي يبلغ 13% فقط. وتضمنت دور العبادة القريبة من “مسجد مكة” كنيسة مقدونية أرثوذوكسية، ومركز “أنجومين سيفي”، ومركز “باودي بوهرا” (وهي جماعة إسلامية صغيرة غير معروفة تضم أعضاء من جنوب آسيا وأثيوبيا)، ومركز “وات بوذاداما” البوذي.

في الوقت نفسه، واجه طلب آخر ببناء مركز آخر – المركز الإسلامي للأحياء الغربية (ICWS)، الذي حاول استخدام منزل قائم فعليا بالقرب من غرب شيكاغو كمركز للصلاة بدلا من بناء مركز جديد – قائمة الاعتراضات ذاتها. وبرغم أن المخاوف بشأن الهويات الإسلامية في كلتا الحالتين لعبت دورا أساسيا وبارزا في هذا الرفض، إلا أن البيانات العامة المناوئة لتحويل منزل إلى مركز إسلامي أكدت أن المسألة تتعلق بالأساس بحق حماية الملكية الخاصة، والزيادة المحتملة في الضرائب العقارية لحل مشكلات البنية التحتية الناجمة عن زيادة المنشآت غير الربحية التي تحول المنازل الخاصة إلى منشآت متعددة الاستخدامات.

رغم ذلك، تبقى حالة مشروع “مسجد مكة” استثنائية لأسباب أخرى تتعلق بما أطلق عليه “الجزء المرئي” من المشروع. فقد تضمن تصميم الهيكل المعماري للمسجد قبة بطول 69 قدما ومئذنة بطول 79 قدما، متجاوزا بذلك الحدود القصوى للارتفاعات المسموح بها داخل المقاطعة التي تقدر بـ 36 قدما، والتي غالبا ما كان يتم التنازل عنها في الحالات الخاصة ببناء دور عبادة أو منشآت دينية من أي نوع.

لكن ما يهم ليس فقط ردود فعل المجتمع المحلي على بناء مئذنة باعتبارها “منظرا غير مقبول”، وإنما أيضا ردود فعل لجالية المسلمة بالمنطقة في الدفاع عن المئذنة. فقد اعتبر المتقدمون بمشروع بناء المسجد أن القبة والمئذنة تمثلان شروطا لا غنى عنها لمكان يختص بصلاة المسلمين، وأكدوا ضرورة أن يشملهما التصريح؛ فبناء مسجد بغير مئذنة – من وجهة نظرهم – لا يختلف بحال عن بناء كنيسة بدون برج. كما أكد مؤيدو بناء المسجد أن شرط الارتفاع هو مجرد قناع لرفض بناء المسجد يتستر خلفه رفض صريح وأهم  للحضور الإسلامي المتزايد في المنطقة. على إثر ذلك، تحولت المئذنة فجأة إلى رمز مفعم بالدلالات، وأثارت جدلا محتدما عن حضور الرموز الإسلامية بوجه عام خاصة بين سكان الضواحي الذين أكدوا أن هذه الأماكن النائية تحتاج إلى المحافظة على نمط الحياة الريفية الذي لا يخلو من أماكن دينية مألوفة (لا تمثل الأقليات الدينية).

 وهكذا تحولت القضية عند ’مؤيدي المئذنة‘ إلى موقف ل ينطوي على عنصرية دينية، ومقاربة المسجد باعتباره منظرا شاذا في سياق بيئة ريفية تقليدية، خاصة أن يقع  بجوار هذا المسجد م مبنيان، من بين ثلاثة مبان دينية، يتجاوز ارتفاعهما 36 قدما، وهو – كما أشرنا سلفا – الحد الأقصى المسموح به للارتفاع في الولاية، والذي يُطالب المسجد وحده دون غيره من دور العبادة بالامتثال له.

ربما تأثرت ردود فعل المجتمع المحلي والمسئولين في مقاطعة “دوبيدج” أيضا بالزيادة المطردة في أعداد التصاريح التي طالبت الجاليات المسلمة مؤخرا بالحصول عليها لبناء دور عبادة، فقد تلقى المسئولون في المقاطعة خمسة طلبات من الجاليات المسلمة في الفترة من 2009 إلى 2014 (بمعدل طلب في كل عام)، محققين بذلك رقما غير مسبوق في تاريخهم.

وبينما تتطلب قرارات تقسيم المناطق ومنح التصاريح في كثير من الأحيان إجراءات مطولة تتخللها مناقشات حادة وقرارات سلبية، إلا أنها لا تزال تقدم مساحة مفيدة للتعبير عن المخاوف. فقد أعادت مقاطعة” دوبيدج” إحياء قوانينها القديمة الخاصة بالحد من إنشاء مبان جديدة للعبادة في الضواحي البعيدة، ونقل جميع دور العبادة الجديدة إلى المناطق التجارية أو الصناعية، وهو ما يمثل توجها سائدا في كثير من المدن الأمريكية في الآونة الأخيرة. ويقدم المدافعون عن مشروع نقل أماكن العبادة إلى خارج المناطق السكنية هذا المقترح كحل تفرضه قواعد السوق، وذلك بسبب التأثيرات المالية السلبية التي تمخضت عن وجود دور العبادة الجديدة داخل الحزام السكني.

 قد تبرر لغة السوق تغيير تقسيم المناطق، حيث يقدم مؤيدو هذا التقسيم باعتباره قرارا عقاريا بامتياز، حيث يمثل الكاثوليك – وليس المسلمين – أعلى مستوى زيادة بين الوافدين الجدد في كثير من المدن (أكثر من 500%)، وذلك بسبب معدلات الهجرة المرتفعة القادمة من أمريكا اللاتينية. لكنهم في الوقت نفسه يغضون عن عمد، الطرف عن توافر أعداد كبيرة من الكنائس التي يمكن أن تفي باحتياجات هذا التدفق الكاثوليكي الكاسح، في حين يوجد نقص كبير في دور العبادة الإسلامية في كثير من المناطق.

مسجد دار السلام.. مقارنة منهجية

يمكن أن تكون مقارنة تجربة مشروع “مسجد مكة” بمشروع مسجد حديث آخر في المنطقة نفسها مفيدة للبحث الأكاديمي في هذه القضية. فقد التزم “مسجد دار السلام” منذ بداياته الأولى بالمسار النموذجي الذي تحدده المقاطعة لإقامة دور العبادة ،بعيدا عن عيون وآذان مجتمعات الأحياء السكنية. ولذلك تم بناء المسجد بسلام في عام 2013، وكان يقع على الطريق السريع بين الولايات، وفي الحزام التجاري والصناعي المحاط بسلسلة مطاعم وجبات سريعة ومحطات بنزين ومخازن وعدد من المصانع والفنادق.

 وبينما جسّد هذا المسجد نموذج “دور العبادة المنقولة إلى مناطق تجارية / صناعية”، فقد أثبت تميزا واضحا في ردة فعل القائمين عليه، على فكرة التهميش الحضري، مما يجسد تكلفة اقتلاع المساجد من الأحياء السكنية، وخطر استنزاف رأس المال المدني الروحي بها، وهو رأس المال الذي يعرًف في كثير من الأحيان على أنه مجموعة الأفكار والإجراءات التي تنبع من الدين وتتاح للاستخدام في الممارسات الاقتصادية والسياسية الشاملة” (بيرجر وريدينج 2001).

فعلى عكس المساجد الأخرى، يلتزم مسجد “دار السلام” بتعيين الأئمة الذين ولدوا وترعرعوا في الولايات المتحدة  فقط، ويعلن في لائحته الداخلية: “لقد حان الوقت لتنشئة موجة جديدة من المسلمين المتعلمين الذين ولدوا وترعرعوا وتعلموا في الولايات المتحدة، للاشتباك بعمق مع القضايا الشرعية والاجتماعية الإسلامية والتحديات الخاصة بالسياق الأمريكي”.

وعلى سبيل المفارقة، بينما ينفصل مسجد “دار السلام” مكانيا‘ عن الأحياء السكنية والمجتمعات العمرانية، فإن الدروس والمواعظ الدينية التي يحرص على تقديمها تلبي بعمق الاحتياجات الخاصة للجاليات المختلفة في الولايات المتحدة، وتعالج القضايا الجدلية الشائكة، مثل إمكانية تطبيق الإسلام بشكل أفضل في ظل دولة إسلامية، أو إذا كان بإمكان جماعة مسلمة أن تهتم فقط بقضاياها  الخاصة (القضية الفلسطينية، على سبيل المثال)، أو ما إذا كان الاهتمام بهكذا  قضايا يفضي بهم في نهاية المطاف إلى إهمال قضايا إسلامية أخرى (مثل المذابح التي ترتكب ضد مسلمي الروهينجا).

إن التصدي لقضايا الراديكالية أو لموضوعات عرقية محددة يمثل بلا شك أهمية خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن هذه القضايا تترك بغير معالجة حقيقية وعميقة في كثير من المساجد، بسبب جهودها لتظل أماكن محايدة وغير مسيسة على الإطلاق، وبذلك يتقلص رأس مالها الروحاني، ويُحال بينها وبين المساهمة في قضايا مجتمعاتها المدنية، كما يشير “أوبري ويستفول” في كتاب The Politics of Islam in Europe and North America.

تمثيل الإسلام – التأصيل المعكوس

تلقي تجربة “مسجد مكة الضوء على أنماط تاريخية أوسع لكيفية استغلال تقسيم المناطق والحصول على تصاريح بالاستخدام الخاص،  للتحكم في المناطق الحضرية والأقليات التي تعيش داخل تلك المناطق. وقد تحدثت حركة “أمة الإسلام” (The Nation of Islam) –، وهي حركة سياسية اجتماعية للأمريكيين من أصول أفريقية – عن تأثير قرارات تقسيم المناطق على مشروعاتها منذ عام 1968. ومع ذلك، فإن أكثر ما يتم التغاضي عنه في روايات كثيرة تتعلق بما يسمى بـ “النزاعات حول المساجد” هو تأثير هذه المناقشات على المجتمعات المحلية نفسها. ففي الغالب، تثير القضايا المرتبطة بتقسيم المناطق الكثير من الاسئلة الدينية داخل هذه المجتمعات. وبينما ناقشت المقاطعة الحدود القصوى المسموح بها لارتفاعات المباني، أثيرت القضية نفسها في نقاشات داخل المجتمع المحلي. وفي ضوء تنوع تصميمات المساجد، تثار تساؤلات في الأوساط الإسلامية الأمريكية حول الشكل التقليدي للمسجد في المعمار الإسلامي، وما إذا كانت المئذنة تمثل جزءا لا يتجزأ ولا يمكن الاستغناء عنه من المسجد، أم تراها كانت ضرورة عند بناء المسجد الأول فقط؟، وما قيمة المئذنة في ظل عدم وجود آذان للصلاة، ونظرا لأن المئذنة كانت تهدف بالأساس إلى توفير بناء مرتفع لضمان وصول صوت الآذان إلى أقصى عدد ممكن من المسلمين، فهل يمكن ببساطة الاستغناء عن هذا البناء في الوقت الذي يمتلك فيه كثيرون هواتف محمولة تذكرهم بمواقيت الصلاة؟

وبرغم المساحة الكبيرة التي تستغرقها النقاشات في المجتمعات المحلية بشأن تعديلات القوانين الخاصة بالمنشآت، إلا أنها تتم في صمت مطبق، وتجري في هدوء تام بين أعضاء تلك المجتمعات، في محاولة منهم للتوصل إلى صيغة توازن بين متطلبات توفير مكان، يجده المجتمع المحلي مناسبا ومقبولا من ناحية ، ويفي بالشروط والمتطلبات التي تفرضها المقاطعة من ناحية أخرى.

وقد فسر أحد أوائل السوريين الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة هذا النقاش باعتباره “تأصيل معكوس للإسلام”؛ فما كان يعتبر تمثيلا رمزيا “تقليديا” للمسلمين قد تم تعديله من قبل المسلمين وفقا لمقتضيات إدراك الآخرين لهم، دون الاشتباك بصورة نقدية عميقة مع الأفكار الإسلامية الأصيلة والموثقة. لقد كانت المئذنة تؤدي وظيفة (توسيع الرقعة التي يغطيها صوت المؤذن كتذكرة بحلول وقت الصلاة)، لكنها لم تكن بحال ركنا من أركان الإسلام؛ ولم يعد ثم حاجة إليها اليوم بسبب انتشار الساعات والهواتف المحمولة التي تفي بهذا الغرض.

إن القرارات السطحية لتأكيد الهوية الإسلامية، كبناء المآذن التي تناطح السحاب، هي فقط التي ستؤدي في نهاية المطاف إلى تسطيح الممارسة الإسلامية، وتحويلها إلى عمل أجوف خال من المعنى. ويبقى المجتمع المسلم في الولايات المتحدة وفي كافة المجتمعات التي يقدم فيها الإسلام نفسه باعتباره وافدا جديدا في حاجة ماسة إلى الاشتباك الواعي والعميق مع ما يسمى بقضايا التراث الإسلامي. لقد شعر البعض بأنه بسبب الارتباط العضوي الدائم في الذاكرة الجمعية الإسلامية بين المآذن والمساجد، فإن إلغاء وجود المئذنة من شأنه أن يساير ويمتثل لرغبة الأغلبية في تعزيز نسخة إسلامية غير مثقلة بأحمال الرمزية التي تحظى عادة بقبول عام. وبغض النظر عن النقاشات والجدل، فقد تم بناء المركز”مسجد مكة” في نهاية المطاف بدون مئذنة وتضمن موقعه الإلكتروني المتطور والواعي تصميمات المشروع الأصلي دون أي شروح أو تعليقات على إلغاء المئذنة. وفي الوقت نفسه، ركزت رسائل المسجد وخطبه ودروسه الأولى على المعاني والتأثيرات الأكثر عمقا للإسلاموفوبيا، التي قد لا تعني الكثير لهؤلاء الذين لا يعرفون تاريخ المكان.

يمكن الاطلاع على النص الأصلي للدراسة باللغة الإنجليزية من هنا?

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock