قال الراكب الواقف بجوار شباك القطار للمحصل: لم أتمكن من قطع تذكرة من الشباك، لحقت القطار بالكاد، يمكنني دفع ثمنها الآن. قال المحصل باقتضاب: ثمن التذكرة مضافا إليها الغرامة تسعة جنيهات، الإجمالي كله تسعة جنيهات. أخرج الراكب من جيبه عشرة جنيهات وأعطاها للمحصل، الذي أخذها ولم يعطه التذكرة قائلا بضيق: قلت لك تسعة جنيهات. قال الراكب بدهشة: أعطيتك عشرة جنيهات.. قال المحصل: أعلم ذلك، لكنى أريد تسعة جنيهات.. ابتسم الراكب محاولا إنهاء المشكلة البسيطة – في نظره- قائلا: تقصد ليس معك فكة؟.. لست أريد الجنيه الباقى ياسيدي…
قطب المحصل جبينه وقال بنبرة حادة لاتخلو من دهشة: أي باق لك؟.. أنا أريد تسعة جنيهات وأنت أعطيتني عشرة فعن أي باق تتحدث؟! وأردف مستنكرا: هيئتك تدل على أنك متعلم لكن لسان حالك يقول عكس ذلك!.. أكرر للمرة الأخيرة: أريد منك تسعة جنيهات، ثم التفت إلينا نحن ركاب القطار لننقذه من غباء الراكب قائلا: أي حد يفهمه ياجماعة.. مازالت أمامي بقية عربات القطار ..
علت الدهشة وجه الراكب وضرب كفا بكف وتطلع إلينا لننقذه من غباء المحصل.. نهره الركاب المتابعون للموقف، قال أحدهم : لا تضيع وقت المحصل ولا تتعبنا يا أخي، كفاية الحر والزحمة!، بينما قال آخر بهدوء: هل أنت غبي أم تتغابى؟! ثم عدل من وضع نضارته الطبية فوق أرنبة أنفه قبل أن يواصل قائلا للراكب المسكين: أي باق لك، أنت لم تدفع المطلوب منك بالأساس، لقد أعطيته عشرة جنيهات وهو يريد تسعة، وهز رأسه مستنكرا قائلا: دي مسألة عاوزة ذكاء يا أخي؟!…
أطرق الراكب المسكين بعد أن تسرب الشك إلى نفسه وأعاد الحسبة من جديد ليتدارك الأمر، وبعد برهة هز رأسه في يأس وكاد يبكي، نعم لمحت عينيه تلمعان بالدموع زم شفتيه.. كز أسنانه.. اتسعت عيناه فيما كانت أنفاسه تتلاحق، كان المحصل مازال واقفا ببذلته الزرقاء الميري، كاظما غيظه هو الآخر، راح ينفر في ضيق آمرا الراكب بأن يدفع ثمن التذكرة كاملا وفورا، أو أن ينزل فى المحطة القادمة.
لم يرد عليه الراكب، بل أقدم فجأة على حركة استعراضية بأن اعتلى شباك القطار خلفه، وقفز إلى مكان وضع الحقائب عارضا المشكلة بهدوء مفتعل على ركاب القطار محتكما إلى عقولهم.
تصاعدت أصوات الركاب متهمين هذا الراكب بالغباء وتحولت عربات القطار الى كتلة موحدة من الضجيج المنظم.. انفرط الراكب على أرض القطار مدهوشا يحمل تعبيرات وجه جامدة..
كنت واقفا أتابع المشكلة منذ بدايتها، بعد أن فشلت في الحصول على مقعد.. تطلع الراكب إلي مستغيثا، ولست أدرى لماذا توسم فى الغوث بعد أن خذله جميع ركاب القطار.. اقتربت منه هامسا بجدية: إن لم يكن معك باق أكمل لك وتنتهي المشكلة.. جحظ الرجل عينيه في وجهي، وفغر فاه عن آخره مستنكرا رد فعلي.. أخرج لي حافظة نقوده وقد كانت عامرة بالنقود..
نظر الرجل إلينا جميعا بريبة وصدمة، وفى حركة مباغتة، وبينما كان القطار يهدىء من سرعته للمحطة التالية، قفز من الشباك المجاور له!