كانت الخطوة الجريئة التى اتخذها على عبد الرازق – العالم الأزهرى والقاضى الشرعى وعضو حزب الأحرار الدستوريين – فى كتابه “الإسلام وأصول الحكم” أبعد مدى مما قاله الإمام محمد عبده حول الدولة الإسلامية التى لا تعرف “الثيوقراطية” ولا تقرها، ولا سلطان فيها لفقيه على عقائد الآخرين. وقد ترجم ذلك عمليا عند تأسيس الحزب الذى قبل فيه جميع المصريين على اختلاف عقائدهم محققا – فى ذلك الوقت المبكر – مبدأ المواطنة والمساواة، ولم ير مشكلة أو عيبا فى كل ذلك. وكأنه – بذلك – يقدم حصانة “إسلامية” ضد تسرب الفكر العلمانى إلى مصر الذى نادى به فرح أنطون مستهديا بالتجربة الفرنسية تحديدا فى فصل الدين عن الدولة.
فرح أنطون
ضد استبداد الملك
فى هذا السياق يمكن النظر إلى النقلة النوعية / الجذرية التى قام بها على عبد الرازق الذى كانت بعثته – وهو الحاصل على عالمية الأزهر – إلى انجلترا ذات أثر واضح فى رؤيته لعلاقة الدين بالدولة. فكتابه “الإسلام وأصول الحكم“، ليس فقط كتابا فكريا يناقش قضية لا تزال إشكالية، ولا هو مجرد امتداد للسجال الذى دار بين محمد عبده وفرح أنطون، بل كان أقرب إلى البيان العلمي السياسى الموجه ضد استبداد الملك فؤاد، الذى عطّل العمل بدستور 1923، وجعل من حقه إلغاء البرلمان، وهو ما قام به – بالفعل – حين ألغى برلمان 12مارس 1925 في يوم افتتاحه ( 23مارس 1925) بسبب ماحققه الوفد من أغلبية ساحقة رغم الحصار والتزوير.
كانت جمعية الاتحاد والترقى في تركيا بتوجهاتها الوطنية من العوامل التى مهدت لما قام به كمال أتاتورك من إلغاء للخلافة ووزارة الأوقاف والقضاء الشرعى، وطرد الخليفة وأسرته وإعلان الجمهورية العلمانية، وهكذا وجد العالم الإسلامي نفسه بعد ما يزيد على 1300عام بلا خليفة، الأمر الذى جعل منصب الخلافة يداعب خيال العديد من الملوك، وكان عرش مصر أهم العروش التى توجهت الأنظار إليها، وسرعان ما تم التحالف بين “الأوتوقراطية” الملكية المستبدة و”الثيوقراطية” الدينية ممثلة في بعض علماء الأزهر، ولم يكن غريبا أن تدعم إنجلترا هذا التوجه رغبة، على ما يبدو في إقامة “خلافة” تابعة لها.
كمال أتاتورك
الإسلام دين لا دولة
المقولة الأساسية التى بنى عليها على عبد الرازق أطروحته هى أن الإسلام دين لا دولة، وأن سلطة الرسول (صلى الله عليه سلم) على المسلمين كانت سلطة “روحية”، وأن الإسلام لم يحدد نظاما سياسيا ملزما للمسلمين، بل ترك هذا لاجتهادهم باعتباره من شئون الدنيا المتغيرة المتطورة، وأن على المسلمين – كأمة من الأمم – أن يلتمسوا لسياستهم الحكومة الصالحة بمعايير العقل والمصلحة والتجريب، دون أن يقيموا وزنا لدعوة القائلين بحكومة “إسلامية” ومن يتصورون أن هذه الحكومة هى نظام الخلافة بالحق والتحديد”.
بهذه الكلمات الواضحة ينفى عبد الرزاق القداسة المزعومة للخلافة التي يتم التعامل معها بوصفها ركنا من أركان الإسلام – كما يرى ويعتقد كثيرون بدءا من الشيخ محمد الخضر حسين صاحب كتاب “نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم” الذى اعترض فيه على إنكار نظرية الخلافة وأن الإسلام دين لادولة ورأى أن الخلافة من “دعائم النظام السياسى فى الإسلام”، وصولا إلى الطاهر بن عاشور (الفقيه التونسى) صاحب كتاب “نقد علمى لكتاب الإسلام وأصول الحكم”، الذى أوجب ضرورة وجود الخلافة والتمسك بها لأنها “خلافة شخص عن صاحب الرسالة فى إقامة الشرع وحفظ الملة على وجه يوجب إتباعها على كافة الناس”.
محمد الخضر حسين وكتابه “نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم”
ولم ينقطع هذا الاعتقاد إلى الآن وهو ما أعلنه المرشد العام لجماعة للإخوان محمد بديع بعد وصولهم للسلطة حين قال “نحن نسعى لإحياء الخلافة الإسلامية ..وتحقيقها بات قريبا” تأسيا بما قاله حسن البنا فى رسالته إلى المؤتمر الخامس: “الإخوان المسلمون يجعلون فكرة الخلافة والعمل على إعادتها على رأس منهاجهم ،وهم فى هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التى لابد منها”.
ولعل في ذلك ما يوضح مدى شجاعة الشيخ على عبد الرازق في نقضه لهذا المفهوم من أساسه، متحديا علماء الأزهر الذين ثارت ثائرتهم، في حينه، ضد الكتاب وصاحبه، ومتحديا رغبة الملك في أن يكون الخليفة المنتظر، وكاد يصرح بهذا التحدى حين يقول فى مقدمة الكتاب “لله وحده القوة والعزة وما سواه من الملوك ضعيف ذليل”
الطاهر بن عاشور وكتابه “نقد علمى لكتاب الإسلام وأصول الحكم”
بين توماس هوبز وجون لوك
يؤكد عبد الرازق في كتابه أن الشعب هو صاحب الإرادة الوحيد فى اختيار نوعية الحكومة التى يريدها، وهو معنى مرادف لما نقوله الآن: “إن الشعب مصدر السلطات” وهي نقلة جذرية من “الحكم بالحق الإلهى” إلى “الحكم بالعقد الاجتماعى“. وفي هذا لم يُخف عبد الرازق تأثره بالفكر الغربي، ومن هنا تأتى إشاراته – فى نهاية الكتاب – إلى إثنين من مفكرى الغرب على طرفى نقيض هما توماس هوبز الذى دعا إلى قداسة الملك والحكم الثيوقراطى.. وجون لوك الذى يعد من مؤسسى الدولة المدنية.
على أن أهم ما فى هذا الكتاب هو أنه لايقر مايسمى بالحكومة الإسلامية التى رددها محمد عبده كثيرا مؤكدا التمييز بينها وبين الثيوقراطية. حيث يتجاوز على عبد الرازق هذه الرؤية. فرغم كثرة ما ذكر من أنواع الحكومات، لم يذكر مصطلح الحكومة الإسلامية حين يقول “إن المسلمين إذا اعتبرناهم جماعة منفصلين وحدهم، كانوا كغيرهم من أمم العالم كله محتاجين إلى حكومة تضبط أمورهم وترعى شؤونهم – فى أي صورة كانت الحكومة ومن أي نوع-: مطلقة أو مقيدة، فردية أو جمهورية، استبدادية أو شورية أو ديمقراطية أو اشتراكية أو بلشفية”.
ومن المهم أن نقارن بين تحديده لمهمة الحكومة – أيا كان نوعها – فى أنها “تضبط أمور المسلمين وترعى شؤونهم“ وقول الطاهر بن عاشور إن مهمتها تتمثل فى”إقامة الشرع وحفظ الملة“، ولنا أن نتخيل ما يمكن أن يحدث باسم “إقامة الشرع وحفظ الملة“، فتصبح كل معارضة كفرا وكل رأى مخالف مروقا عن الملة، مما يستلزم العقاب الذى يصل إلى حد القتل باعتبار أن “حرمة الدين مقدمة على حرمة النفس” كما يرى السلفيون ودعاة الدولة الإسلامية وهذا ماحدث كثيرا على مدار تاريخ المسلمين – لا تاريخ الإسلام لأنه برئ من هذا – وذلك لأن الخليفة عندهم كان “يقوم فى منصبه مقام الرسول، له عليهم الولاية العامة والطاعة التامة والسلطان الشامل” وهو ما يستند عليه السلفيون الآن في تحريم الإضرابات السلمية – ناهيك عن الثورات – ويعتبرون ذلك خروجا على الدين الذى يوجب السمع ا والطاعة للحاكم.
ومن هنا تأتى أهمية الرجوع إلى هذا الكتاب –الإسلام وأصول الحكم- دائما ليس باعتباره “إنجيل العلمانيين” كما قال الدكتور محمد عمارة ساخرا، بل لأنه فند هذه الأفكار المغلوطة المتوارثة التي رفع أصحابها الخليفة” فوق جنس البشر، ووضعوه في منزلة شبه مقدسة، حيث “يستمد سلطانه من سلطان الله وقوته من قوته”
الدكتور محمد عمارة