مكتبة الإسكندرية.. كانت حلما جميلا تحقق.. حين اكتمل بناؤها وتم افتتاحها فى أكتوبر عام 2002، كان هذا الحدث بالنسبة لمثقفي مصر ومبدعيها بشكل عام، ولمبدعي الاسكندرية على وجه الخصوص، خبرا مبهجا. فافتتاح هذا الصرح الثقافي مثَل إضافة قوية للمشهد الثقافي المصري.
والاّن وبعد مرور كل هذه السنوات على افتتاح المكتبة هل نجحت تلك المؤسسة الثقافية العملاقة، بما أُتيح لها من إمكانات، في أن تلعب دورا في الحياة الثقافية والمجتمع المصري بشكل عام، وفي المجتمع السكندري بشكل خاص.. وهل فتحت المكتبة نافذتها على مثقفى ومبدعى الاسكندرية باعتبارهم الأقرب مكانيا لها؟
يجيب على هذا التساؤل الروائي والناقد، ومؤسس ومدير مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية، منير عتيبة، بقوله: “في البداية لابد أن أشير إلى أنه كانت هناك حالة من العزلة بين المكتبة ومثقفي الإسكندرية، حيث كانت العلاقة “شبه عدائية، المكتبة كانت تتجاهل مثقفي عروس البحر المتوسط، وهم بدورهم كانوا يبتعدون عنها ويهاجمونها، إلى أن جاءت فكرة تأسيس “مختبر السرديات“، ضمن عدد أخر من الفعاليات والأنشطة الثقافية، التي هدفت بالأساس إلى تفعيل دور المكتبة الثقافي، في المجتمع السكندري، فبات هذا المختبر بمثابة الجسر الذي يربط بين المكتبة ومثقفي ومبدعي الإسكندرية.
منير عتيبة
تقوم فلسفة “مختبر السرديات”، الذي بدأ أعماله منذ أكثر من ثماني سنوات، على الدمج بين التناول الأكاديمي للأعمال الأدبية ذات الطابع السردي، وبين التناول الحر، حيث يحرص المختبر على المعايير الأكاديمية، مع عدم التقيد بالدخول في كافة التفاصيل الخاصة بمناهج وأدوات النقد الأدبي الأكاديمية، والتي تهم النقاد والدارسين المتخصصين.
اهتمام خاص بالمبدعين الشبان
ويوضح “منير عتيبة“ أن المختبر الذي يعقد كل ثلاثاء بمكتبة الإسكندرية، يقدم جانبا تعليميا للمبدعين الشباب الذين يتاح لهم عرض أعمالهم الإبداعية، سواء تم طبعها أم كانت مجرد مخطوطة تحت الطبع، حيث يناقش تلك الأعمال، نقاد من أجيال مختلفة، مع الحرص على أن تتاح لهؤلاء النقاد فترة زمنية كافية، لقراءة هذه الأعمال الابداعية جيدا، وتقديم ما يشبه الدراسة النقدية لها.
ولا يقتصر الأمر على عرض الأعمال الإبداعية فقط، لكن المختبر يتيح للمبدعين الشباب أيضا، فرصة الالتحاق بالعديد من الورش التدريبية، التي تهتم بالأساس بتطوير مهارات هؤلاء المبدعين، حيث نظّم المختبر عددا من الورش في مجال تطوير مهارات اللغة العربية، والإلقاء، ومهارات الكتابة الإبداعية، في مجال كتابة السيناريو، وكتابة الرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، إلى جانب ورش النقد وأساسيات الأدب المقارن، إلى جانب تنظيم عدد من المسابقات في الرواية والقصة القصيرة، والنقد الأدبي.
تجارب واعدة
من ناحيتهاتروي الأديبة الشابة “سارة إيهاب“، البالغة من العمر خمسة وعشرين عاما، والتي تخرجت من كلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، تجربتها مع “مختبر السرديات”، فتقول إنها تهوى الكتابة وخاصة في مجال القصة ومسرح الأطفال. وقد بدأت علاقتها بالمختبر منذ عامين، حيث قامت بتقديم واحدة من قصصها التي كانت مجرد مخطوطة، وحين أثنى الحضور عليها، تمكنت بمساعدة أحد المشاركين بالمختبر من نشرها بإحدى الصحف. وتضيف أنها قامت بنشر عدد اّخر من القصص بصحيفة اُخرى، وأنها استفادت كثيرا من الورش التدريبية التي ينظمها المختبر وخاصة ورشة اللغة العربية، وورشة الإلقاء.
سارة إيهاب
أما نهى نبيل عاصم، – وهى أديبة تهوى كتابة القصص الرومانسية- فتقول إن علاقتها بمختبر السرديات التي بدأت منذ عام، منحتها نوعا من الثقافة النقدية، حيث أن المختبر قد أتاح لها فرصة الاستماع إلى العديد من النقاد، وهو ما أكسبها خبرة بمجال النقد، انعكست على كتاباتها التالية -على حد قولها-.
نهى نبيل عاصم
تنوع
التنوع الشديد للمشاركين بمختبر السرديات، هو السمة الأساسية التي يتميز بها المختبر، وهنا تشير الأديبة سالمة المغربي – وهى سيدة أزهرية “منقبة”- نُشرت لها مجموعتان قصصيتان، إلى جانب ديوان شعر وخواطر، إلى تجربتها مع المختبر بقولها: “أنا أشارك في المختبر وأناقش برؤية نقدية أعمالا كثيرة وأرصد ما أراه “مزالق” قد يقع فيها المؤلف في عمله، والجميع هنا يتقبل نقدي لأعمالهم، ويتعاملون معي بمحبة شديدة”.
الأديبة سالمة المغربي
الأديب السكندري أحمد قاصد كريم، يروي تجربة عرضه لثلاثة مخطوطات لمسرحيات من تأليفه، حيث قام مشاركون في المختبر بتقديم رؤية نقدية لتلك الأعمال من حيث اللغة المستخدمة، أو من حيث فنيات المسرح والسرد الدرامي، ويشير إلى أن هذه المناقشة كانت مفيدة بالنسبة له، إلا أنها لم تجعله يغير شيئا من عمله.
الأديب السكندري أحمد قاصد كريم
أما الشاعرة السكندرية “سوزان إبراهيم“، فتؤكد على أن علاقتها بمختبر السرديات تعود لسنوات عدة، وأن هذه العلاقة الممتدة جعلتها تفكر في الانتقال إلى كتابة القصة القصيرة، حتى أنها كتبت عددا من القصص القصيرة، إلا أنها لم تُقْدم بعد على نشرها.
المشاركة بمختبر السرديات، لا تقتصر على المثقفين والمبدعين فقط، حيث يشير هاشم أحمد على (موظف بالمعاش)، إلى أنه يحضر جلسات مختبر السرديات منذ أشهر، وأن هذا ساعده على أن يجعل من القراءة المنتظمة عادة محببة لنفسه في وقت فراغه، بعد أن أصبح بلا عمل.
مصر المبدعة
التساؤل المطروح الآن، هل يقتصر مختبر السرديات الذي يُعقد بمكتبة الإسكندرية، على تلك الأنشطة التي تهتم بمبدعي الأسكندرية فقط؟.. يجيب هنا منير عتيبه، بأن المختبر قام بتنظيم عدد من المؤتمرات الأدبية، التي شارك فيها أدباء ونقاد من مختلف محافظات مصر وليس الإسكندرية فقط، إلى جانب أدباء ونقاد من عشر دول عربية مختلفة. وبنهاية 2018، أصدر المختبر مجلدا يضم كافة الدراسات النقدية التي تم عرضها ضمن فعالياته خلال عام 2015، لنقاد من مختلف الأجيال، من محافظات مصر، إلى جانب نقاد من بلدان عربية مختلفة.
كما يضم المختبر مشروعا اّخر تحت اسم “مصر المبدعة“، يشارك فيه مبدعون من عدد من المحافظات تحت سن الأربعين، حيث يتاح لهم عرض أعمالهم الإبداعية ومناقشتها بالمختبر. يضيف عتيبة أن لمختبر السرديات فرعا آخر بالقاهرة، يعقد جلساته يوم الأربعاء (الرابع من كل شهر)، في بيت السناري، تحت إشراف مكتبة الاسكندرية، و تنقسم فعاليات هذا اليوم إلى قسمين، الأول عبارة عن جلسة يشارك بها عدد من البنات والأولاد المحبون للكتابة، والذين في حاجة إلى من يقرأ أعمالهم ويرشدهم إلى طريقة تطويرها، أما القسم الثاني فهو عبارة عن ندوة عامة لمناقشة كتاب ما.
وللحضور العربى نصيب
مختبر السرديات لم يقصر نشاطه على المبدعين المصريين فقط، لكنه أولى كذلك اهتماما خاصا بمبدعي العالم العربي، حيث أطلق المختبر مشروعا تحت عنوان “ملامح السرد العربي في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين” ويهدف إلى رصد ملامح السرد العربي من عام 2000 إلى عام 2010، بعدد من البلدان العربية. وقد تم الاتفاق مع عدد من الباحثين، من عشر دول عربية مختلفة، بواقع باحث من كل دولة، لدراسة ملامح السرد العربي في مجال القصة والرواية، ومن ثم سيتم نشر تلك الدراسات في مجلد واحد بعد جمعها. ويهدف هذا المشروع إلى خلق حالة من التواصل بين المبدعين والنقاد، في البلدان العربية المختلفة، إلى جانب إتاحة الفرصة أمام الباحثين، للعمل على تلك المادة الأولية، التي سيتيحها المشروع.
تجربة مختبر السرديات تبدو نافذة جيدة للمبدعين الشباب، حيث يتاح لهم التعرف على غيرهم من المبدعين من أجيال ومناطق جغرافية مختلفة، تجعلهم يتواصلون مع تلك التجارب الإبداعية على إختلافها، وهو ما من شأنه أن يجعل أفكارا مثل “الشهرة” و”الأكثر مبيعا”، تأخذ مكانة أقل لديهم، وبحيث تصبح الجودة هي المعيار الذي يحكم رؤيتهم للعمل الإبداعي، الأمر الذي سيلعب دورا في تطوير مستوى إبداعهم في المستقبل.
مما لا شك فيه أن للمختبر آثره الواضح على كتاب الثغر خاصة وكتاب جمهورية مصر عامة.
يأتيه الكتاب من كل صوب، من كل محافظات مصر نجد المشاركين فيه إما لمناقشة أو نقد أو دراسة أو قراءات قصصية، بل أيضا يستقبل مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية على مدار العام أدباء عرب من خارج مصر، سواء لمناقشة كتاب نقد أو رواية أو مجموعة قصصية..إلخ.
ولا ننكر تشجيعه للنقاد الجدد سواء كانوا أكادميين أو انطباعيين.
يعد المختبر خادم للأدب وللأدباء، يزيد من تألقهم وعليهم.
تحية الأستاذ المبدع الناقد أ/منير عتيبة مؤسس المختبر وراعيه.. ولكل القائمين عليه.
تحية خاصة الراقي دوما أ/حسام عبدالقادر.