رؤى

الطرب الحلال.. في حضرة الإنشاد الديني وفرسانه

كم ليلة منع الغرام منامي.. وحلا لقلبي في هواك سقامي.. ووقفت في باب المحبة خاضعا.. بتذلل وتخشع وهيامِ.. أصواتٌ بالحب تتغنى وبالشوق تشدو، بلغت من العذوبة ما استغنت به عن صخب الموسيقى، وكفت عشاقها مئونة التساؤل عن حلالها وحرامها، ووصلت بينهم وبين زفرات الآهات تنطلق من أغوار النفوس فتزيح عنها من الهموم بقدر ما تعبر عما أصابها من شوق وما اعتراها من حنين.

حتى أهل البادية لم يجهلوا حقيقة أن للصوت النديّ على النفوس سلطانا، فراحت قوافلهم لا تسير بدون حُداة منشدين  يتغنون بمفاخر القبيلة، أو بالحنين للعودة إلى الأوطان فتطرب لأصواتهم آذان الإبل وهي تتهادى محملة بالأثقال فتنسى قيظ  ووهج الصحراء، و كأنها تستعين بها  على بعد المسير ولوعة الرحيل، وقد روى البعض في إحدى الحكايات التراثية أن شابا حاديا (يقود الإبل) في رحلات التجارة في الجزيرة العربية، ركب ناقته وأغراها بشدوه بينما تضرب في عمق الصحراء وقد امتد به السفر والرحيل حتى وصل إلى بٌغيته بينما خرت ناقته صريعة.

Image result for ‫الانشاد الديني‬‎

ويمتاز الإنشاد الديني كلون غنائي بالجمع ما بين سحر المعنى وعذوبة وشجن الصوت، وهو ما يجعل صاحبه -كعوًاد ماهر- يداعب أوتار قلوب عاشقة فتنجلي، ويناوش هموم النفس فتنزاح أو تتوارى -ولو إلى حين- بين مقامي الحب والرجاء تتأرجح أغانيه فهو إما عاشق يبث أشواقه، أو راج رحمة ربه يُشهد الخلائق على صبابته و نجواه.

وحده يبدو الإنشاد الديني طبيعيا كما الطبيعة ذاتها، ففنانوه لم يدرسوا الطرب في معاهد الموسيقى، ولم يتدربوا طويلا في ساحات الغناء، وإنما راحوا يعبرون عما يعتمل في نفوسهم فصادف فيهم صوتا نديا يسكنه النغم، ثم سعى الصوت الشجي يبحث عن الكلمة تعبر عما في خلجات نفوس الآخرين، فتنتزع منها الاّهات انتزاعا، قد تكون البساطة هي سحر ذلك الفن، وهي سر تلك الجماهيرية العريضة لهذا اللون من “الطرب الحلال”، فهو دون غيره من الفنون قادر على أن يجعل محدودي الثقافة ينتشون حتى لتكاد رؤوسهم تناطح السماء.

الطرب الحلال

الطرب الحلال.. هكذا يحلو للبعض تسميته بعدما نجح في أن يتوافق بل ويعبر عن تلك الروحانيات الأصيلة في الإسلام وأن ينأى ويبتعد عما ورد في بعض الآثار من تحريم لأدوات المعازف والغناء. أن يوفق بين وجوب الصمت في حالات الشوق والوجد خوفا من الوقوع في معصية، وبين الحق في التعبير عن مكنونات النفس ولظى القلب، قديما سمع المسلمون نداء التحريم فأطاعوا، لكنهم أبوا إلا أن يبدعوا فنا حلالا طيبا، وكيف لا؟. والقرآن نفسه لا يخلو من نغم.

فن المديح

اقترن ظهور هذا اللون من الغناء بفن المديح الذي ظهر مع شعراء الإسلام الأوائل كحسان بن ثابت، وكعب بن زهير، لكنه خطا خطوات واسعة مع استئثار المتصوفة بالمديح وإيغالهم فيه، فصار الناس إلى اليوم يتغنون بكلمات الحلاج، وابن عربي، وابن الفارض، والبوصيري، ومولانا جلال الدين الرومي وغيرهم، وصار الذكر على إيقاعات المنشدين أحد طقوس التعبد  الصوفي.

وهو كذلك من أكثر الفنون الأسلامية أصالة فهو لم ينشأ محاكاة لفنون مناظرة لدى الحضارات السابقة، كما أنه من أكثر ضروب الغناء صرامة وثباتا في الاحتفاظ بالطابع القومي للشعوب.. لأنه أقل من غيره عرضة للمتغيرات المستمرة بفعل عدم ثبات الذوق العام، وتقلب الأهواء، ونزوات الفنانين.

تواشيح وابتهالات

ويتنوع الإنشاد ما بين التواشيح، والقصائد الدينية؛ وفى التواشيح يكون الأداء بالتناوب فى تضاد صوتى بين المنشد الرئيسى -باعتباره المنشد المنفرد- بأسلوب مزخرف ارتجالى غير موزون، وبعض الأصوات (السنيدة) التي تردد أحد الأبيات التي يقف عليها المنشد الرئيسي من حين لآخر، ومن أشهر من قدم فن التواشيح الدينية  الشيخ طه الفشني في رائعته يا أيها المختار:

حيث يتناوب السنيدة مع المبتهل جملة (نادت بك الرسل الكرام) التي يقف عليها الفشني في تقديم وتأخير بصوت يفيض بالعذوبة والمحبة والخشوع.

ويمكن للمنشد المنفرد كذلك أداء قصيدة كاملة بالفصحى بالأسلوب المنفرد؛ وهذا النوع يسمى عامة بالقصيدة الدينية (أو الابتهالات، عندما تكون الفكرة هى الدعاء والرجاء). وقد يضاف لأى من النوعين مصاحبة آلية خفيفة، ومن أشهر من قدم فن الابتهال الديني المشايخ محمد عمران ، وإبراهيم الفران، ونصر الدين طوبار .

ابتهال (كم ليلة منع الغرام منامي)

مداحون ومنشدون

عادة ما يكون الإنشاد داخل المساجد في حلقات الذكر، أو الابتهالات، أو خارجها في احتفالات المتصوفة بموالد آل البيت؛ وفي الموالد كما في الليالي الرمضانية ينصب المتصوفة سرادقاتهم، ويقيمون خيامهم، ومسارحهم الخشبية، فيحضر المداحون من كل حدب وصوب يتبارون- وقد تهيأوا لذلك اليوم- في إستعراض قدراتهم على المديح معتمدين على نغمات بعض الآلات البسيطة كالدف، أو النقر بحبات المسبحة على عصاة الشيخ المداح، وتتعدد المقامات التي يعتمد عليها المنشدون والمداحون مابين مقامات الرست، والبياتي، والنهاوند، والعجم، والحجاز، والصبا، والسكاه، والنو، والكرد.

ومن حضرات المتصوفة خرج بعض أشهر المنشدين كالشيخ سيد النقشبندي الذي حمل اسم طريقته، فصار نجما يتلألأ في سماء الإنشاد الديني.

 

والشيخ ياسين التهامي الذي يعد أبرز رموز هذا الفن الغنائي، ومن الموالد كذلك  تعرفت الجماهير المصرية للمرة الأولى على صوت سيدة الغناء العربي أم كلثوم، والتي مارست الإنشاد على مسارح القرى المصرية بإشراف ومشاركة والدها المنشد إبراهيم البلتاجي

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock