نمتلك- نحن العرب – تاريخا عريقا ومتفردا فى أدب الرحلات، ولدينا منجزنا الإبداعى ذو النكهة العربية الخالصة فى هذا الأدب الفريد الذى يعد واحدا من أبرز وأهم روافد الآداب العالمية. وفى التاريخ العربي – قديمه وحديثه- هناك مبدعون كبار حملوا راية أدب الرحلات منذ أحمد بن فضلان مرورا بالأشهر فى أدب الرحلات “ابن بطوطة”، وانتهاء بواحد من أهم رواد التنوير “رفاعة الطهطاوي”. غير أن هذا الأدب الذى يُعرّفنا بأخبار وأحوال وعادات الشعوب والأمم والذى تميزنا به قديما، أشرف على الاندثار-أو يكاد – في عصرنا الراهن ..فلماذا؟ وما هي الأسباب التي جعلت من أدب الرحلات، صنفا أدبيا مشرفا على التلاشي من المشهد الأدبي العربي؟
في هذا التحقيق المفصل يرصد موقع “أصوات أونلاين” الكثير من التفاصيل والملامح الخاصة بأدب الرحلات وأزمته الراهنة مع أدباء ومبدعين مصريين وعرب.
قراءة تاريخية
يقول الناقد والأكاديمي “حسام عقل” إن أدب الرحلات يعد من أهم الأنواع الأدبية تميزا في التراث العربي، ولا جدال أن قوالب الرحلة و أشكالها في تراثنا، تكاد تكافيء أو تطاول نظيراتها في الآداب الأوروبية في العصرين، القديم والوسيط. وقد ترك لنا (ابن جبير) و (ابن حوقل) وغيرهما من الأدباء نماذج رائدة في هذا المضمار، لكن ذروة هذا التطور, بناء و تصورا و تقنيات, كانت (تحفة النُظّار) رائعة (ابن بطوطة). ويضيف عقل: يتلاحظ لدينا أن تطور هذا النوع الأدبي كان في ارتباطه الوثيق مع الأنواع الأدبية الأخرى وخصوصا أدب السيرة الذاتية.
الناقد حسام عقل
وحسب عقل فإن هذا التطور، يرتبط بمسارين، أحدهما اتساع رقعة الدولة الإسلامية آنذاك، و هو ما يوفر فرص السفر والسياحة في رقعة واسعة من الأرض، أما المسار الثاني فيتمثل في الانفتاح على (الآخر)، و التواصل معه في تلاقح فكري غير متشنج و لا محكوم بعقد النقص و مركباته، و هو ما يعرف بـ (المثاقفة)، و كلما توفر هذان الشرطان ازدهر هذا النوع الأدبي العريق.
ويرجع عقل تراجع النماذج الجيدة لهذا النوع الأدبي في الراهن العربي، إلى جملة أسباب أهمها: كلفة السفر وصعوباته، فهذا الجنس الأدبي مرتبط بخبرة السفر و الترحال في الجوهر. فأخر أهم كتاب في أدب الرحلات كان كتاب (حول العالم في مائتي يوم) للراحل (أنيس منصور)، وهو الكتاب الذي ظهر عام 1963، في مسعى لرفع منسوب الأمل عند الشباب بنماذج الكفاح و المغامرة، وهو الكتاب الذي على جائزة الدولة، وأشادت به منظمة اليونسكو، بوصفه نموذجا من أوسع نماذج الأدب انتشارا في المنطقة العربية. وحظيت مكتبة أدب الرحلات بتراكم إبداعي جيد، بالنظر إلى كتب أخرى مثل (سندباد عصري) لـ(حسين فوزي) وغيرها من النماذج الرائدة.
أنيس منصور وكتابه حول العالم في مائتي يوم
ويرى الناقد والاكاديمي “ممدوح فرج النابي” أن السبب الرئيس لغياب أدب الرحلات في مدونة السرد العربي الاّن، مقارنة بما كان سائدا من قبل في القرون السابقة ، يرجع إلى عامل بسيط ، يتمثل في غياب آليات الرحلة نفسها، فالتقدم الهائل في وسائل النقل ثم التكنولوجيا ألغيا الحافز من الاكتشاف الذي كان مبعثا أصيلا من قبل.
ممدوح فرج النابي
ويضيف “النابي: ” الآن لا يحتاج المرء إلى هذه الشهور التي كانت تستغرقها الرحلة ، و ما يتبعها من تسجيل لكل ما يرى المرتحل ، فالرحلة يقطعها في مدة قصيرة، إضافة إلى أن جلسة أمام جهاز الكمبيوتر تغنيه عن التجول والاكتشاف الواقعي ، فكل شيء أمامه متاح ، وهو ما أفقد الرحلة جوهرها ، حيث ضاعت لذة الاكتشاف.
تجارب راهنة
لكن الناقدة والاكاديمية “أماني فؤاد“ تقول إنه لا يمكن أن يستغنى الإنسان عن ثقافة المشاهدة بالعين، حيث الشغف الخاص الذي يتضمن لذة الاكتشاف على أرض الواقع، والعيش داخل التجربة بنبضها وحيويتها، الوجود داخل المكان والزمان يجسد المشهد مكتملا لكافة حواس الإنسان، و لحكي تجربة الرحلة لذة تزداد حين يشارك المبدع القراء انطباعاته وأفكاره، وقراءته لهذا العالم الجديد حيث وصف مناظر طبيعية متنوعة، أو ثقافات وفنون مختلفة، وعادات وتقاليد لأنساق سياسية واقتصادية واجتماعية متنوعة بتنوع البلدان وجغرافيتها وثقافتها.
أماني فؤاد
وتضيف “فؤاد” ربما أغنت الأفلام الوثائقية والتسجيلية التي تعرضها القنوات الفضائية ووسائط التواصل نسبيا عن هذه النوعية من شغف المشاهدة بالعين وأدب الرحلات، لكن يظل لكتاب أدب الرحلات ميزة الاستطرادات الفكرية، وما يطرحه الكاتب من انطباعات خاصة إنسانية لا تستطيع أن تؤديها الكاميرا مهما وصلت براعة المصور.
وتشير “فؤاد” إلى ان هناك بعض المؤلفات المعاصرة يمكن أن تنتمى لأدب الرحلات وهي امتداد لتجارب أنيس منصور ومجموعة من الكتاب الآخرين مثل: “مسافر كنبة” لعمرو بدوي حول رحلة لإيران لمدة ثلاثة أسابيع، و في هذا الكتاب يرصد المؤلف الجانب الإنساني من حياة البشر في الشارع الإيراني، يحكي عن المسكوت عنه مثل ممارسة البعض للفنون التشكيلية سرا و بعيدا عن الأضواء،
الكاتب: عمرو بدوي وكتابه مسافر كنبة”
وتضيف “فؤاد” ثمة كتاب آخر صدر قريبا بعنوان “الإقامة في هوستيل” للمؤلفة شيرين عادل حول رحلة لثلاث بلاد أوربية هي السويد وسويسرا وإيطاليا، مُوًظّفة كل مشاهداتها في لغة سردية أدبية محكمة، ودراسة متبحرة لتاريخ تلك البلدان ورصد الأبعاد الإنسانية في تجربة العيش وسط الجماهير في تلك البلدان الأوربية.
الكاتبة: شيرين عادل وكتابها “هوستيل رحلة أوروبية”
وتشير فؤاد إلى أن مناخ النشر لتلك النوعية من الكتابات ليس مواتيا ولا ملائما بالنسبة للناشرين لأن الرواية تحتل المكانة الأعلى في نسب القراءة، لكن الرواية أيضا تتضمن فيما تتضمن أدب الرحلات بشكل ما، حيث تسافر السرديات في الزمان والمكان بلا قيد.
حكايتى مع أدب الرحلات
الكاتب والروائي المغربي “عبد العزيز الراشدي” يشير إلى أن المغاربة عُرفوا منذ القدم بالرحلة، وكانت الوجهة المعتادة هي المشرق، إما طلبا للعلم أو لزيارة الأماكن المقدّسة. وقد كانت رحلة ابن بطوطة المغربي أشهر الرحلات في تاريخ العالم الإسلامي، فقد زار بلدانا عديدة وحمل معه معرفة ومشاهدات لازال يقرؤها الناس حتى اليوم.
عبد العزيز الراشدي
ويضيف الرشداي أنه وفي الأدب المعاصر، لايزال المغاربة يهتمون بالرحلة إبداعا وتنظيرا ودراسة، ومن بين هؤلاء نذكر على سبيل المثال لا الحصر الباحث عبد النبي ذاكر والباحث عبد الرحيم مؤذن، بالاضافة إلى لفيف من المبدعين الذين يكتبون عن مشاهداتهم شرقا وغربا.
ويشير “الراشدي” بخصوص تجربته فى أدب الرحلات قائلا:، كان كتابي “سندباد الصحراء” الذي فاز بجائزة “ارتياد الاّفاق” بدبي ثمرة تجربة بين بلدان عربية وأوروبية، وقد حاولت أن أرصد من خلال نصوصه مشاهداتي وعناصر الاختلاف بين تجربة الحياة في المغرب وفي غيره من البلدان التي زرت. كما أستعد لإصدار كتاب رحلات جديد يتضمن مشاهداتي في دول أخرى وأقاليم أخرى.
سقوط المشروع
يقول الكاتب والباحث والروائي الأردني “حسين دعسة“: أدب الرحلات،فى العصر الحديث، لم يعد مجرد رحلة اعتيادية. ذلك أن المؤسسة الثقافية باتت تحتار في منظومة التنوع الأدبي الذي خلط الأجناس الإبداعية والفنية في متواليات سردية يغلب عليها النثر الفني الممزوج بالشعر والقصة والسيناريو والوثائقية.
حسين دعسة
ويلفت “دعسة” إلى ان هذا التحول، ظهر في الأدب الأمريكي والأوربي مع تحولات المجتمع والثورة الفكرية التي نقلت واقع الفن والأدب والفنون السمعية البصرية إلى نظريات تدعو إلى تداخل وتمازج الأجناس كافة.
ويضيف: هناك مشاريع نجحت عربيا لظهور نوستالجيا الحنين للماضي ومحاولات لتوثيق الذات الغريبة عن مجتمع الجنس الأدبي، وبانت ما بعد الثمانينات حركة في رعاية أدب الرحلات وفرضت جوائز متباينة؛ إلا أن الواقع الأدبي انحاز إلى حرية اختلاط الأجناس الأدبية في كتب ونصوص متفاوتة نشرها ووضعها كتاب كبار أمثال ادونيس وشوقي عبد الأمير والطاهر وطار وكمال رياحي وصنع الله ابراهيم وسعدالله ونوس وبول شاوول، عدا عن التحولات في الفنون التشكيلية والسينما والمسرح.
ويؤكد “دعسة ” أعتقد ان وثائق أدب الرحلات كانت من مثيرات التداخل في الأجناس السردية لأنها اتاحت ثورة معرفة عن المكان والناس؛ ومع ذلك سقط مشروع أدب الرحلات المعاصر لابتعاده عن آليات المشروع الثقافي المتكامل؛ ولعل الصراعات والحروب والربيع العربي قد أثر في استباق أي معالجة تحمي أدب الرحلة وتعلي من تجلياته الفكرية>
سنوات الاختفاء
تلفت الناشرة “بيسان عدوان” إلى أن أ دب الرِّحلات هو نوع من الأدب الذي يصور فيه الكاتب ما جرى له من أحداث وما صادفه من أمور أثناء رحلة لأحد البلدان. وتُعد هذه الكتب من أهم المصادر الجغرافية والتاريخية والاجتماعية، ويندرج عدد كبير من الروايات والقصص تحت مسمى أدب الرحلات، فهذا المسمى الواسع كماً قادرٌ على استيعاب أعمال ابن بطوطة، ماركو بولو، تشارلز داروين، أندريه جيد، أرنست همنجواي، ونجيب محفوظ، رغم التباين الكبير فيما بينهم؛ لأن الفكرة التي تجمعهم هي الرحلة نفسها، الرحلة الزمانية أو المكانية أو النفسية.
بيسان عدوان
تلفت “عدوان ” إلى أن مصرشهدت خلال العقود الثلاث الاخيرة اختفاء هذا النوع من الأدب رغم ان هناك جائزة باسم ابن بطوطة لأدب الرحلات مما يعزز ويروج هذا الأدب .
تشير “عدوان” إلى أنه في العامين الأخيرين بدا يعود هذا النوع علي استحياء وهذا العام طبعنا كتابا عن أدب الرحلات للكاتب شريف العصفورى يتحدث فيه عن المدن التى زارها ايمانا منا بأهمية هذا النوع من الأدب رغم الانترنت وشبكات التواصل التي فاضت بالمعلومات
تشير الناقدة والاكاديمية “هايدي الجميزي” إلى أن ندرة ذلك النوع من الأدب ترجع إلى صعوبته فهو يحتاج لحرفة الحكي إلي جانب حبكة قوية مع ملاحظة جيدة وتدوين دقيق للأماكن التى يتم الحديث عنها. وليس كل الكتاب أو الأدباء بقادرين على الجمع بين تلك الأمور. ومع الانتشار الهائل للرواية وكاتبيها وقارئيها فإن ذلك ساهم في ندرة تواجد أدب الرحلات وإن كان هناك بعض من الاسهامات القليلة في الآونة الأخيرة.
هايدي الجميزي
خارج التصنيف
الأديب والروائي حمدي البطران، والذي ترأس شعبة أدب الرحلات باتحاد الكتاب يقول إن هذا النوع من الأدب لم يجد له أدني تقدير, ولم يعتبره النقاد ضمن التصنيفات الأدبية التي يعالجها النقد الأدبي، وتركوها عن عمد, باعتبارها كتبا تقوم بتقديم مادة علمية لعلماء الجغرافيا والاجتماع والتاريخ و الحضارات والاقتصاد والسياسة, ولذلك تراجع النقاد عن التدخل فيما يكتب عن موضوعات الرحلات والسفر. ومن هنا فقد كانت بادرة طيبة أن يخصص “اتحاد كتاب مصر” شعبة لأدب الرحلات، شرفت برئاستها.
حمدي البطران
ويضيف “البطران” كانت خطتي تقوم علي مناقشة كتب أدب الرحلات من خلال ما كتبه الرحالة والمؤرخون عن مصر، الواقع أنني قرأت كثيرا في تلك الكتب، ووجدت أن هناك الكثير مما يمكن أن نستخلصه عن مصر ،لكننا لم نجد نقادا يتناولون تلك الموضوعات , لكن تفاعل معنا بعض العلماء الافاضل ومنهم أصحاب رؤى ودراسات في المكان وثقافته ومنهم الدكتور محمد حسن عبد الله , الذي كان رئيسا لمؤتمر شعبة أدب الرحلات .