رؤى

المسلمون في أوربا: بين المخاوف الأمنية وصعوبات الاندماج

أندرو أجيلار، مركز الدراسات الدولية- معهد العلوم السياسية في باريس

ترجمة: أحمد بركات

تمثل القضايا الأمنية جانبا واحدا من خبرات متعددة يعيشها المسلمون في أوربا، لكنه الجانب الأهم الذي يحظى باهتمام إعلامي وسياسي واجتماعي فائق.

ففي أعقاب كل حادث إرهابي أو وقوع أعمال شغب في المدن يتم الربط بين اندماج المسلمين والأمن. فقد ربطت ردود الأفعال السياسية على أعمال الشغب التي اجتاحت بريطانيا في عام 2001، تلك التي شهدتها الضواحي الفرنسية عام 2005، بين الاضطرابات الاجتماعية التي تعاني منها مجتمعات المسلمين المنعزلة في كلتا الدولتين من جانب، والقصور الذي تعانيه المقاربات الوطنية التي تهدف إلى تحقيق الاندماج من جانب آخر.

وفي عام 2006، أشار رئيس الوزراء البريطاني العمالي السابق توني بلير إلى أن التفجيرات التي ضربت مترو أنفاق لندن في عام 2005 على يد مواطنين بريطانيين مسلمين مندمجين بصورة جيدة، قد زادت من مخاطر التعددية الثقافية الذى تميزت به  بريطانيا. وعلى إثر ذلك أنهى بلير رسميا دعمه للتعددية الثقافية. في حين أكد رئيس الوزراء البريطاني المحافظ ديفيد كاميرون أن هذه  التعددية الثقافية تمنع المواطنين من “الاندماج الحقيقي“. وعلى نحو مشابه، ربط رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس هجمات باريس في نوفمبر 2015 بـ “التمييز الاجتماعي والقومي والعنصري” ضد الأقليات الفرنسية، وفي معرض رده على هذه الهجمات، قال فالس “سنحسن الاندماج عن طريق تشديد الرقابة وإغلاق أي مؤسسة تعليمية تبث قيم عدم التسامح ورفض الآخر”.

Related image

كاميرون وتوني بلير

ووفقا لهذا الخطاب السياسي السائد، يخلص الباحث أندرو أجيلار  الباحث فى مركز الدراسات الدولية التابع لمعهد العلوم السياسية فى باريس، إلى أن عملية الاندماج تمثل في جوهرها شكلا من أشكال القدرة السياسية على إدارة الدولة. لذا، فإن تعريف الاندماج – بحسب أجيلار – لا يتوقف عند حدود توفير فرص اقتصادية أو تقديم تعليم أفضل، وإنما ينطوي على تأثيرات مهمة وعميقة على جوهر تعريف الهوية والوطنية والاستقرار الاجتماعي.

شعور بالعنصرية

وفي دراسته التي حملت عنوان Approaching the Security – Integration Nexus (مقاربة العلاقة بين الأمن والاندماج) – وتقع ضمن فصول كتاب The Politics of Islam in Europe and North America (سياسات الإسلام في أوربا وأمريكا الشمالية) (ديسمبر 2018) – يلفت “أجيلار”  إلى أن المخاوف من تزايد الجريمة، وأعمال الشغب في المدن، ومؤخرا الإرهاب، تربط تحديات الاندماج ليس فقط بسياسات الهجرة وقوانينها، وإنما أيضا بكيفية إدراك الدول لأمنها الخاص. وتتمثل النتيجة المهمة لهذا الارتباط بين الاندماج والأمن القومي، في تطبيع نتائج الاندماج كمؤشر للأمن القومي.

وتشير هذه العلاقة إلى أن النتائج السيئة للاندماج تمثل تهديدا سافرا للحالة الأمنية. ويعكس وجود هذه العلاقة أيضا الثقل النوعي الزائد للتحليلات والمؤسسات القائمة على أساس أمني في توجيه القرارات وتقديم مفاهيم المخاطر الأمنية الدولية في الساحة المحلية. إذ تركز هذه البحوث، المضادة بالطبع للإسلام والمسلمين، على ظهور الإسلام العابر للحدود كمحرك أساس لسوء نتائج الاندماج والصراع السياسي، لكنها لا تحدد الآثار المترتبة على تطوير سياسات للدمج الاجتماعي من أجل تعزيز الأمن. وتعكس التطورات الأخيرة في هذه السياسات في كل من إنجلترا وفرنسا تركيزا متزايدا على المواطنين المسلمين من خلال مبادرات شرطية واستراتيجيات تتعلق بمكافحة الإرهاب.

النظرة الأمنية

ويضطلع قطاع الأمن، الذي يشمل الخدمات الاستخباراتية والبنية التحتية الشرطية وخبراء مكافحة الإرهاب في الدوائر الأكاديمية، بدور محوري في تطبيق السياسات الرامية إلى تحسين أوجه القصور الهيكلية في المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية المهمة. ويقبع “تأمين” هؤلاء المواطنين ضد مخاطر التطرف الديني على رأس قائمة اهتمامات وزارات الداخلية في انجلترا وفرنسا. لكن بالنسبة لبعض المواطنين المسلمين، فإن هذا التدقيق المتزايد قد يسهم في خلق شعور متأجج لديهم بالعنصرية، ويقلل الثقة في المؤسسات الوطنية، ويؤدي إلى انسحابهم من النقاش العام.

في هذا السياق، يطرح أجيلار حزمة من الأسئلة يمكن تلخيصها في: كيف، وإلى إي مدى، أصبح “الأمن” عاملا في تطوير وتطبيق إجراءات الاندماج في فرنسا والمملكة المتحدة فيما يتعلق بمواطنيهما المسلمين؟ وما هي التدابير التي تتخذها الدولة والتي تسهم في تحقيق هذا الاندماج، وما هي نتائج هذه المبادرات؟

إعادة تقييم نماذج الدمج

يؤكد أجيلار، أن دراسات الدمج السابقة وضعت بريطانيا في مقابل فرنسا كنموذجين متباينين للدمج، حيث وصفت هذه الأدبيات فرنسا كمجتمع “استيعابى”، بينما صنفت بريطانيا كمجتمع “تعددي” في نهجهما نحو الدمج. ووفقا لهذه التصنيفات، فإن نموذج الدمج “الفرنسي” يمنح الأولوية للاندماج الفردي على حساب الهويات الإثنية الدينية الجماعية، بينما يستوعب النموذج البريطاني الفوارق ،ويسمح للأفراد بالاحتفاظ بهويات المجتمعات الإثنية أو الدينية التي ينتمون إليها.

وتحتل هاتان الدولتان أقصى طرفي الطيف الذي تتراوح فيه سائر الدول الأوربية فيما يتعلق بمقارنة مناهج ومقاربات دمج المسلمين. وقد جسد الباحثون المطالب السياسية المتجذرة في التاريخ الوطني لكل دولة في محاولة لتفسير كيف تتوافق أو تتناقض، المبادرات الخاصة بسياسات الدمج مع أيديولوجيات هذه الدول، وليس مع فهم عميق للسياقات السياسية الاجتماعية التي توجه هذه القرارات.

وبدلا من دعم النقاشات النظرية حول النماذج الوطنية، فإن الاندماج – كمفهوم -يترك آثارا مهمة في تقييم رؤية الدولة  لتعزيز التماسك الاجتماعي. فبعد تحديد قائمة من 14 موضوعا مختلفا تندرج كلها تحت لافتة “بحوث الاندماج” في بداية العقد الأول من هذه الألفية، تساءل أدريان فافيل بذكاء: “كيف يعتقد أن هذه المجموعة المتباينة من سياسات الدولة وقوانينها والمبادرات المحلية والتوجهات المجتمعية – التي يمكن أن تطبق نظريا من قبل كل أنواع الهيئات وعلى كل المستويات – تمثل إستراتيجية أو سياسة دمج شاملة لدولة قومية واحدة؟ ولماذا؟..في هذا التساؤل يحدد فافيل الفرضية المهمة القائمة على أن “الاندماج” هو بناء يستخدم لتسهيل التحليلات بين مبادرات الدولة المتباينة.

ويؤكد أجيلار أن التحديات التي تواجه الاندماج في هذه الحقبة مليئة بالتعقيدات التي تستدعي مجموعة كبيرة من الاستجابات داخل سياق وطني واحد. وبينما تظهر قضايا الاندماج الوطني، مثل التعددية الثقافية أو الاستيعاب، توجيهات لتنفيذ سياسات محلية، فإن التحديات الإدارية المحلية غالبا ما تتطلب التفاوض على خطاب أيديولوجي متشدد ملائم.

الأمن والهجرة والاندماج

ويشير أجيلار إلى أن الدراسات الأمنية السابقة، وبرغم أنها كانت تركز بالأساس على مصادر الصراع القائم على الدولة، إلا أنها تطورت بدرجة كبيرة في تسعينيات القرن الماضي لفهم كيف يمكن أن تؤثر السياسات المحلية على أمن الدول ذات السيادة.

وقد حفزت الهجرة المتزايدة إلى أوربا في  تلك  الفترة ظهور طيف واسع من الأفكار بشأن سياسات الهجرة ودورها المتصاعد في التعبير عن سيادة الدولة. وقدّم تأثير هذه السياسات على عدد من القضايا، مثل السيطرة على الحدود، وسياسات اللجوء، والمواطنة، للعلماء ، دليلا قاطعا على تزايد المخاوف الأمنية التي فرضها المهاجرون المسلمون على وجه التحديد. فقد أسهمت أحداث قضية “سلمان رشدي” في بريطانيا عام 1989، وقضية “حظر الحجاب في فرنسا“، في تأجيج خطاب شعبي يتعلق بعدد من سياسات وقوانين المواطنة والهجرة، في ضوء مخاوف خاصة بالاندماج الاجتماعي واحتمالات نشوب أعمال عنف جسدي. فقد أثارت المخاوف بشأن نوع المهاجرين وكيفية هجرتهم إلى أوربا الغربية، جدلا محموما من أجل فرض سياسات وقوانين هجرة أكثر تقييدا في بلدان هذه المنطقة طوال هذه الفترة لمنع وقوع حالات توتر وأعمال شغب مستقبلية في المدن الكبرى.

Related image

سلمان رشدي

وقد بدأت دراسات أمنية أحدث في إعادة تقييم المنظور الأمني الجامد من خلال تقييم تطبيق سياسات الهجرة وقوانينها، مثل السيطرة على الحدود على المستويين الوطني والدولي. وبينما قدم هؤلاء الباحثون منهجية أولية للانتقال من المنظور الأمني الجامد، إلا أنهم أبقوا تحليلاتهم كما هي في سياسات الهجرة وممارسات المؤسسات الأمنية. ومع زيادة المخاوف الناجمة عن الإرهاب المنتج محليا، باتت معالجة الأسباب الجذرية لعدم الاندماج فرضية مهمة لتعزيز الأمن الشامل.

اقتراح منهجية أمن – اندماج جديدة

ويؤكد أجيلار أن المخاوف الأمنية والمؤسسات المرتبطة بها حاضرتان بقوة سواء في مرحلة وضع السياسات الكبرى أو في مرحلة تنفيذ هذه السياسات. ومن خلال تحويل الإطار التحليلي لدمج كل من مبادرات الاندماج والمؤسسات الأمنية، يصبح بالإمكان ملاحظة التفاعل بينهما لفهم التفاعلات اليومية الجديدة بين مؤسسات الدولة المختلفة، وأعضاء الجاليات المسلمة، والمنافذ الإعلامية. وقد قدمت بحوث أخرى في كتاب The Politics of Islam in Europe and North America (سياسات الإسلام في أوربا وأمريكا الشمالية) نماذج مهمة يتقاطع فيها المجالان. ففي بعض الحالات تعاون “اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا” مع مؤسسات تابعة للدولة من أجل تعزيز “إسلام مدني“. كما اعتمدت السلطات الفرنسية في مدينة “روبيه” بصورة متزايدة على الخطاب الدعوي العقلاني الإسلامي لمنع تمويل بعض المنظمات والجمعيات الإسلامية.

ويكشف سؤال “كيف تُفَعَّل السياسات؟” عن أهمية الأفراد المنفذين للسياسات والأهم من ذلك هو السياق الذي يتخذون فيه قراراتهم. وقد أبرزت الكتابات المتخصصة في تحليل السياسات ثلاثة مستويات رئيسة للتحليل، وهي “الفلسفات أو  الأيديولوجيات” التي تصف مجتمعا عاما، و”الحلول من خلال السياسات” التي يطرحها صناع القرار، و”البرامج العامة التي تدعم هذه الحلول”. وقد اقترح الباحثون نماذج عديدة لوضع أفكار وإجراءات الجهات العامة الفاعلة في سياقاتها في ضوء التغير المستمر في الأحداث. وتلفت الدراسات التي تركز على التأثيرات المحلية لسياسات الاندماج الانتباه إلى الأفراد الذين تُركوا خارج طيف النماذج الوطنية، مثل  المستشارين السياسيين ورؤساء البلديات والقادة غير الربحيين، الذين يتحملون مسئوليات التنفيذ الفعلي والنتائج. ويشكل هؤلاء الأفراد في الغالب جزءا من مؤسسة تمثل الأداة المباشرة لسياسات الاندماج، مثل المدرسة والمستشفى والبلدية.

نتائج تخالف النوايا

في هذا السياق يطرح الباحث مجموعة من الأسئلة: كيف يحصل هؤلاء المسئولون على معلوماتهم الأمنية؟ ما العلاقة بين مؤسسات السياسات الاجتماعية والمؤسسات الأمنية؟ كيف تتقاطع الحاجة إلى “مزيد من الأمن” مع الحاجة الديمقراطية لضمان تكافؤ الفرص؟

في مستهل إجابته، يؤكد أجيلار أن الكتابات الخاصة بتقييم السياسات طالما أشارت إلى عدم وجود رابط بين النوايا المعلنة للسياسات، وما يتمخض عنها من نتائج. وتترك هذه التأثيرات غير المقصودة بصمتها على مستويات مختلفة من إدارة الدولة والحياة اليومية التي غالبا ما تتعارض مع بعضها البعض. ومن خلال الدوافع التي يقدمها الرأي العام والتحليلات السياسية العميقة والإدارة غير الفعالة، تقوم الحكومات بوضع وتنفيذ السياسات بطرق تتعارض مع أهدافها المتصورة. ويمثل هذا التفاوت متغيرا حاسما لتقييم إمكانية تأثير المخاوف الأمنية في تنفيذ السياسات. بهذا المعنى، يجب ألا يُنظر إلى الأمن باعتباره مجرد إستراتيجية كبرى، وإنما يجب أيضا ملاحظة دوره المؤثر في التفاوت في التنفيذ. ويبدي الباحث اهتماما كبيرا بما إذا كانت المؤسسات الأمنية تؤثر على النجاح النهائي لسياسات الاندماج الاجتماعي عبر مجموعة واسعة من الوزارات الحكومية. ويؤكد أن المخاوف الأمنية يمكن أن تؤدي إلى سلسلة من التوصيات المتضاربة في تطوير وتنفيذ سياسات اندماجية تركز على المواطنين المسلمين.

ويقدم أجيلار مثالا صارخا من داخل المنظومة التعليمية على هذا التوجه. فالحكومتان الفرنسية والبريطانية  شرعتا في تنفيذ برامج مكثفة لمعالجة الراديكالية في المدارس لمكافحة الإرهاب المحلي. وقد ركز تطوير استراتيجية CONTEST “التنافس” (وهي استراتيجية حكومية لمكافحة الإرهاب) في بريطانيا على المدرسة كمكان لتحديد أعراض الراديكالية، والطريقة الأنسب لمعالجتها. وتشكل هذه الاستراتيجية جزءا مهما من نهج أمني أكبر يغطي الكثير من جوانب المجتمع البريطاني.

وفي فرنسا، مثّل النظام التعليمي الساحة المؤسسية التي دارت فيها رحى الجدل الشائك حول الرموز الدينية، وتحديدا الحجاب. وقد كان أحد أسباب حظر الحجاب الشهير في عام 2004 هو تقليل تأثير الأخوات الكبريات على الصغيرات. واضطلعت المدرسة أيضا بدور مركزي في صياغة رد الفعل الفرنسي على الهجوم على صحيفة تشارلي إيبدو في عام 2015، حيث تم التأكيد على العلمانية كقيمة جمهورية جوهرية. وبالفعل، تكشف مواقع جديدة داخل وزارة التربية والتعليم، تم تكريسها لخدمة الأمن ومنع الراديكالية، عن الدور المهم للأمن داخل مؤسسات الاندماج التقليدية.

إن تحليل العلاقة بين الأمن والاندماج يقدم طرقا متعددة لفهم سياق صنع القرار في فرنسا والمملكة المتحدة. ويضع تعريف الأمن لأول مرة – باعتباره النتيجة النهائية للاندماج-  المؤسسات الاجتماعية مثل المدرسة والحكومة المحلية وأماكن العمل في قلب النقاشات الأمنية  المتعلقة بالإرهاب المحلى والاستقرار الاجتماعى في القرن الحادي والعشرين. إلا أنه يثير أيضا  تساؤلات حول مدى مشاركة هذه المؤسسات في تنفيذ سياسات الاندماج. وتقدم هذه التساؤلات أفكارا مهمة في عصر تستحكم فيه رقابة الدولة ،وتزداد فيه حدة الشكوك الاجتماعية لدى المسلمين في الديمقراطيات الغربية.

يمكن الاطلاع على نص الدراسة من هنا ?

 

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock