في صباح التاسع من مارس عام 1969 استقل الفريق عبد المنعم رياض طائرة عسكرية متجهة صوب مدينة الإسماعيلية، لمتابعة تنفيذ الخطة التي وضعها كرئيس لأركان حرب الجيش المصري، لتدمير خط بارليف، والمضي قدما في بدء معارك الاستنزاف التي اعتمدتها القيادة العامة للقوات المسلحة.
لم يكتف رياض، الذي ولد بعد اندلاع ثورة 1919 بشهور قليلة، وتحديدا في 22 أكتوبر 1919، بالمرور على الخطوط الخلفية للقوات والتعرف على أوضاع المقاتلين على الجبهة، لكنه قرر التقدم إلى موقع من أكثر المواقع تقدما على جبهة القتال والمواجهة مع قوات العدو الصهيوني على جبهة القناة.
الفريق عبد المنعم رياض في مرحلة الشباب
لماذا ذهب إلى هناك، وهو يعرف أكثر من غيره طبيعة ضرب المدفعية ؟.. ولماذا اختار هذا التوقيت (يوم الأحد) والتقديرات كلها كانت تشير إلى أن العدو سيحاول في الغد أن يثأر لخسائره بعد معارك السبت، وأرجح الاحتمالات أن تتجدد معارك المدافع؟
كل تلك الأسئلة أجاب عنها الأستاذ محمد حسنين هيكل، فتحت عنوان “الجنود القدامى لا يموتون”، كتب مقالا بـ”الأهرام” يرثي فيه “صديقه القريب الغالي الذي منح الوطن روحه في وقت يحتاج فيه هذا الوطن إلى هذا النوع من العطاء”.
محمد حسنين هيكل والفريق عبد المنعم رياض
روى هيكل اللحظات الأخيرة في حياة “الجنرال الذهبي” قائلا: كان قد عاد بالطائرة قبل ساعات من بغداد، حيث حضر اجتماعات لرؤساء أركان حرب جيوش الجبهة الشرقية، وتابع معارك المدافع يوم السبت من مكتبه فى القيادة العامة، وصباح الأحد ركب طائرة هليكوبتر فى طريقه إلى أحد المطارات الأمامية للجبهة، ثم ركب سيارة عسكرية معه فيها مرافق واحد غير الجندى الذى يقود سيارة رئيس هيئة أركان الحرب وانطلق يطوف بالمواقع فى الخطوط المتقدمة، يتحدث إلى الضباط والجنود، يسألهم ويسمع منهم، ويرى ويراقب ويسجل في ذاكرته الواعية. وفى أحد المواقع التقى بضابط شاب، وكانت حماسته للشباب مفتوحة القلب ومتدفقة، وقال له الضابط الشاب – ولم يكن هدير المدافع قد اشتد بعد – : سيادة الفريق… هل تجىء لترى بقية جنودى فى حُفر موقعنا؟”، فقال رياض بنبل الفارس الذى كانه طوال حياته، وبالإنجليزية التى كانت تعبيرات منها تقفز كثيراً سلسة وطيعة على لسانه “Yes. By all means” أى: نعم، وبكل وسيلة.
وينتقل هيكل إلى وصف اللحظات الأخيرة لرئيس الأركان: “توجه رياض مع الضابط الشاب إلى أكثر المواقع تقدماً، الموقع المعروف برقم 6 بالإسماعيلية. وفجأة بدأ الضرب يقترب، وبدأت النيران تغطى المنطقة كلها، وكان لابد أن يهبط الجميع إلى حُفر الجنود فى الموقع، وكانت الحفرة التى نزل إليها عبد المنعم رياض تتسع بالكاد لشخصين أو ثلاثة. وانفجرت قنبلة للعدو على حافة الموقع، وأحدث انفجارها تفريغ هواء مفاجئاً وعنيفاً فى الحفرة التى كان فيها عبد المنعم رياض.
الفريق عبد المنعم رياض على الجبهة
كان الفريق رياض هو الأقرب إلى البؤرة التى بلغ فيها تفريغ الهواء مداه، وحدث له شبه انفجار فى جهاز التنفس، وحين انجلى الدخان والغبار كان رياض مازال حيث هو، وكما كان، إلا تقلصات ألم صامت شدت تقاطيع وجهه المعبر عن الرجولة، ثم خيط رفيع من الدم ينساب هادئاً من بين شفتيه، وتنزل قطراته واحدة بعد واحدة على صدر بذلة الميدان التى كان يرتديها بغير علامات رتب، كما كان يفعل دائماً حين يكون على الجبهة ووسط الجنود. ولم يكن لدى أطباء المستشفى فى الإسماعيلية وقت طويل للمحاولة، برغم أمل ساورهم فى البداية، حين وجدوا جسده كله سليماً بلا جرح أو خدش، لكنها خمس دقائق لا أكثر ثم انطفأت الشعلة، وتلاشت تقلصات الألم التي كانت تشد تقاطيع الوجه المعبر عن الرجولة، لتحل محلها مسحة هدوء وسلام، ورضا بالقدر واستعداد للرحلة الأبدية إلى رحاب الله.
ويضيف هيكل: “برغم كل هذه التفاصيل، فلم أكن قادراً على تصديق ما أسمع، وكان نفس السؤال المختنق باللوعة، والمشتعل باللهب مازال يتكرر صادراً من أعماق أعماق الوجدان: لماذا ذهب وهو أول من يعرف طبيعة ضرب المدفعية، ثم هو أول من يعرف أهمية سلامة رئيس هيئة أركان حرب الجيش فى أي جيش فى أي وطن؟ وكانت الدموع راحة وسكينة، بدا كل شىء بعدها أكثر جلاءً وصفاءً، كأن الشمس تعود بعد أن انقشع الضباب المتراكم للعاصفة، وبعد أن انقطع نزول المطر. كانت إجابة السؤال فى أذنى بصوت عبد المنعم رياض، كما سمعته يتحدث إلى بعد موقف من المواقف التى كاد الخطر يطبق فيها عليه، وكان ذلك قبل أكثر من عشرين شهراً، وقبل أن تبدأ معارك يونيو سنة 1967 بأيام قليلة.
لم تكن تلك المرة الأولى التي يجازف فيها رياض ويذهب بنفسه إلى الخطوط الأمامية في مواجهة العدو، حيث سبق له أن ذهب لذات المخاطرة قبل عامين من استشهاده، حاملا روحه على كتفه ومسدسه في يده، مقررا أن يصوبه إلى رأسه ويفرغ آخر رصاصة فيه قبل أن يسقط أسيرا في يد قوات العدو.
كان عبد المنعم رياض رئيساً لهيئة أركان حرب القيادة العربية الموحدة، ولما أحس باحتمال نشوب القتال على الجبهة المصرية، طلب أن يُعفى من انتدابه فى القيادة الموحدة، مقررا أن يعود إلى جيشه ليخدم فيه مادامت المعركة تلوح على الأفق، وتمت الموافقة على طلبه.
المشير أحمد إسماعيل وعبد المنعم رياض وجمال عبد الناصر
وفي ظهر يوم 27 مايو سنة 1967، سمع الأستاذ هيكل بنبأ بدا وكأنه كارثة، على حد تعبيره، حاول من نقله إليه أن يعطيه له على جرعات، قال له، أولاً: هناك دوريات مسلحة دخلت للاستكشاف فى الأرض الإسرائيلية”، فرد هيكل: “معقول، ومفهوم”، ثم قال له محدثه: يظهر أن عبد المنعم رياض دخل بنفسه مع إحدى هذه الدوريات. فرد هيكل: “هذه مخاطرة لا لزوم لها”. فقال له محدثه: لقد أعلن العدو حالاً أن إحدى الدوريات التى دخلت قد وقعت فى كمين العدو، ومن المحتمل كثيراً أن تكون تلك هى دورية عبد المنعم رياض، لأنها شوهدت وفق آخر تقرير فى نفس هذه المنطقة”. فقال هيكل وهو يكاد يفقد أعصابه: “هذا غير معقول ولا مفهوم!”.
ويتابع الأستاذ: “مضت ساعات والقلق فيها يعصر قلبى وقلوب غيرى ممن كانوا يعرفون بالاحتمال الرهيب الذى يمكن أن يتحقق فى أى ثانية ،إذا ما أعلن العدو أسماء الضباط من أفراد الدورية التى وقعت فى الكمين الذى نصبه. وأذكر يومها أننى كنت على موعد مع محمود رياض وزير الخارجية، وكنت أريد أن أناقش معه بعض تطورات الموقف السياسى، لكننا قضينا معاً أكثر من ساعتين فى ذلك اليوم وليس بيننا حديث غير حديث القلق على عبد المنعم رياض: هل كان ضمن الدورية التى وقعت فى أسر العدو، أو أنه لم يكن، ومازال يجوب وسط مناطق تحشدات العدو بجسارته المذهلة، لا يعرف ماذا فعل بأصدقاء له فى القاهرة عرفوا وعانوا. وفى المساء أعلن العدو أسماء ضباط وجنود الدورية التى وقعت فى أسره، ولم تكن دورية عبد المنعم رياض، وخفف القلق قبضته على القلوب، وإن لم يرفعها تماماً فى انتظار أن يعود عبد المنعم رياض أو تصل أخبار مطمئنة عنه.
الفريق عبد المنعم رياض وسط جنود
فى اليوم التالى اتصل رياض بهيكل ليطمئنه، وقال له: بلغنى أنك كنت عصبياً أمس.. فرد هيكل: لم أكن عصبياً فقط، ولكنى كدت أجن.
شرح هيكل لصديقه الأسباب التي دفعته إلى “الجنون” وقال له: لم يكن تفكيرى شخصياً فى كل ما شعرت به، لكننى لم أكن أتصور أن ينجح العدو – قبل أن يبدأ أى قتال – فى أسر رئيس هيئة أركان حرب القيادة العربية الموحدة؟ هل تتصور أثر ذلك على الروح المعنوية العربية عموماً، هل تتصور ما كان يمكن أن يحصل العدو عليه من معلومات منك، وأنت تعرف أن هناك حداً لصمود أى بشر أمام وسائل التعذيب الحديثة؟ فرد رياض قائلا: لم يكن ذلك كله غائباً عن بالى عندما خرجت مع دورية الاستكشاف، لكنى أحسست بضرورة الخروج هذه الأيام الثلاثة مع الدورية.
أخبر رياض هيكل بأنه كان ممسكا بمسدسه فى يده طول الوقت، “لم تغمض عينى ثانية واحدة، ولو قد أحسست باحتمال أن نلتقى بقوات للعدو، فلقد كان حتماً أن نقاتل حتى الطلقة ما قبل الأخيرة؛ لأنى كنت سأحتفظ بالطلقة الأخيرة ذاتها لنفسى، أفرغها فى رأسى قبل أن يحاول العدو أن يأخذ منى نتفة معلومات واحدة”.
وأخذ رياض يشرح أسباب إقدامه على تلك المخاطرة قائلا: كان يجب أن أخرج مع هذه الدورية بنفسى لأسباب. أريد أن أرى الأرض التى ستجرى من فوقها المعركة، ومع أنى أعرفها من قبل ومشيت عليها بقدمى بقعة بقعة، فلقد كنت أريد أن أستذكر بالنظر ما أعرف، لا شىء يعوض أن ترى بنفسك الأرض التى ستعمل عليها. والتى على ترابها سوف تتحدد الحياة أو الموت. ومن ناحية أخرى، فإنه فى بداية احتمال قتال بيننا وبين العدو، فلقد كان يجب أن نبعث ببعض الدوريات للاستكشاف. وفضلاً عن أية معلومات قد يعودون بها، فإن دخولهم يكسر رهبة اقتحام أرض للعدو فى بداية مواجهة خطيرة معه. ومن ناحية ثالثة، فلم أكن أتصور أن نقول للضباط والجنود: اذهبوا أنتم إلى الدوريات وعودوا إلينا هنا وقصوا علينا ما رأيتم، تفترق المسألة كثيراً إذا أحسوا أن القواد معهم فى المخاطرة.
رئيس الأركان الأسبق عبد المنعم رياض
واستطرد رياض: إذا حاربنا حرب جنرالات المكاتب فى القاهرة فالهزيمة محققة، مكان الجنرالات الصحيح وسط جنودهم، وأقرب إلى المقدمة منه إلى المؤخرة.
استسلم هيكل لوجهة نظر رياض وقال له: مهما يكن، فقد حبست الدم فى عروقنا ساعات! فرد ضاحكاً: “تعيش وتأخذ غيرها”! وعاش هيكل وأخذ غيرها وكتب رثاء رياض بعد تلك الواقعة بنحو عامين “لهفى عليه إنه لم يعش ليأخذ شيئاً، لكنه سيبقى دائماً مصدر عطاء لا ينفد لأمة تبحث عن المثل الأعلى، نفس بحثها عن السلاح الأقوى”.
استشهاد الفريق عبد المنعم رياض
عاش رياض واهبا حياته لقضية بلاده، لم يأخذ لنفسه شيئا ولم يترك وراءه شيئا سوى النموذج الذي أراد أن يقدمه لرجاله، لم يغير مسكنه الذى عاش فيه بمصر الجديدة وهو شقة من أربع غرف فى شارع جانبى صغير، كانت تشاركه فيها شقيقته، الأستاذة بكلية العلوم بجامعة عين شمس.
“لم يتزوج لأن السنوات التى كان يستطيع فيها الزواج قد انقضت وهو فى دراسات بعيدة أو فى مواقع خدمة فى المعسكرات، ولم تتزوج هى الأخرى، لأنها أحست أن واجبها خدمته، عُرض عليه منصب سفير فى تلك الأيام واعتذر؛ لأنه على حد تعبيره ضابط وابن ضابط، ثم إنه الآن لا يستطيع أن يترك شقيقته التى أعطته أحلى سنوات حياتها طواعيةً وحباً”، يقول هيكل.
قصيدة نزار قباني في رثاء عبد المنعم رياض
في اللقاء الأخير بين هيكل والرجل الذي أوكل إليه الرئيس جمال عبد الناصر مهمة إعادة بناء القوات المسلحة تحت أمرة الفريق محمد فوزي القائد العام بعد أن أصابها ما أصابها في حرب يونو 1967، قال رياض لصديقه: “لن نستطيع أن نحفظ شرف هذا البلد بغير معركة، عندما أقول شرف البلد، فلا أعنى التجريد هنا، وإنما أعنى شرف كل فرد، شرف كل رجل وكل امرأة”.
الرئيس جمال عبد الناصر والفريق عبد المنعم رياض
كانت جنازة رياض أكبر جنازة تشهدها مصر لرجل عسكري، “تحولت جنازة الفريق عبد المنعم رياض إلى ملحمة وطنية وتاريخية فريدة في حجمها ومحتواها شارك فيها الشعب وقواته المسلحة وعلى رأسهم الرئيس جمال عبد الناصر إلى مثواه الأخير داخل النصب التذكاري الضخم كرمز لشهداء مصر” بتعبير الفريق محمد فوزي القائد العام الأسبق للقوات المسلحة.
بعد الانتهاء من الجنازة أمر عبد الناصر بالثأر، وأصدر أوامره بالرد على اغتيال إسرائيل لرئيس أركان الجيش المصري حتى لا تتأثر معنويات الجنود والضباط في الجبهات القتالية، وفي يوم 19 مارس من عام 1969، كان العقيد إبراهيم الرفاعي مؤسس الفرقة 39 قتال، وهي فرقة قتالية تكونت من أفراد بالصاعقة المصرية، لتنفيذ مهام خلف خطوط العدو، قد استقر على خطته المحكمة للرد، وشرع في تنفيذها.
عبر الرفاعي مع جنوده خلف خطوط العدو ليلا، واحتل الموقع الذي أطلقت منه النيران صوب رئيس الأركان، وقتل كل من كان فيه وبلغ حجم خسائر العدو 44 عنصرا إسرائيليا بين ضابط وجندي، وتقدمت إسرائيل باحتجاج رسمي لمجلس الأمن بالأمم المتحدة، بسبب هول هذه العملية.
وقالت الشكوى إن الجنود المصريين قتلوا الإسرائيليين بوحشية غير معهودة في الحروب، ولم يكتف الرفاعي بذلك بل رفع العلم المصري علي حطام المعدية 6 بعد تدميرها، وبقي العلم مرفوعًا قرابة ثلاثة أشهر.
رحم الله الفريق عبد المنعم رياض الذي قدم النموذج والمثل في التضحية والفداء، وخط بدمه يوما للشهيد، بعد أن أصبحت ذكرى يوم استشهاده مناسبة يحييها المصريون كل عام للاحتفاء بكل شهداء الوطن وتضحياتهم.
جرافيكس: عبد الله إسماعيل
نص الفيديو جراف: بلال مؤمن