منوعات

أحمد بهاء الدين (2-3): صحفي صاحب مشروع تنويري كبير

كان لابد أن أحتشد للكتابة عن الأستاذ «أحمد بهاء الدين» كواحد من التنويريين العظام بإعادة قراءة الكثير مما كتب على مدار نصف قرن من العطاء الفكري والثقافي، وأستطيع أن أؤكد أن القارئ لهذا الميراث الثري ل”بهاء الدين” سيزداد اقتناعه ـ مع كل كتاب، بل مع كل مقال ـ بأن وراء هذا القلم السّيال مشروعا تنويريا كبيرا  انتظمت فيه كل كتاباته وكتبه. ولهذا السبب لم يكن من العسير على الذين تصدوا لمهمة جمع ميراثه الفكري ـ أن يجدوا عدداً لا بأس به من الكتابات، تنتظم كلها تحت عنوان واحد، هو “مشروعه التنويري» المنثور على صفحات المجلات والصحف والكتب التي حوت هذه الكتابات. ومع مراجعة عناوين تلك الكتابات والموضوعات والقضايا  تتبدى – بوضوح لا لبس فيه – عناصر وأساسيات ذلك المشروع النهضوي لصاحب القلم الذي لم يختلف عليه أحد.

قائمة التنويريين في الفكر العربي المعاصر تضم العشرات من القامات الكبيرة التي أسهمت في مد نهر التنوير بمياه جديدة ساعدت في أن تبقى شجرة التقدم مورقة وقابلة للنماء المتواصل. ضمن هذه القائمة مفكرون وفلاسفة وأدباء وشعراء وكتاب وفنانون مثل «طه حسين»، و«توفيق الحكيم»، و«زكي نجيب محمود»، و«لويس عوض»، و«ثروت عكاشة»، و«نجيب محفوظ» و«حسين فوزي» و«حسن حنفي»، وغيرهم عشرات المصابيح التي أضاءت سماءنا الفكرية والثقافية طوال النصف الثاني من القرن العشرين.

                   نجيب محفوظ         لويس عوض      زكي نجيب محمود         ثروت عكاشة          طه حسين

بعض هؤلاء جعل جُل تركيزه على ما هو «ثقافي» في مشروع نهضتنا، وبعضهم اشتط في الدعوة إلى الالتحاق بركب «الحضارة الغربية»، وبعضهم غالى في الدعوات الانعزالية والانغلاق على الذات الوطنية، بينما انكب آخرون على «التراث» يعيدون دراسته ويجمعون من بين ثناياه تلك العوامل التي كانت سبباً في ازدهار «الحضارة العربية الإسلامية»، وتلك الأسباب التي أردت الأمة في وهدة التخلف وكانت سبباً في انحطاطها. وبعض هؤلاء التنويريين ركز على قضية «تحرير المرأة» من أسر النظرة المتخلفة التي سادت في عصور الانحطاط، وجعلوها قضية مركزية في مشروعهم التنويري.

نظرة شمولية للتنوير

وسط هذه الكواكب المضيئة يقف اسم «أحمد بهاء الدين» شامخاً في الصدارة، وهو يكاد يكون صاحب مشروع تنويري متكامل، في قضية التراث له رأي متوازن، وفي مسألة مواكبة العصر والاستفادة من تطور الحضارة الغربية كان له اسهام متفرد، وفي مواجهة التحديات الجديدة والمستجدات المفروضة على الأمة كانت له رؤية واضحة، وفي قضايا تحرير المرأة  كانت له مواقف وآراء تقدمية، ورفض الانعزالية. وإلى جانب ذلك كله كانت له إضافات اختص بالتركيز عليها ونجح في إلقاء الضوء الكاشف عليها، ومنها قضايا وطنية واجتماعية وتنموية وحضارية كان له سبق الإشارة إليها وتحليلها وتقديم رؤية معمقة للتعامل معها.

Image result for ‫أحمد بهاء الدين‬‎

وإذا جاز لنا أن نعتبر «رفاعة رافع الطهطاوي» على رأس الجيل الأول للتنوير في مصر الحديثة، والشيخ «محمد عبده» أحد أهم رواد الجيل الثاني، والدكتور «طه حسين» على رأس الجيل الثالث لمدرسة الاستنارة في مصر الحديثة، فلن نجاوز الحقيقة إذا قلنا إن «أحمد بهاء الدين» هو، بمقاييس عديدة، أحد أعظم قادة التنوير في الجيل الرابع لهذه المدرسة، التي لم تتوقف عن إنجاب العديد من هؤلاء التنويريين الكبار على مر العقود.

امتلك «أحمد بهاء الدين» نظرة شمولية لمشروع التنوير بدأت من قناعته الراسخة بأهمية قراءة التاريخ، ودراسته، والوعي بحركته، واستشفاف قوانينه، والتعرف على دروسه المتجددة، وكتب كثيراً حول الفرق بين الأمم المتقدمة في ركب الحضارة التي لا تعترف بمقولة أن التاريخ يعيد نفسه، وبين الأمم المتخلفة التي تعيش في دوائر مفرغة ومتاهات فرعية، تعاني المشكلات نفسها التي عانت منها أجيالها السابقة. وهي قناعة ظلت تتردد في كتاباته، ويحرص على التأكيد على أهميتها.  ولعل كتابه الملهم «أيام لها تاريخ» يقدم النموذج الفذ للوعي بهذه القضية، فقد كان تعريف الانسان الذي يتبناه  هو أن «الانسان حيوان ذو تاريخ» يستطيع أن يستفيد من تجارب الماضي، ويتجنب زلات من سبقوه، ، وهذا هو مفهوم التقدم.

عروبي يرفض العزلة

يبدأ مشروع «بهاء الدين» من الأمة العربية ويشمل كل أقاليمها، فقد كان عروبياً بامتياز، وداعية إلى الوحدة العربية على أسس شعبية ديمقراطية، وعروبته كانت واحدة من أهم منطلقاته الفكرية التي آمن بها مبكراً، حتى قبل بزوغ التوجه القومي لثورة يوليو 1952، وظلت تشكل الأساس للكثير من مواقفه السياسية، ورفضه طول الوقت النزعات الشوفينية والدعوات الانعزالية.

ففي عام 1954 وقعت المساجلة الشهيرة بينه وبين الكاتب الكبير الراحل «إحسان عبد القدوس» على صفحات مجلة «روزاليوسف» التي انضم إليها «بهاء الدين» سنة 1952، وكان موضوعها سلسلة مقالات كتبها «احسان عبد القدوس» رئيس التحرير آنذاك، تحت عنوان «مصر أولاً» دعا فيها إلى أن يكون الاهتمام الاساسي بإحداث التقدم والنهضة في مصر أولاً قبل أن ننصرف إلى جمع خليط الأنظمة الحاكمة في دول العالم العربي.

أحمد بهاء الدين                                        إحسان عبد القدوس

 رد عليه «بهاء» بمقالة واحدة تحت عنوان «كلنا أولاً» ناقش فيها الأساس الفكري لموقف دعاة هذا التوجه الذي يمكن اختصاره في مقولة إن مصر التي سبقت جاراتها في مضمار التحديث والتقدم ،لن تكسب شيئاً من العرب وعليها أن ترتبط أكثر بالدول المتقدمة منبع العلم والصناعة، وقام «بهاء» بتفنيد تلك النظرة، بحجج حاسمة، وعدّد العوامل التي تجمع بين العرب ومنها اللغة والدين والموقع الجغرافي وتاريخ الخضوع للاستعمار التركي ثم الاحتلال الغربي. وهو ما جعل إحسان عبد القدوس يتراجع نسبياً عن تبني تلك  النظرة، فقام بالتعقيب على مقال «بهاء»، وأكد على أن: «الوحدة قضية مسلم بها لا ينكرها الا كافر او مجنون، ولكني عندما تكلمت ناقشت السبيل الى الوحدة -لا الوحدة نفسها-وقلت إن السبيل هو تنسيق المصالح بحيث تكون وحدة عربية، ولكي نبين وحدة المصالح يجب أن تفكر كل دولة عربية في مصالحها أولاً».

ساهم «بهاء الدين» في تنوير الرأي العام حول فكرة الوحدة العربية، وله في ذلك كتابات كثيرة، كأنها كتبت اليوم وفي ظروفنا الحالية، وكان دائم التأكيد على أننا في مواجهة مزدوجة تشمل التحديات الداخلية والخارجية معاً، وإن كان يعطي للمواجهة الشاملة مع التحديات الداخلية أولوية التركيز عليها لأنها في نظره مقدمة طبيعية لتحسين شروط مواجهتنا مع التحديات التي تأتينا من الخارج، أو تفرضها علينا القوى العالمية.

وظل يؤكد على أن الوطن العربي كان وما يزال في حاجة ماسة لصيغة تجمع قواه وتوحد مقاصده، وتُمتّن العلاقات البينية عبر مكوناته المتعددة، وهذا هو التحدي الذي تفرضه علينا مواجهة الخارج وتيارات وعواصف القوى الكبرى، قبل أن تفرضه عوامل الوحدة المتوفرة بين الأقطار العربية من وحدة اللغة والتاريخ المشترك وتكامل الجغرافيا.

وإلى جانب ذلك يبقى تحدي الحفاظ على استقلالنا القومي والوطني هو – في نظر بهاء الدين – أهم التحديات التي تفرضها علينا تيارات وعواصف القوى الكبرى الطامعة في ثروات العرب والطامحة إلى السيطرة على مقدرات وقرارات وسياسات كل الأقطار العربية.

Image result for ‫أحمد بهاء الدين والقومية العربية‬‎

التحديات الأوْلى بالمواجهة

برغم وعي «أحمد بهاء الدين» وتقديره لتلك التحديات المفروضة علينا من الخارج إلا أنه يؤكد على أن التحديات الداخلية والتي يسميها تحديات فينا، وفي نفوسنا، ومجتمعاتنا هي التي يجب أن يتم التركيز عليها وبذل الجهد والعرق والفكر في طرائق تطويرها وتغييرها ذلك أن «أمور الأمة العربية الداخلية وحياتها مع نفسها لو استقامت لتغير الموقف تماماً بالنسبة إلى كل شيء، حتى التحديات الخارجية سوف يتغير وضعها وسوف تسهل مواجهتنا إلى حد بعيد».

أهم هذه التحديات في نظر «بهاء الدين» ثلاثة: الديمقراطية وحرية الرأي والعقلانية. هذا الثالوث من القيم والمبادئ هو المقدمة الطبيعية لأي محاولة لتجاوز للأوضاع القائمة والقاتمة في ربوع وطننا العربي كله، فالمجتمعات في مشروع «أحمد بهاء الدين» الفكري والحضاري لا تتقدم بالقوة المادية وحدها، فكل مجتمع ناهض لم يحقق نهضته وتقدمه المادي إلا بعد أن استتبت لديه “قيم”، و”مؤسسات”، و”نظم” تسمح بقيام هذا التقدم المادي وتضمن استمراره على أساس متين.

ولقد تعلمنا من الأستاذ «أحمد بهاء الدين» أنه لابد أن تجري عملية تهيئة البيئة لأي تقدم مادي مأمول، والبداية من أن تستقر في وعي وضمير المجتمع قيم الديمقراطية وحرية الرأي وقبول الآخر مع العقلانية، وأن تستقر للشرعية قواعد مرسومة ومتفق عليها ومُتوافق حولها لا يمكن كسرها أو تجاوزها باعتبارها الأساس لكل بناء وتقدم ونهضة.

كل من تابع سيرة ومسيرة «أحمد بهاء الدين» على مدار نصف قرن من الكتابة والمساهمة في الشأن العام ، يدرك أنه هو  نفسه تجسيد حي للنموذج الذي حاول وظل يجاهد بالكلمة من أجل تكريسه في الواقع العربي الذي كان مهتماً به ومهموماً لأجله، وفي الواقع المصري الذي كان يعايشه عن قرب ويعيش فيه، وتؤرقه احباطاته وتراجعاته. وكما كان داعية لا تفتر همته من أجل الديمقراطية، فقد كان مثالاً لاحترام الرأي الآخر، وكتب يوماً يقول: «إن منع الرأي المخالف لرأيك بأي طريق من الطرق لا يخدم رأيك، إن كل النيران التي في الدنيا لا يمكن أن تلتهم رأياً واحداً، إذا كان هذا الرأي صائباً، ولعلها تخدمه إذا كان ضاراً. إن الطريقة الوحيدة هي أن تصطدم الآراء وتُناقَش علنا في حرية، إذا كنت تحب المجتمع أكثر مما تحب رأيك المنسوب إليك».

وكان بهاء الدين  نموذجاً حياً للعقلانية في المستوى الفردي، لكن التشدد في العقلانية لم يكن يلغي عنده  تأججاً في العاطفة، وهو نفسه يؤكد على أن «العقلانية» لا تلغي «العاطفة»، لأنها فيما يخص الشعوب أمر أساسي، ذلك أن حب الوطن عاطفة، وحب العدل عاطفة، ولكنه كان دائم التأكيد على أهمية أن نقرن التأثر بالعاطفة مع درجة كافية من «العقلانية» ليكون فكرنا وتصرفاتنا وسياستنا كلها قائمة على العقل والقلب معاً. وكثيراً ما كان يردد أن القضية المطلوبة والأهم تتمثل في أن نعيد للعقل مكانته في حياتنا العربية.

شروط النهضة

العقلانية والديمقراطية والشرعية هي شروط لازمة لأي نهضة تستهدفها أمة العرب ـ حسب مشروع «بهاء الدين» ـ وفي كلٍ منها تفصيلات كثيرة، وكتب في كل واحدة من هذه التفصيلات العديد من المقالات، وخصص لبعضها عدداً من الكتب، وظلت على مدار مشواره المهني والسياسي والفكري هي البوصلة التي حسمت توجهاته وقادت خطواته وأثَّرت على قراراته وأثرَت كتاباته.

وحين طلبت منه «دار الشروق» إصدار كتاب يجمع مقالاته آثر أن تضم دفتا الكتاب تلك المقالات التي تتناول موضوع شرعية السلطة باعتبارها موضوعاً يتصل، حسب ما جاء في تقديمه  للكتاب ،الذي جاء تحت عنوان «شرعية السلطة في الوطن العربي»، بقضايا ما زالت تعيش بيننا، ولعلها ستعيش معنا طويلاً، لأنها متعلقة بالأفكار والمبادئ الرئيسية التي لم يتوصل المجتمع العربي فيها إلى صيغة مُرضية للمواطن العربي، وسيبقى محل جدل حتى نجتاز «مرحلة الانتقال» التي نحن عليها، وحتى نجد الصيغة التي اصطلح على تسميتها «الأصالة والتجديد» التي بدأ النقاش فيها منذ أكثر من قرن، مع يزوغ حركة التنوير العربية في مصر.

«الشرعية» كواحدة من الأيقونات الثلاث في مشروع «بهاء الدين» بقيت لها أهمية خاصةـ بل أهمية قصوى، وهو يراها مفتاح نهضة الأمة وتقدمها، وهي في نظره البوابة الرئيسية إلى التقدم، وفي هذا يفرق «بهاء الدين» بين مفهومي الشرعية والقانونية، لأنها حسب الجوهر أوسع من الجانب الشكلي للقانونية وأعمق في مغزاها ومعناها. فاقتناع الشعب بأحقية السلطة وجدارتها هو جوهر «الشرعية» ومضمونها، هذا الاقتناع أو لنقل هذا الرضا الشعبي الذي لا يمكن الاستعاضة عنه بأي شكل من أشكال التسلط والترهيب والنفوذ، حتى لو جرت كلها في ظل ترسانة من القوانين والدساتير.

الفيديو جرافيكس

نص: بلال مؤمن

تحريك ومونتاج: عبد الله إسماعيل

محمد حماد

كاتب وباحث في التاريخ والحضارة

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker