مختارات

رائعة (خللي بالك من زوزو)

عام 1972، أي بعد هزيمة 1967 التي قلبت موازين وتوازنات المنطقة، ثم مرور ثلاث سنوات شاقة خلال بطولات حرب الاستنزاف التي استمرت حتى 1970. وانتهت حرب الاستنزاف بمبادرة روجرز وزير خارجية أمريكا وقتها. مبادرة أوقفت المعارك بين مصر وإسرائيل، فتمكنت مصر من بناء خط الصواريخ الشهير، والذي كان له دور مهم في انتصار أكتوبر 73.

استمرت أجواء الحرب غالبة وسُحب القلق من كثافتها تغطي سماء مصر، وتقلِق وتحير نفوس المصريين، فجرح الهزيمة كان بالغ العمق. وفي خضم كل هذا الهم، إذا بالموهوب مخرج الروائع حسن الإمام، يَخرج علينا بفيلم مبهج هز مصر بزلزال فني بقوة 9 درجات بمقياس ريختر! إنه الفيلم الرائع (خللي بالك من زوزو) وإذا بالفيلم يُفرح الناس وهم الحزانى، يبهجهم وهم التعساء، يضحكهم وهم اليائسون. الإمام وسعاد وحسين وكاريوكا وغانم وشفيق ونبيلة وغيرهم من فنيين، بالتعبير السينمائي العامي (كسروا الدنيا).

فيلم دخل تاريخ السينما المصرية من أوسع الأبواب، في وقت ظن فيه الجميع أن الأفلام الاستعراضية الكوميدية أغلقت أمامها الأبواب! قلت لك 9 درجات من ريختر. ومن حقي هنا أن استدعي الفنان يوسف وهبي، ليرتدي ملبس راسبوتين الرهيب ويتجهم ويصيح قائلا.. يا للهول!

سعاد حسني في هذا الفيلم، بينت أن من حقها التربع على القمة، فهي قدرة تمثيل كوميدي وتراجيدي واستعراضي راقص. قادرة أن تكون فتاة الطبقة المتوسطة، وببساطة تقوم بدور بنت الأحياء الشعبية، والقرى والريفية وبنت الذوات أيضا. متمكنة في الرقص الشرقي والفلاحي. تطلب منها أن تُغني فتبدع، السيناريو يقول ترقص، فترقص شرقي ولو حَبيت ترقص لك رقص الغوازي! إنها سعاد والأجر على الله. نشاهدها في فيلم (شفيقة ومتولي) ونتابع أغنية (بانو بانو على أصلكم بانو) كلمات رائعة ولحن رائع، أما أداء سعاد، فهو أداء عبقري. فهل من معارض؟

ولأن خللي بالك من زوزو فيلم في غالبة ضاحك راقص مُغنى، ثار عليه عدد من النقاد والكثير من الطلبة والشباب، واتهموه بأنه يلهينا عن الحرب! من اتهموا هذا الاتهام هم مصريون وطنيون بدون أي شك، وكالوا هذا الاتهام غيرة على الوطن، وغيرتهم صادقة، لكنهم مخطئون في رأيهم، فالفيلم لم يلهي الشعب عن حالة الحرب، ولا الفنون بكل أنواعها تلهي أي شعب عن البناء، حتى لو هذا الشعب في حالة هزيمة، وأرضه محتله مثلما كانت مصر, والدليل اننا انتصرنا في حرب أكتوبر 1973، أي بعد الهزيمة بسبع سنوات، وبعد خللي بالك من زوزو بسنة واحدة.

شاركتُ في حربي الاستنزاف والعبور، رتبتي كانت رفيعة المقام، عريف مقاتل. أي بشريطين على الكتف واللهم يبعد عنا الحاسدين. في ليلتنا الثانية بعد العبور، كنا على كثيب رملي. وفي الفجر التالي سنتقدم وندخل معركة نتوقعها حامية الوطيس ستأخذ منا أرواحا، ولا أحد منا يعرف هل سيكون من ضمن الشهداء، أم سيكون من ضمن المصابين، أم سيكون من ضمن الذين ستكتب لهم الحياة؟ حفرنا سريعا حفرا برميلية تقينا من شظايا مدافع إسرائيلية من نوع أطلقنا عليه لقب (أبو جاموس) وأبو جاموس قرر أن يقذفنا بدانة ثقيلة كل حوالي عشر دقائق، غرضه الخبيث، ألا ننام فندخل معركة الفجر ونحن مرهقون. ساعة ساعتين والدانات تضايقنا وأزيز الشظايا يتطاير فوقنا.

أنا وعدد منا تعبنا من الجلوس القرفصائي داخل الحفر. صعدنا وحفر كل منا مستطيلا عمقه لا يزيد شبرين فيتمدد على ظهره فيه. أعيننا على السماء السوداء. نلعن إسرائيل ومدفعية أبو جاموس، ونمزح سويا رغم شظايا الموت. فجأة وجدتني أدندن بصوت عال بأغنية من أغنيات عبد الوهاب القديمة، فإذا بزميلي الشهير سيد ذُنب (أي ذنبجي لئيم يشعل المعارك بين الناس) يشاركني الغناء! دانة تنفجر قريبا منّا فنغني.. (أهون عليك تزيد ناري) مع تحوير الكلمات لتكون لعنات على “أبو جاموس” زملاؤنا يضحكون ويشاركون في تركيب كلمات مناسبة، أغنية ثانية وثالثة والشظايا موسيقى متطايرة، ثم نتعب والنوم غلاب، رغم أن “أبو جاموس” ابن الـ.. مستمر.

وخلال سبع سنوات الحرب، كانت القوات المسلحة تقيم حفلات الترفيه للجنود، ومسابقات معرفية مفرحة. وفي كل مناسبة، سواء كانت مناسبة دينية أو وطنية، تصل للجنود نوعية معينة من الحلوى. أليس هذا نوع من منح البسمة للمقاتلين الباقين في ظروف صعبة؟ أليست أجازاتنا كمقاتلين، نوع من الترفيه لنستمر قادرين على التدريب الجدي المستمر، ولنكون في حالة بدنية ونفسية عالية وقت الحرب؟ ثم كان النصر.

هدف كلامي، أن الإنسان يحتاج للبسمة، لإبداع الفن والاستمتاع به، مهما كان إرهاقه وصعوبة حالته. ولننظر لحالنا كشعب مصري، النكتة مستمرة حتى في أصعب المواقف، ممكن أمطار النكت المنهمرة تقل غزارتها، لكنها مستمرة. ورغم مآسينا فنحن قادرون على الحب ونقيم الأفراح ونتزوج. على رأي أغنية منير (وأنا لسة قادر في الحزن أفرح).

وفيلم (خللي بالك من زوزو)، كان نتاج نفوس إنسانية، يجب أن تحافظ على قدر من ألانتعاش والبهجة لتواصل المقاومة، لتواصل القتال، فالذين لامو الفيلم مخطئين، والذين مدحوا فيه ولم يرفضوه كانوا على صواب، والجمهور المصري فرح بالفيلم وابتهج به فملأ دور السينما واضعا أكاليل الغار عليه.

نقلا عن: صفحة الكاتب على فيسبوك

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock